أسقط الكونجرس يوم الإربعاء ٢٨ سبتمبر ٢٠١٦ الفيتو الرئاسي على قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” (والمعروف اختصارا بجاستا). ولأن القانون صدر ضمن سياق تمكين المتضررين من أحداث الحادي عشر من سبتمبر من مقاضاة المملكة العربية السعودية، فقد صدرت الكثير من التعليقات حول هذا القانون، وسنحاول في هذه التدوينة الإجابة على الأسئلة التالية: ما هي جاستا؟ وما هو السياق القانوني والسياسي الذي ولدت فيه؟ وكيف نستطيع تقييم تبعاته السياسية والقانونية؟ وما هي آثارها على العلاقات السعودية الأمريكية؟
أولا: من الحصانة الدستورية إلى قانون حصانات السيادة الأجنبية
تعني الحصانة السيادية للدول الأجنبية، أن مواطني الدول المضيفة لا يستطيعون مقاضاة أو محاكمة الدول الأجنبية أو ممثليها. في السنوات الأولى لتأسيس الولايات المتحدة كانت هذه الحصانة مطلقة لدرجة أن المحاكم الأمريكية كانت ترفض حتى الحكم في قضايا يكون أطرافها تجار تابعين لدول أجنبية. فعلى سبيل المثال، في قضية ضد سفينة تجارية عام ١٩٢٦م ادعت الحكومة الإيطالية أنها تملكها، قررت المحكمة أن القضية لا تقع ضمن نطاق صلاحياتها طالما أن أحد الأطراف حكومة أجنبية، ورغم أن السفينة تجارية إلا أنها عوملت معاملة السفن الحربية التابعة للحكومة الأجنبية، وبالتالي تتمتع بالحصانة السيادية.
مع مرور الوقت، ومع تزايد التعاملات التجارية بين الدول، بدأت المحكمة الدستورية ووزارة الخارجية الأمريكية، ومنذ الأربعينيات الميلادية، بالتفريق بين الأنشطة التي يقوم بها منسوبو وأجهزة الدول الأجنبية والتي تأخذ طابعا خاصا (كالتجارة) وبين الأنشطة التي تأخذ طابعا عموميا (كأعمال السفارات والأنشطة الدبلوماسية). ففي الحالة الأولى يكون الفرد أو الجهة التابعة لحكومة أجنبية غير محصّن دستوريا. إلا أن التفريق بين الحالتين صعب، وكانت المحاكم تحيل إلى وزارة الخارجية للبتّ في ما كانت الحكومة في هذه القضية أو تلك خاضعة للحصانة السيادية أم لا. والسبب في الرجوع للوزارة لخصّه أحد قضاة المحكمة العليا باعتباره رغبة من المحكمة في عدم إحراج الجهاز التنفيذي في تعامله مع الحكومات الأجنبية.
إلا أن الرجوع لوزارة الخارجية في كل قضية لم يكن عمليا، ذلك أن قرارات الوزارة لم تكن متسقة وخاضعة لنمط واحد يمكن أن يؤسس إرثا وقاعدة قانونية محددة وواضحة. ولهذا السبب تدخّل الكونجرس في عام ١٩٧٦م ليحل المسألة عن طريق سن قانون واضح يفصّل في مسألة الحصانة الدستورية، وهو قانون “حصانات السيادة الأجنبية“، والذي أراد من خلاله الكونجرس تنظيم كل ما يتعلق بمقاضاة الدول الأجنبية في الأراضي الأمريكية. هذا القانون جعل الأصل أن الدول الأجنبية محصّنة سياديا من أن تُقاضى، ووضع استثناءات محددة تسمح للمواطنين الأمريكيين بمقاضاة الدول الأجنبية.
الاستثناءات الأولى
عندما صدر قانون حصانات السيادة الأجنبية، كان هناك ستة استثناءات تسقط الحصانة السيادية للدول الأجنبية، وهي كالتالي:
١- إذا الدولة الأجنبية نفسها تخلّت عن حقها السيادي.
٢- إذا كان نشاط الدولة تجاريا. (في عام ٢٠٠٤ رفعت شركة تدريبات وصيانة عسكرية أمريكية متعاقدة مع القوات الجوية السعودية دعوى ضد الحكومة السعودية بخصوص عقدين (أحدهما صيانة للطيارات، والثانية تدريب للطياريين) بسبب خلافات حول تفسير العقد، وقامت الحكومة باستخدام الحصانة السيادية لردّ الدعوى، فكان حكم المحكمة أن أحد العقود يعتبر تجاريا وبالتالي لا ينطبق عليه الحق السيادي، في حين أن الآخر ليس تجاريا وبالتالي ينطبق عليه الحق السيادي. وفي عام ١٩٩٤م رفع مواطن أمريكي تم اختطافه وتعذيبه من قبل حزب الله دعوى ضد الحكومة الإيرانية بحجة أن الخطف مقابل الفدية عمل تجاري، إلا أن المحكمة رفضت الدعوى واعتبرت إيران تتمتع بالحصانة السيادية).
٣- مصادرة الممتلكات بطريقة مخالفة للقانون.
٤- قضايا الضرر غير التجاري داخل الأراضي الأمريكية. (والمقصود بقضايا الضرر هي القضايا التي يطالب فيها المتضرر بتعويض من الشخص المسؤول عن الضرر. تختلف هذه القضايا عن القضايا الجنائية في عدة جوانب، لعل أهمها أن في قضايا الضرر يستطيع المتضرر أن يقدم دعواه بصفته الشخصية أو بتوكيل محامي خاص له، أما القضايا الجنائية فيجب أن يتقدم بها المدعي العام. فعلى سبيل المثال، عندما تدخل إلى مقهى وتشرب كوبا من القهوة، وكانت القهوة ساخنة إلى درجة أنها أحرقت لسانك، فأنت هنا تضررت، وتستطيع رفع دعوى تعويض على صاحب المقهى، رغم أن هذا الأخير لم يتقصد إيذاءك (أي لم يرتكب جريمة)، فمجرد إهماله أو تقصيره في إبلاغك بأن الكوب ساخن يتيح لك رفع قضيّة ضرر اتجاهه).
٥- التحكيم.
٦- الدعاوى المضادة.
استثناء الإرهاب… من عام ١٩٩٦م
في عام ١٩٩٦م، أضاف الكونجرس استثناء جديدا للقانون متعلق بموضوع الإرهاب، وجاء هذا الإستثناء ضمن سياق قوانين متعلقة بحادثة التفجير في مدينة أوكلاهوما عام ١٩٩٥م. منح هذا الإستثناء أسر وضحايا التعذيب وخطف الطائرات واحتجاز الرهائن وغيرها من الأعمال الحق في مقاضاة الدول الراعية لهذه الأعمال. وحتى يستطيع هؤلاء مقاضاة دولة ما يجب أن يتوفر في دعواهم العناصر المهمة التالية:
١- أن يكون الضرر إما إصابة جسدية أو وفاة (أي لا يشمل الدعاوى المتعلقة بتلف الملكيات الخاصة والخسائر الاقتصادية).
٢- يجب أن تكون الدولة مصنّفة من قبل وزارة الخارجية الأمريكية بأنها دولة راعية للإرهاب. (حسب القائمة ، هناك ثلاث دول مصنفة على أنها راعية للإرهاب: سوريا وإيران والسودان، وقبل ذلك كانت العراق وليبيا وكوريا الشمالية وكوبا ضمن القائمة).
٣- أن يكون الدعم الذي قدمته الدولة للجهة المنفذة للعمل الإرهابي: دعما ماديّا (أي تقديم أموال، توفير وثائق مزورة، إمداد بأسلحة…إلخ).
٤- أن يكون الدعم مقدما من جهة أو موظف أو مؤسسة تابعة للدولة وتم تقديم الدعم ضمن نطاق عمله أو عملها. (مثلا عندما يقوم موظف في السفارة بتمويل جهة إرهابية من ماله الخاص وقت عطلة الأسبوع فهو لا يقوم بذلك بصفته “موظفا في السفارة” بل بصفته الشخصية).
وفق هذا الاستثناء، رفع المتضررين الأمريكيين قضايا على الدول التي تنطبق عليها الشروط، وحكمت المحاكم ضد هذه الدول بدفع تعويضات هائلة. فعلى سبيل المثال، في عام ١٩٩٩م حكمت محكمة على القوات الجويّة الكوبية بتعويضات قيمتها حوالي ١٨٨ مليون دولار. وفي عام ٢٠٠٠م، حكمت محكمة على إيران بتعويضات قيمتها حوالي ٣٤٢ مليون دولار.
إلا أن لغة هذا الاستثناء لم تكن واضحة جدا، حيث رفضت محكمة قبول دعوى ضد إيران في عام ٢٠٠٤م بحجّة أن الإستثناء لا يسمح بمقاضاة الدول، بل فقط المسؤولين والجهات والمؤسسات التابعة للدول. بعد هذا الحكم، قامت عدة محاكم برفض دعاوى ضد دول مصنفة بأنها راعية للإرهاب بنفس الحجة، ففي عام ٢٠٠٧م تم رفض دعوى ضد إيران بنفس الحجة.
ونظرا لأن هذا التفسير الجديد قلّص من قدرة المواطنين من مقاضاة الحكومات الأجنبية الراعية للإرهاب، قام الكونجرس عام ٢٠٠٨م بتعديل جديد للقانون بحيث ينص صراحة على أن “يعتبر مسؤولا كل دولة أجنبية دعمت أو تدعم الأرهاب أو أي مسؤول أو تابع أو موظف لهذه الدولة أثناء قيامه بعمله بصفته الرسمية…”. وبهذا التعديل، أصبح بالإمكان مقاضاة الدول المصنفة ضمن قائمة الإرهاب.
جاستا… توسيع الاستثناء
منذ الحادي عشر من سبتمبر، جرت محاولات عديدة لمقاضاة المملكة العربية السعودية، لكنها كانت دوما تُرَدّ بحجة أن المملكة لم تُصنف من قبل وزارة الخارجية الأمريكية كدولة راعية للإرهاب. ولأجل تمكين المواطنين الأمريكيين من مقاضاة دول حالتها تشبه حالة السعودية (أي لم تصنف من قبل وزارة الخارجية بأنها راعية للإرهاب)، تم تقديم تعديل جديد لقانون حصانات السيادة الأجنبية اسمه جاستا. ماذا يقوم به هذا التعديل الجديد؟
١- يوسع تعريف الضرر، فلا يقصره على الأذى الجسدي والموت، بل يمدّه ليشمل الأضرار التي تلحق بالملكية. لكنه يحصره إقليميا بالولايات المتحدة الأمريكية. (أي إذا تعرض مواطن أمريكي لضرر خارج الولايات المتحدة الأمريكية فهو غير مشمول في القانون).
٢- أن يكون الضرر نتيجة إما أ- إرهاب دولي. (ويعرف الإرهاب الدولي في القانون الأمريكي بأنه أنشطة تتضمن أعمال والعنف والإجرام التي يكون هدفها ترويع المواطنين المدنيين، أو التأثير على السياسات الحكومية، أو التأثير على العمل الحكومي عبر التدمير والاغتيالات وغيره، ويحدث خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية)، أو ب- ضرر من عمل أو أعمال قامت بها حكومة أجنبية أو موظف أو جهة تابعة لها تعمل بصفتها الرسمية في أي مكان في العالم.
٣- أن يكون المتقدم بالدعوى مواطنا أمريكيا.
٤- لا تسقط الحصانة عن الدولة الأجنبية إذا كان الضرر نتيجة ترك أو إهمال. (المقصود بالترك هو عدم القيام بعمل حيث يتوجب القيام به. مثلا عندما تشاهد رجلا يغتصب امرأة، والقانون يقول أنه يجب عليك التبليغ عن الحادثة، ولكنك لم تبلغ عنها، فعدم فعلك هذا يعتبر “ترك” مجرّم. هذا مثال جنائي، المثال غير الجنائي هو أن تكون صاحب مطعم، وتعلم أن أحد زبائنك لديه حساسية من طعام محدد ولكنك لا تقوم بتنبيهه بوجود هذا الطعام، فهنا إذا تضرر الزبون بسبب الاكل فيحق له رفع دعوى ضدك، لأنك “تركت” القيام بأمر تعلم أنك بتركك له ستتسبب بضرر لآخر. أما مثال الضرر الناتج عن الإهمال فهو أن تكون صاحب مطعم وتغسل أرضية مطعمك بالصابون، ولا تضع لوحة تقول فيها أن الأرض زلقة، ففي هذه الحالة أي ضرر يصيب من يدخل مطعمك يتيح له مقاضاتك).
٥- يحقّ لوزير العدل (الذي يعينه الرئيس المنتخب) أن يطلب التحفظ على قضية وإيقاف اجراءاتها.
٦- يحق للمحكمة التحفظ على قضية خلال مدة لا تزيد عن ١٨٠ يوم إذا تعهّد وزير الخارجية بأن الوزارة تعمل على التفاوض مع الدولة المدعى عليها لحل القضية محل النزاع. ويمكن للمحكمة تمديد فترة التحفّظ إذا تعهد الوزير مرة أخرى بأن المحادثات لا زالت تسير بشكل إيجابي مع الدولة المدعى عليها.
٧- يشمل القانون كل قضية يتم التقدم بها بعد اعتباره قانونا نافذا، وتشمل كل قضيّة حدثت منذ الحادي عشر من سبتمبر من عام ٢٠٠١م.
ماذا يعني هذا التعديل؟
يعني هذا التعديل جملة أمور:
١- تقليص صلاحيات السلطة التنفيذية بشكل كبير. فقديما كان يجب أن تقوم وزارة الخارجية بتصنيف الدولة بأنها راعية للإرهاب حتى تتم مقاضاتها، لكن مع القانون الجديد لا حاجة لهذا التصنيف. وليس للجهاز التنفيذي من دور إلا في أمرين: ١- الأول أن تتعهد وزارة الخارجية بحل القضية دبلوماسيا ولفترة محددة، وإلا فإن القضية ستكمل مجراها في النظام. ٢- أن يتدخل وزير العدل ويطلب التحفظ عليها، وهذا الدور مبهم بالقانون وليس واضحا.
٢- يحصر القضايا بما بعد ١١ سبتمبر. (فمثلا لا يستطيع الناجين من الهولوكوست مقاضاة ألمانيا، لأن الحدث وقع قبل ١١ سبتمبر).
٣- يضع شروطا صعبة للمدّعي لإثبات أن الدولة الأجنبية دعمت هذا العمل الإرهابي أو ذاك. (يقلص معنى الضرر بحيث لا يشمل الترك والإهمال، ويطلب إثبات أن يكون الموظف أو الجهة كانت تعمل بصفتها الرسمية أثناء تقديمها للدعم).
٤- يوسّع مناط الضرر بحيث يشمل الأضرار المادية المتعلقة بالممتلكات وغيرها.
ثانياً: ما هي الآثار المتوقعة لجاستا؟
القانون الجديد يجعل من الممكن مقاضاة أي دولة في العالم، وليس فقط الدول المصنفة على أنها داعمة للإرهاب. والآثار المتعلقة به هي آثار مالية بالمقام الأول، والتي قد يسبب تفاديها قرارات سياسية مرتبطة بالعلاقات بين الدول والولايات المتحدة الأمريكية. فقد قدّر أحد الباحثين التعويضات التي قد تضطر دولة إلى دفعها إذا ثبت أنها مسؤولة عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر بأنها – كحد أدنى- ستكون بحدود الـ900 مليار دولار (ميزانية السعودية للعام الحالي تقدر بـ 224 مليار، وتقدّر ما تملكه السعودية في الولايات المتحدة الأمريكية بـ 750 مليار دولار ). إن النقطة الأولى لتقدير الآثار المترتبة على مثل هذا القرار، تكمن في الإجابة على السؤال التالي: ماذا حدث للأحكام الكثيرة التي صدرت بحق دول مثل إيران وكوبا، هل قاموا بدفع التعويضات؟ هل تم اقتصاصها من الأصول المجمّدة في الولايات المتحدة؟
المتتبع لهذه القضايا سيخلص إلى نتيجة مفادها أن السماح للمواطنين الأمريكيين بمقاضاة الدول الأجنبية شيء، وتمكين هؤلاء المواطنين من تحصيل التعويضات التي تحكم لهم المحاكم بها أمر آخر. فبعد إضافة الكونجرس للتعديل المتعلق بالإرهاب، حكمت محكمتين في أمريكا ضد كل من كوبا وإيران بدفع تعويضات، ومع امتناع الدولتين عن الاعتراف بشرعية المحاكمة، قرر المواطنين المستحقين لهذه التعويضات السعي للإستحواذ على أملاك هاتين الدولتين الموجودة في الولايات المتحدة. بعد ثورة فيدل كاسترو في كوبا في الستينات، تم تجميد كافة الأصول التي تعود ملكيتها لكوبا، وبعد أزمة الرهائن التي أعقبت الثورة الإسلامية في إيران عام ١٩٧٩م، تم تجميد الأصول التي تعود ملكيتها لإيران في أمريكا. حاول مستحقي التعويضات من إيران وضع يدهم على مبنى السفارة الإيرانية وغيرها من المنشآت الدبلوماسية وعلى بعض الأموال المستحقة لإيران من الحكومة الأمريكية. إلا أن حكومة الرئيس كلينتون رفضت الاستجابة لهذه الطلبات، مبررة رفضها بأن هذه منشآت سيادية وليست تجارية، وأن مصادرة الممتلكات الدبلوماسية يخالف اتفاقيات ڤيينا للعلاقات الدبلوماسية، وأن مثل هذا العمل قد يحفز ردود أفعال ضد المنشآت الدبلوماسية الأمريكية في بقية أرجاء العالم. أما بخصوص الأموال المجمدة، فقد رفضت حكومة كلينتون الاستجابة لطلبات دفعها للمستحقين، مبررين ذلك بأن هذه الأموال تعتبر أداة ضغط دبلوماسية ضرورية للتعامل مع هذه الدول.
وكردة فعل على هذه الممانعة من قبل السلطة التنفيذية، قام الكونجرس بإصدار تعديل على القانون المتعلق بالحصانة السيادية يجبر السلطة التنفيذية على منح الأموال المجمدة التي بحوزتها للمتضررين، إلا أن التعديل منح الرئيس حق عدم القيام بذلك إذا كان الأمر يمسّ الأمن القومي الأمريكي، وبمجرد نفاذ القانون قام كلينتون باستخدام هذا الحق. إلا أنه في عام ٢٠٠٠م، قام الكونجرس بإصدار قانون يجبر السلطة التنفيذية على دفع مستحقات متضرر واحد من كوبا، ومستحقات عشرة متضررين من إيران، وبعد شد وجذب بين السلطتين، تم دفع قرابة ٩٧ مليون دولار إلى متضرري كوبا من الأموال الكوبية المجمدة، أما بالنسبة لإيران، فقد تم دفع ٣٥٠ مليون دولار لمتضرري إيران، لكن ما يثير الإهتمام أن المبلغ جاء من الخزينة الأمريكية وليس من أموال إيران المجمدة، حيث كلّف الكونجرس السلطة التنفيذية بتحصيل المبلغ من إيران.
