“من البديهي أن كل ظهور جديد للناس يحتاج إلى كلمة جديدة، سواء جرى صياغة كلمة جديدة للتعبير عن التجربة الجديدة أو تم استخدام كلمة قديمة وجرى إعطاؤها معنى جديداً تماماً. وهذا صحيح أكثر بالنسبة إلى الجانب السياسي من الحياة، حيث يسود الكلام سيادة مطلقة.”
أحدث الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وما تلاه من سيطرة شاملة لحركة طالبان على الأراضي الأفغانية انفجارا في النقاشات العامة في العالم العربي. ومن بين المداولات المتعددة لهذا الحدث كان هناك نقاش حول حركة طالبان بوصفها حركة عودة للماضي. وعلى الرغم من أن هناك رأيين حول هذه المسألة ، رأي يؤمن بأنها عودة إلى الأمجاد في عصر الإسلام الذهبي، وآخر يتهمها بالتخلف والرجعية إلا أنني أدعي أن كلا الفريقين يتفقان في الجوهر وإن اختلفا في المظهر. وأصل الاتساق هو نظرتهما إلى طالبان بوصفها حركة تقليدية / رجعية قادمة من الماضي وتبتغي بعثه من جديد. وهذه نظرة خاطئة، فطالبان حركة حداثية وليست قادمة من الماضي.و سأستعرض فيما يلي هذين الرأيين وأبين اتفاقهما وكذلك خطأهما .
أصدر د. حاكم المطيري بيانا أشار فيه إلى ضرورة ما سماه مشروع ” الأمة الواحدة ” ودعا فيه ” الشعوب الإسلامية ” إلى أن تتحد وتتعاون للتخلص من الحكم الصليبي والوثني كما سماه . ولا يمكن للقارئ إلا أن يدهش من طريقة تناوله للموضوع ولحركة طالبان، واعتبارها مشروعاً أممياً متجاوزاً للقوميات / الوطنيات ومناهضاً للنظام العالمي ، حيث أكد على أن الاعتراف الدولي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن لا قيمة لهما أمام استقلال الأمة الإسلامية ، فهو لا يستخدم مصطلحات كالأمة الأفغانية أو الدولة الأفغانية ، أي أنه لا يعترف بأن طالبان حركة أفغانية بل يرى أنها حركة إسلامية كونية. ويؤكد على أن الوجود الأمريكي في أفغانستان حملة صليبية مستمرة من القرون الوسطى ، وليس احتلالاً وتعدياً على السيادة الوطنية لدولة ما. وهذا يدل على أنه يرى أن العالم القائم هو ذاته العالم الذي نشبت فيه الحروب الصليبية ، وأنه يقسم العالم تقسيماً دينياً بين مسلمين ومسيحيين وغيرهم . علماً أن طالبان أكدت مراراً أنها حركة أفغانية تسعى لإنهاء الاحتلال الأجنبي واستعادة سيادتها.
وليست هذه النظرة مختلفة عما قدمه الكاتب عبدالرحمن الراشد في مقالة له ، حين شبه طالبان بالحركات الإسلامية الأخرى المعادية للحداثة ” قادة طالبان ومقاتلوها في ثيابهم وهيئتهم يبدون أكثر وضوحا من بقية الجماعات الإسلامية المستترة بالحداثة “. وبغض النظرمن مشابهة كلامه لذلك الرأي العنصري الذي يرى أن المجتمع العربي متخلف وغير حداثي لأنه يتخذ اللباس العربي التقليدي للرجل والمرأة بدلاً عن البدلة الرسمية والتنانير القصيرة ، فإننا نرى تأكيده على عدم حداثة طالبان صراحةً بوصفها حركة قروسطية ، أيّ أنها حركة تقليدية لا ترى العالم بمنظور حداثي كالقوميات والدول الوطنية بل على أساس الإيمان والكفر.
يظهر مما سبق وكأن المطيري والراشد هنا يناقشان داعش وتنظيم القاعدة لا حركة طالبان، فداعش وقبلها تنظيم القاعدة – على الرغم من اختلافهما – هما الحركات الإسلامية التي ترفض صراحةً النظام العالمي والدول الوطنية، وتقيم شرعيتها على أساس الدين لا على فكرة التمثيل القومي لأمة ما، فالقاعدة لم تسمي نفسها دولة وطنية لجماعة وطنية/قومية لدلالة اللفظ على الحداثة، بل اتخذت اسم تنظيم القاعدة. وقدم زعيمها أسامة بن لادن مبايعته للإمارة الإسلامية في أفغانستان (دولة الخلافة، ٦٥)، مما يعني أنها لم تعترف بذاتها كدولة أو ككيان سياسي حديث، أما تنظيم داعش فقام بإنتاج ما هو مختلف وهو دمج/خلط المفاهيم الحداثية والتقليدية بكيانٍ أسمته دولة العراق الإسلامية ٢٠٠٦م (٧٢). ثم إعلان دولة الخلافة ٢٠١٤م. والذي قدم ذاته كمشروع إسلامي مختلف ومغاير للواقع الدولي والنظام العالمي ومفاهيمه، ليست طالبان والتي تتحدث باسم الأمة / الشعب الأفغاني وعن الدولة الأفغانية واحترام سيادتها شبيهة بهذه التنظيمات والكيانات السياسية، فطالبان لا تعترف فقط بالدولة الوطنية والأمة الأفغانية ، بل تدعي أنها ممثلة لهم من جهة، وتمايز بين الأمة الأفغانية ونظيراتها على أساس قومي.
على الرغم من أن الكثير من الحركات الفكرية والسياسية تسعى إلى تغيير النظام العالمي ، من خلال تفكيك بنيته الأساسية القائمة على الدولة الحديثة والأمة والرأسمالية ، كالشيوعية والاناركية وغيرها، إلا أن طالبان لا تدعي ذلك، فهي تؤكد على قبولها بالدولة الحديثة وعلى مفهوم الأمة الافغانية فيما يبقى النظام الرأسمالي السائد موضع تساؤل لم تجب عنه بعد.
إن المطيري والراشد كلاهما يستنطقان طالبان بما لا تنطقه، بل بما تنطق عكسه. فمن الواضح من بياناتها وتصاريح زعمائها أنها لا تسعى إلى بناء منظومة حكم مختلفة عن النظام السياسي القائم ( الدولة الحديثة ) وكذلك قبولها وتمسكها بمفهوم الأمة الأفغانية وحقها بالسيادة وطرد الاحتلال الأجنبي من على أراضيها. فيما يدعي المطيري بأنها امتداد للفقه الإسلامي والنظرية السياسية الإسلامية المتناقضة مع الدولة الحديثة والساعية لاستبدالها. يينما يتضح جلياً أن طالبان وعلى عكس داعش، تقبل بمفهوم الأمة الوطنية والدولة الحديثة، بل يمكن الادعاء أنها تستخدم أدوات الدولة بإفراط من خلال الرقابة وضبط العنف وإرساء القوانين. إن هذا لا ينفي خيالات الإثنين فقط ، بل يؤكد عكسها من خلال الممارسة الواقعية.
إن الحديث عن مفاهيم كالحداثة والسيادة والشعب لهو أمرٌ يستدعي كتابات مطولة. ولكنني سأحاول ما استطعت تقديم هذه المصطلحات لتبيان معناها الحقيقي، فما أحاول تقديمه هنا هو تقديم تمايز جذري بين ما هو قديم وحديث من جهة. وفك للارتباط الحاصل بسبب خلط المصطلحات من جهة أخرى جراء تناول التاريخ على أنه حركة مترابطة عضوياً دون إدراك لتحوّل المفاهيم وتبدلها. وأبسط وسيلة للقيام بذلك هو الرجوع إلى المصطلحات كالدولة والشعب والأمة والسيادة في المعجم العربي/الإسلامي بشكل موجز. لتقديم المصطلحات وفقا لسياقها التاريخي ، فمصطلح الدولة ذكر لأول كمفهوم سياسي عام ٩١هـ = ٧١٠م للإشارة إلى الحكم وأهله آنذاك كما في حالة الدولة الأموية والعباسية وغيرها. وما عناه مصطلح آنذاك هو الملك والعصبية والسلطة، أي ملك وعصبية وسلطة بنو أمية على سبيل المثال. فيما تعني الدولة بمعناها الحديث كيان سياسي يعبر عن أمة ما ‘فالدولة الحديثة والتي -خلافاً للدولة القديمة- تدعي أنها ممثلاً للأمة أو الجماعة الوطنية’. وما يجعل هذا الاختلاف جذري هما عاملين الأول هو ارتباط الدولة القديمة بالسلالات الحاكمة، وحتمية الزوال من جهة أخرى. كما شبهها ابن خلدون بدورات الإنسان الثلاث “من الفتوة إلى الكهولة إلى الشيخوخة“.
إن مفتاح التمييز بين الدولة بمعناها القديم والحديث هو نشأة هذان العاملان وهما الارتباط بالسلالة الحاكمة وديمومة النظام. وعلينا أن نبحث عن بداية دخول العاملين في النظرية السياسية. وهنا نستحضر الفيلسوف السياسي ميكافيللي. إن أهمية ميكافيللي تكمن في أنه أول فيلسوف ادخل الديمومة في الفكر السياسي (في الثورة، ٤٧). فقد بحث في مؤلفاته عن نظام سياسي جديد قادر على البقاء والاستدامة، أي نظام لا يرتبط بالفكرة الخلدونية العضوية للدولة ولا تلك الأفلاطونية حول التحول في أنماط الحكم الستة الشهيرة. إن ذلك النظام السياسي الذي يبقى دون التعلق بالسلالة الحاكمة أو بتغير الزمان، هو ما يسمى بالدولة الحديثة. على أن هذا النظام يستوجب معنى لقيامه. فإن لم يكن تعبيراً عن سلالة حاكمة فما عساه أن يكون؟ هنا ترتبط الدولة بفكرة التمثيل والتي نجد جذورها لدى ميكافيللي. فغاية الدولة هو السيادة. بمعنى آخر بحث ميكافيللي عن جماعة سياسية وطنية تمثلها دولة ما، أي عن الدولة-الأمة (في الثورة، ٤٩). فهل تقدم طالبان ذاتها كسلالة حاكمة لإقليم ما أو بوصفها حركة سياسية تسيطر على الدولة الأفغانية واجهزتها وتدعي تمثيلها ؟
قد بينت أن الفرق الجوهري بين الدولة القديمة والحديثة، أولاً بوصفها سلطة وعصبية لسلالة حاكمة، لا تدعي بحكمها لهم تمثيلهم بل رعايتهم. إما باسم الحق الإلهي أو الغلبة. وثانياً بغياب مسألة الديمومة في نظريتها. تبقى لنا أن نبحث في الاختلاف بين مفهومين أساسيين في فهمنا للدولة وهما الأمة والرعية. فمفهوم الرعية الذي يشير إلى سكان الدولة القديمة يختلف جذرياً عن مفهوم الشعب / الأمة الذي يعني جماعة سياسية ذات هوية وطنية . يختلف مفهوم الشعب اختلافاً كلياً عن ذلك الذي نجده في عصور ما قبل الحداثة ، على الرغم من استخدامه البديهي من قبل المطيري في حديثه عن الشعوب الإسلامية دون التسليم بارتباط المصطلح بالمسألة القومية. إن الشعب يعني ارتباط الافراد داخل حدود وطنية، على الرغم من اختلاف أصل هذا الارتباط بين رأيٍ يراه طبيعياً أساسه العرق واللغة، وآخر يراه مصطنعاً بفعل الدولة ، فهي تقوم بإعادة إنتاج هذا المفهوم ( من نحن؟ ) لبناء الهوية الوطنية والحفاظ على استمرارها، وهذا ما يسمى عملية بناء الأمة ، وبغض النظر عن اختلاف النظريتين، إلا أن المهم هنا هو أن الأمة هي تجاوز للجماعة الأهلية كالطائفة والقبيلة، فهي هوية متعالية على الانتماء العضوي للإنسان. فالمواطن الافغاني من الممكن أن يكون سنياً أو شيعياً ولكن ليس كل سني وشيعي هو أفغاني. فالهوية الأفغانية متعالية على الطوائف وإن تأثرت ببعضها بطبيعة الحال.
بعد النظر في المفاهيم السياسية الحديثة كالشعب/الأمة والدولة، تبقى أن نفحص هذه المفاهيم في الخطابات السياسية الاخيرة لحركة طالبان. لقد أكدت بأن استخدام مفهومين الشعب / الأمة والسيادة مفهومان حداثيان يقصد بهما الإشارة إلى ان هنالك جماعة من الافراد يشكلون باجتماعهم أمة ما، ليس قوامها العرق كالقبيلة ولا الطائفة الدينية. فالشعب يعني جماعة سياسية من افرادٍ يسمّون مواطنون. وأن الانتماء لجماعة ما يعني حزمةً من الحقوق والواجبات تقوم على أساس المساواة في المواطنة وأمام القانون، وعليه فإن اعتبار طالبان أن هناك شعباً أفغانياً يعني أن ما يميز هذا الشعب عن غيره ليس كونه آسيوياً أو مسلماً أو سنياً، فهذه عوامل تشترك بها شعوب كثيرة، بل ما يميزهم هو كونهم ينتمون إلى الأمة الأفغانية، وقد يكون الدين والقارة والمذهب احد العوامل المميزة التي تشكل هذه الأمة إلا أن هناك شيئًا آخر يجعل من الأمة الأفغانية مختلفة ومميزة عن الباكستانية مثلاً والتي تجتمع بها كل هذه العوامل (آسيوية ومسلمة وسنية)، وهو أن هناك قصّة ما تتحدث عن مجموعة مميزة تروى بلغة مميزة وتشكل فضاءاً عامّاً مميزاً لهم حصراً.
إذاً فعندما تشير طالبان بخطابها بعبارات كالأمة الأفغانية، والسيادة، والشعب ، وتطالب القوات الاجنبية عموماً والتركية خصوصاً بإنهاء الاحتلال واحترام السيادة الأفغانية ، يعني أنها تقرّ بمبدأ السيادة ، وهذا مفهوم حداثي نراه عند طالبان أيضاً في السمات الحداثية التالية : أولاً الإقرار بمفهوم الشعب ، حيث إنها تتكلم باسم الشعب الأفغاني لا باسم الأمة الإسلامية، كما يتمنى المطيري. ثانيا إقرارها بمفهوم السيادة حيث أنها تطالب باحترام السيادة الافغانية وخروج القوات الأجنبية المحتلة منها. ولا تميّز بمطالبتها هذه بين القوى الكافرة والمسلمة، إذ أنها لا تعتمد في تمييزها على أساس ديني بل على أساس قومي ، باعتبار أفغانستان بلاد للأفغان لا يحق للأمريكان ولا للأتراك او الباكستانيين الوجود على أراضيها. ونستشف ذلك من مقولة ” الشعبين الأفغاني والتركي “. وكما عبرت الحركة في أول خطاب أصدرته بعد توليها السلطة في البلاد، على لسان متحدثها الرسمي ذبيح الله مجاهد حين أكد على أن ” من حق الشعب الأفغاني أن يكون له قانونه الخاص، وفق قيمه الدينية والوطنية، مثل باقي الشعوب، وعلى العالم أن يحترم قيمنا ” ، ولم يتضمن خطابه الحديث عن القوى الصليبية والشعوب المسلمة بل أشار إلى العالم مقابل الأفغان. وفي صدد ذكره للإرهاب لم يصفه بالمقاومة الإسلامية للقوى الصليبية بل أكد على أن الأراضي الأفغانية لن تكون منصةً يستخدمها غير الأفغان من أجل صراعات غير أفغانية بإشارةٍ إلى القاعدة وداعش ” لن نسمح لأي جهة باستخدام أفغانستان كمنصة للاعتداء على أحد وعلى المجتمع الدولي احترام سيادتنا وعاداتنا وتقاليدنا ” ، (وهذا ما يتعارض مع محاجّة عبدالرحمن الراشد الذي يرى أن الحركة امتداد للحركات الإسلامية العابرة للحدود القومية ) . إن هذا التأكيد على الدولة الوطنية والأمة والقيم والعادات الخاصة لها لا يمكن تسميته إلا أنه عملية تحرر وطني قد تمّت. وبقيت عملية بناء الأمة وتشكيل هويتها، ولا يمكن أن يكون القائم بهذه العملية إلا كيان قومي / وطني حداثي لا علاقة له بالأصولية أو الحروب الصليبية .
إن ما يجعل طالبان حركة تحرر وطني / قومي هو انطلاقها من الأمة مصدراً للشرعية وعن الدفاع عن مصالحها ضمن حدودها الوطنية المسماة دولة أفغانستان ، وإن هذا ما يجعلها مختلفة جذرياً عن الحركات الجهادية الأممية التي ترى بأن العالم منقسم إلى مسلمين وكافرين كالقاعدة وداعش، اللذين لا يقيمان اعتباراً لمفاهيم مثل الأمة الوطنية أو الدولة الحديثة أو النظام الدولي، بل إنهما يضعان نفسهما بديلاً عنه، في حين نرى أن طالبان تحترم النظام الدولي وتطالبه باحترامها ، كما أنها تقسم العالم على أساس قومي ، فلا الاتراك أو الباكستانيون أو الإيرانيون أقرب لهم من الصين –والتي كانت المحطة الأولى لوفد طالبان بعد الحكم– وروسيا (الوثنية والصليبية) إلا بما يخدم المصالح القومية، فالاعتراف الدولي أصبح شرطا من شروط الدولة في النظام الحديث على عكس ما ينفيه المطيري الذي فضّل اللامبالاة بهذا الاعتراف . إن ما يحتاجه المحلل السياسي هو النظر إلى الوقائع بموضوعية بقدر الإمكان وأن يراقب ذاته كي يتدارك شهوات النفس وانزلاق العقل وتمكن الهوى فذلك أقرب للصواب.