أعواد قش مجلّة متخصصة بنشر مقالات الرأي في كافة مجالات الفكر وتحليل السياسات ونقد الخطابات السائدة والمنتجات الثقافية. نقصد بمقالة الرأي نوعاً محدداً من المقالات التي يحاجج فيها الكاتب عن موقف محدد من موضوع ما. فهي ليست مقالة وصفية تصف الوقائع والحقائق والآراء في موضوع ما وصفاً تفصيلياً، بل تتخذ رأياً واضحاً مدعوماً بالأدلة والبراهين في هذا الموضوع.
في هذه المقالة، نستعرض مكونات مقالة الرأي الثلاثة (المقدمة، والمتن، والخاتمة) ونقوم بتوضيح أهم العناصر الذي يجب أن يحويه كل مكوّن بشكل تفصيلي، وسنتخذ من مقالة “طالبان في طريق الحداثة” المنشورة في أعواد قش نموذجاً لتوضيح هذه المكونات.
المكوّن الأول: المقدمة
تعتبر المقدمة أهم مكونات مقالة الرأي، فنجاح الكاتب فيها يضمن له بقاء القارئ مهتماً بقراءة بقيّة المقالة. فما الذي يدفع قارئاً لتخصيص وقته الثمين لقراءة مقالتك؟ هنا تأتي الوظيفة الصعبة للمقدمة: فهي يجب أن توضح موضوع المقالة، ولماذا هو مهم؟ وما هو الرأي الذي تحاجج عنه؟ وحتى تنجح المقدمة بتأدية هذه المهمة، فيجب أن تحوي على مكونين رئيسيين: سياق الموضوع، والدعوى الرئيسية.
١- سياق الموضوع:
قبل أن تقول رأيك في موضوع ما، فإن عليك أن تشرك قارئك في الموضوع، وهنا يكون استعراض السياق بشكل مختصر وواضح وجذّاب مسألة بالغة الأهمية، وذلك لأن المقالة تقدم رأيك للقارئ بدون حضورك، فلست موجوداً للإجابة على أسئلة واستفسارات القارئ. لهذا السبب يجب أن تفترض عدّة افتراضات متناقضة عن القارئ. الفرضية الأولى، ونسميها فرضية الجاحظ، فهو يقول “ينبغي لمن كتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالم بالأمور، وكلهم متفرغ له“. فإذا افترضت أن قراءك أعداء لك، فهذا يعني أنهم لن يحسنوا الظن فيما تكتب بل سيفسرونه أسوأ تفسير ممكن، وهذا يدفعك لأن توصل المعنى الذي تريده بشكل شديد الوضوح وعال الدقّة، وإذا افترضت أن قراءك يعلمون بالموضوع الذي تكتب به أكثر منك، فهذا يدفعك لأن تتأكد من صحّة كل ما كتبت. أخيراً، إذا افترضت أنهم متفرغون لك، فلن تعوّل على انشغالهم بأن لا يدركوا خللا هنا أو هناك في مقالتك، لذا عليك أن تراجعها عدة مرات قبل نشرها، وتقرأها بعين عدوك العالم المتفرغ وليس بعينك أنت وقد قالت العرب : ” من ألف فقد استهدف ” أي جعل نفسه هدفاً للنقد.
أما الفرضية الثانية، فهي معاكسة لفرضية الجاحظ، ويمكن صياغتها بالشكل التالي: “ينبغي لمن كتب كتاباً، ألا يكتبه إلا على أن الناس ليسوا له أعداء، وكلهم جاهل بالأمور، وكلهم منشغل عنه”. وهذه الفرضية تدعوك، من جهة، لأن تبالغ بتبسيط أفكارك وعرضها بوضوح بدون تعقيد وتقعّر، وألا تطلق الكلام على عواهنه بل تقيّده بشكل واضح، وألا تعوّل على ذكاء وفطنة القارئ، بل عليك أن تأخذ بيده خطوة بخطوة عبر محاججتك. ومن جهة أخرى، فإن هذه الفرضية تدعوك لأن تقوم بهذا كله مفترضاً أن قارئك مشغول جداً ولن يعطيك وقتاً كثيراً، فعليك أن تثير اهتمامه، وتدفعه لقراءة كامل المقالة، وتقنعه برأيك، بوضوح وبدقة وبلغة بسيطة، كل هذا بشكل مختصر. مهمة صعبة، أليس كذلك؟ لكن تذكر أن هذا ما يجعل الكتابة شكل من أشكال الفنون.