بعد ذلك، حكمت المحاكم الأمريكية بتعويضات لمزيد من المتضررين الذين لا يستطيعون تحصيل مستحقاتهم، مما أدى للبدء بدورة جديدة من الضغط على السلطة التنفيذية من قبل الكونجرس باتجاه تسليمهم حقوقهم. في عام ٢٠٠٢م، أصدر الكونجرس تشريعا جديدا يصعّب من قدرة الرئيس على منع مطالبات المتضررين من الإستفادة من الأصول المجمدة. فعوضا عن اعطائه الحق في إيقاف أي مساس بالأصول المجمدة، قام الكونجرس بإعطائه الحق بأن يوقف المساس بكل أصل على حدة، وليس عليها كلها جميعا. وحتى عندما يستخدم هذا الحق، فإن الرئيس بإمكانه حماية بعض الأصول الدبلوماسية وليس كل أنواع الأصول الأخرى. رغم كل هذا التقليص لصلاحيات السلطة التنفيذية، إلا أن هذا التشريع لم يساعد المتضررين بتحصيل الأموال التي حكمت المحكمة أنهم يستحقونها. وفي عام ٢٠٠٨م، أجرى الكونجرس تعديلا جديدا لقانون حصانات السيادة الأجنبية، وفي هذه المرّة نص صراحة على أنه “لن تصبح أي ملكية تابعة لدولة أجنبية في الولايات المتحدة الأمريكية محصنة من أن تصادر في حال صدر إزاءها حكم من المحكمة”. ومع ذلك، لم تقم السلطة التنفيذية بتسليم المتضررين ما حكمت لهم المحكمة من مستحقات، إلا أن المتضررين استطاعوا وضع أيديهم على بعض الأملاك غير الدبلوماسية التابعة لكوبا أو لبنك تملكه الحكومة الإيرانية هنا وهناك.
تعتبر إيران وكوبا أكثر دولتين تمت محاكمتهما في أمريكا في تهم ضد الإرهاب. فعلى سبيل المثال، تبلغ المبالغ التي حكمت المحاكم الأمريكية على إيران أن تدفعها للمتضررين بقرابة الـ٥٠ مليار دولار. وهذه الحقيقة تمثّل عائقا رئيسيا باتجاه تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وهاتين الدولتين. فبعد الإتفاق النووي مع إيران وزيارته الأخيرة لكوبا، استطاع الرئيس الأمريكي أوباما تحقيق خطوات واسعة نحو تطبيع العلاقات، إلا أن ملف الأحكام ذات المبالغ الهائلة ضلّ عائقا نحو إتمام هذا التطبيع. ذلك أن هذه الأحكام تؤثر على العلاقات بين البلدين بطرق مختلفة، أهمها منع التبادل الاقتصادي بين البلدين.
خاتمة: هل جاستا خطرة على العلاقات السعودية-الأمريكية؟
كما يتضح من هذه الجولة القانونية، فإن أي ادعاء بامتلاك جواب واضح سيكون محل شك. لكن بالإمكان الإجابة على أسئلة مهمة تساعد في تقدير خطورة هذا التشريع على هذه العلاقات:
أ- هل يمكن الحكم على السعودية حتى لو كانت غير مسؤولة عن الحادي عشر من سبتمبر؟
الجواب: نعم. فهذه المحاكمات مدنية وليست جنائية، وهي لا تحكم هل هذه البلد تسبب بعمليات ١١ سبتمبر أم لا، بل تحكم بهل ساهمت بالأضرار- حتى مع عدم وجود القصد الجنائي- التي تسببت بها أعمال ١١ سبتمبر. فعلى سبيل المثال: قامت شركة أميركان إيرويز بدفع ١٣٥ مليون دولار في تسوية لقضية مرفوعة ضدها تحملها الأضرار الذي تسبب بها عدم منعها للأحداث من الوقوع. فالشركة ليست مذنبة، ولكن تمت محاكمتها.
ب- لو فرضنا أنه تم الحكم على السعودية، هل هناك آليات للمتضررين للحصول على الأموال؟
كما وضحنا سابقا، الحكم على السعودية: شيء، وتحصيل المبالغ: شيء آخر. ويجب التفريق بين أنواع متعددة من أملاك الحكومة:
١- الأملاك الدبلوماسية، وتشمل المباني والعقارات الدبلوماسية والأملاك الخاصة التابعة للموظفين الدبلوماسيين، فهذه غالبا محمية باتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.
٢- أما الأملاك الأخرى، فحسب الاستعراض السابق، نجد أن القوانين والكونجرس وبعض المحاكم تميل إلى الدفع باتجاه تسهيل وإزالة الموانع لصالح المتضررين نحو تحصيل الأموال. والمشكلة هنا أنه لا توجد سابقة لدولة ذات حالة مشابهة للسعودية حتى نستطيع القياس عليها، وغالبا ستكون السعودية أول دولة ستتم مقاضاتها ضمن هذا القانون الجديد.
٣- القانون الجديد يمنح السلطة التنفيذية ممثلة بوزارتي العدل والخارجية بعض السلطة في التدخل و وتجميد القضايا المرفوعة، لكن حسب الاستعراض السابق لمسيرة الكونجرس في مثل هذه القضايا، فمثل هذه الحمايات المؤقتة قد تزول في أي لحظة.
٤- بعد الثورة الإيرانية، تم احتجاز بعض الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران كردة فعل على استضافة الولايات المتحدة للشاه الإيراني المخلوع. في عام ١٩٨١م، سعت الجزائر للمساعدة في حل أزمة الرهائن، حيث اتفقت أمريكا وإيران على أن تقوم الأخيرة بتسليم الرهائن مقابل أن تقوم الأولى بمنع مقاضاة إيران في المحاكم الأمريكية والإفراج عن الأموال المجمدة. بعد أن وقّع الرئيس الجمهوري ريجان هذه الإتفاقية، قام بعض المواطنين الأمريكيين برفع قضية على الرئيس بأنه لا يملك صلاحية دستورية تجعله يمنع المواطنين من رفع دعاوى ضد إيران. وصلت هذه القضية إلى المحكمة العليا، حيث حكمت بأن الرئيس يتمتع بصلاحية من هذا النوع. تم استخدام هذه الصلاحية مع كل من ليبيا والعراق حيث توصل الطرفان على تسوية محددة تعهدت الحكومة الأمريكية بالغاء كافة الدعاوى المرفوعة أو المستحقة ضد البلدين.
ج- لماذا تم تمرير هذا القانون الآن؟ هل هناك مؤامرة ضد السعودية؟
كما تبيّن من المناقشة السابقة، فمثل هذه القوانين يؤثر عليها أمران:
١- صراع بين الكونجرس والسلطة التنفيذية: فالسلطة التنفيذية تمانع شرعنة مثل هذه المحاكمات، ذلك لأنها تريد أن تثبت للدول الأخرى مصداقيتها وأنه يمكن الاعتماد عليها في علاقاتها معهم، كما أنها ترفض تبديد الأصول المجمدة لهذه الدولة أو تلك لما فيها من فائدة في المفاوضات والضغط السياسي. أما الكونجرس فأولوياته تتمثل في رفع تكلفة أي عمل يهدد المواطنين الأمريكيين، وتعويض الضحايا وذويهم عن الأضرار التي أصابتهم.
٢- بالإضافة لاختلاف الأولويات هذه، فإن هذه القوانين المتعلقة بالإرهاب تحظى بشعبية كبيرة متجاوزة للحزب، مما يجعل من التصويت لصالحها والسعي فيها مفيدا لأعضاء الكونجرس من أجل كسب دورة انتخابية ثانية. فعلى سبيل المثال، ليس مصادفة أن يمرر جاستا فقط قبل شهر من موعد الدورة الانتخابية القادمة.
الله الله ……………. ما شاء الله يا دكتور ……. بجد دراسة وافية ومستوفية لكافة جوانب الموضوع …….
شكرا جزيلاً
يجب ان تتعلم السعودية من ايران كيفية التعامل في الملفات الشائكة
فامريكا لا تحترم الا منطق القوة ولي الذراع؛ فيجب التعامل معها بذات المنطق
ولتعلم السعودية ان الايادي المرتعشة ستكلفها مزيدا من مليارات الدولارات للسفاح الامريكي
مقالة جيدة وان كانت معظمها ترجمة عن تاريخ المحاكم مع العلاقات الاميركية الدولية. أضيف ملاحظة مهمة وهو انه تجوز محاكمة ايران لانها على قائمة الارهاب. ليبيا فقد تمت محاسبتها عبر الامم المتحدة. اما السعودية فلا تنطبق عليها وهذا ما جعل جاستا حالة شاذة ومخالف لاتفاقية وستفاليا عام 1648