٢- دعوى المقالة:
نقصد بدعوى المقالة عبارة مركّزة وواضحة ومحدّدة حول الرأي الذي ستدافع عنه في المقالة. هذه العبارة هي الركن الرئيسي للمقالة، وعدم وجودها في المقالة يعني فشلها وعلامة على أن الكاتب لا يعرف بشكل محدد ماذا يريد أن يقول. فهذه العبارة تمثّل خارطة الطريق بين الكاتب والقارئ، فبقراءتها يعرف القارئ موقف الكاتب في الموضوع، ويتوقع أن بقية المقالة كلها سيكون مخصصاً للدعم هذه العبارة والمحاججة عنها.
ومن الأخطاء الشائعة عند الكتاب هو أنهم يخلطون بين تلخيص دعواهم وبين تقسيم المقالة. فهذه العبارة مثلاً: “في هذه المقالة سأعقد مقارنة بين رأي سعد ورأي زيد بموضوع كتابة المقالات”. هذه العبارة ستخبرنا ماذا ستفعل، لكنها لا تخبرنا ما هي دعواها. فالعبارة الصحيح تكون كالتالي: “سعد يرى أن كتابة المقالات يجب أن تكون بلغة معقدة وغير واضحة، في حين أن زيد يخالفه الرأي ويشدد على البساطة والوضوح”. هذه العبارة صحيحة لأن فيها دعوى واضحة يمكن منازعتها. فقد ينازع القارئ في تأويل الكاتب لرأي زيد ورأي سعد ويرد عليه بأن سعد لا يرى ذلك أو أن زيدا لا يختلف عن سعد في رأيه. هذه القدرة على توليد المنازعة تنبع من كون العبارة اتخذت موقفاً.
المقدمة في المثال:
بدأ الكاتب مقالته بسياق الموضوع، وهو سيطرة حركة طالبان على الأراضي الأفغانية بعد الإنسحاب الأمريكي. ثم بعد ذلك حدد السياق بدقة أكثر عند تناوله لرأيان سائدان في الساحة العربية حول هذه الحادثة. وبعد أن أوضح سياق وموضوع مقالته، قدّم دعواه بعبارة واضحة ومحددة ومختصرة من هذين الرأيين، كما هو مبين في الصورة أدناه.
المكوّن الثاني: متن المقالة
متن المقالة هو كل ما يأتي بعد المقدمة ووظيفته الرئيسية تفصيل وإثبات الدعوى الرئيسية الموجودة في المقدمة. إن أهم سمتين للمتن الجيّد للمقالة هما: ١- التماسك المنطقي. ٢- الارتباط المباشر بالدعوى الرئيسية. فالمتن غير المتماسك الذي لا يستطيع من خلاله القارئ فهم تسلسل أفكار الكاتب هو متن سيئ. والمتن المتماسك المحتوي على أفكار وآراء بعيدة عن الدعوى الرئيسية للمقالة هو متن سيء أيضا.
والطريقة التي يكون فيها المتن متماسكا ومرتبطا بشكل مباشر بالدعوى الرئيسية للمقالة هي تقسيمه عدة فقرات بحيث تخصص كل فقرة لفكرة واحدة فقط، وتكون هذه الفكرة مرتبطة بشكل مباشر بالدعوى الرئيسية للمقالة.
وحتى يضمن الكاتب أن المقالة متماسكة منطقيا، يجب أن تبدأ كل فقرة بجملة توجيهية. والمقصود بالجملة التوجيهية هو جملة تقوم بربط هذه الفقرة بما قبلها، وتشير للفكرة الرئيسية التي ستحتويها. وبهذا يستطيع القارئ بقراءة الجمل التوجيهية في بداية كل فقرة من فقرات المتن معرفة اتجاه المقالة وارتباطها ببعضها.
الآن سنعود للمثال السابق، لنشرح كيفية تطبيق هذه الأفكار حول كتابة متن جيّد للمقال:
المكوّن الثالث: الخاتمة
عادة ما تخصص الخاتمة لإعادة تلخيص المحاججة الرئيسية، لكن يفترض بها أن تفعل أكثر من ذلك. ففي الخاتمة، يجري الانتقال من الموضوع نفسه لأبعاد وآفاق أوسع تجعل القارئ يفكر بما قرأه من زاويا مختلفة. وفي المثال نرى كيف ختم الكاتب مقالته: