الإصلاح الزراعي والإصلاح المضاد: اغتيال الفلاح المصري

سيف دويدار

كاتب المقالة

سيف دويدار

اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية وسببت موجات من الضغوط على الاقتصاد العالمي المتأزم منذ جائحة كورونا. أعادت الحرب مسألة الزراعة والإصلاح الزراعي في مصر إلى بؤرة الحديث على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تأثرت أسعار الغذاء وعلى رأسها القمح جراء الحرب. فمصر أكبر مستورد للقمح في العالم إذ يقدر ما تستورده بأكثر من 12 مليون طن في العام، في الوقت الذي تعتبر أكبر دولة في الإقليم تنتج القمح حيث تحصد 9.1 مليون طن، يستهلك المصريون سنويًا بين 18-20 مليون طن من القمح، وتكتفي منه ذاتيًا بنسبة 41.3%.

أثارت الحرب الروسية الأوكرانية الأسئلة البدهية: لماذا لا نزرع ما نأكل؟ ولماذا لم تحقق مصر السيادة الغذائية بمفهومها الواسع؟ ولماذا لم يسهم النظام الزراعي في امتصاص الأزمة والتحول السريع للإنتاج المضاعف للقمح والذرة حتى تستوعب الأزمة؟ ولماذا تصر الدولة على نفس السياسات الاقتصادية؟ ولما قاوم الفلاحون الدولة ولم يوردوا لها الأرز وأصروا على أن يتصرفوا به في السوق الحر من خلال تخزينه أو احتكاره بدلًا من بيعه للدولة؟

كل هذه الأسئلة تدور حول سؤال رئيس هو: أين الفلاح المصري؟ وما هي مكانته من النظام والسلطة السياسية وموقعه في علاقات الإنتاج؟ الإجابة بسيطة: فالفلاح المصري قد اغتالته الدولة المصرية. في هذه المقالة، سننظر إلى علاقة الفلاح بالحقب السياسية المتعاقبة منذ الإصلاح الزراعي في العهد الناصري، وسنتتبع العملية البطيئة لكن ذات الاتجاه الواحد التي أدت في نهاية الأمر لاغتيال الفلاح المصري.

الإصلاح الزراعي الناصري (19521970)

في الفترة الناصرية، كانت سياسات دعم المزارعين والفلاحين إحدى المصادر الشرعية الكبيرة للنظام السياسي. ففي عام 1960، بلغت نسبة المزارعين 50% من القوة العاملة المصرية، وشكلت الزراعة 27.60% من القيمة المضافة للناتج المحلي. وكانت السياسة الموجهة للمزارعين والفلاحين تحتل المرتبة الثانية لعملية استيعاب تحديث المدينة من خلال التوظيف الحكومي مع تضخم بيروقراطية الدولة الناصرية عبر الاقتصاد الموجه من الدولة.

بدأت مسيرة الإصلاح الزراعي في 7 سبتمبر 1952، أي بعد 6 أسابيع فقط من انقلاب الضباط الأحرار على الملك في يوليو، مع صدور قانون الإصلاح الزراعي الذي يمثل فصلاً جديداً لعلاقة الدولة المصريّة بالفلاح. حدد القانون الحد الأقصى لحيازة الأرض ب 200 فدان لكبار الملاك و 100 إضافية لكل ابن من الأبناء، وسمح لملاك الأراضي بالإشراف على عملية توزيع الأراضي الفائضة وبيعها لمن كان ينتفع بها كالمستأجرين.

 باع كبار الملاك ما يقرب من 145 ألف فدان إلى صغار الملاك الزراعيين والمستأجرين، وكتب كثير منهم لأبنائه كثيرا من الأراضي الزراعية. في 1953، صدر تعديل بأن تتصرف الدولة في الأراضي الفائضة عن 200 فدان بنفسها، حيث جرى توزيعها على المستأجرين السابقين بحجم يتراوح بين 2-5 فدادين على أن يدفع المالك الجديد التعويضات من خلال دفع أقساط بدلًا من دفع الإيجار. حدّد سعر الأرض بما يعادل 70 ضعف ضريبتها العقارية، الأمر الذي يعني هبوط سعر الأرض لنصف سعرها في السوق. عُدل القانون فيما بعد عدة مرّات: ففي عام 1958 جُعِل الحد الأعلى للحيازة 300 فدان لكل أفراد الأسرة؛ ثم خفض هذا الحدّ إلى 100 فدان في 1961؛ ثم، في نهاية الستينيات خفض إلى 50 فدانًا.

لاقت هذه القوانين ترحيباً أمريكياً وكذلك من النخب والمؤسسات الرأسمالية المناوئة لفئة كبار الملاك. ففي 1952، رحبت سفارة الولايات المتحدة بالإصلاح الزراعي الذي أصدره الضباط، وروجت له دفاعاً ضد تهديد شيوعي متخيل. وكذلك رحّب بها رئيسا بنك الأهلي وبنك مصر الذين يمثلان المؤسسات المالية للبرجوازية الصناعية التي كانت في صراع سياسي واقتصادي مع كبار الملاك.

كانت إيجارات الأرض ضمن الإصلاح الزراعي الناصري أفضل حالًا للفلاح فقد كانت مدة الإيجار لا تقل عن 3 أعوام، ولا يتم طرد الفلاح منها حتى في حالة وفاته فإن كان أحد الورثة مزارعاً فإنها تنتقل إليه. هدفت هذه القوانين لتحقيق عدّة غايات منها التحول من النظام الإقطاعي إلى الإنتاج الرأسمالي، وتفكيك طبقة كبار ملاك الأراضي الزراعية، وتفريغ عوامل الانفجار الاجتماعي.

طبقًا لهذه السياسات وزع 817.5 ألف فدان على 342 ألف أسرة يشكلون ما مجموعه 1.7 مليون نسمة، أو ما يعادل 9% من سكان الريف. وبمقارنة هذا الرقم بأرقام الإصلاح الزراعي في بلد مثل اليابان، نجد أن الإصلاح المصري كان أقل شمولية وراديكالية، استفاد منه 33% من سكان الريف الياباني أي ثلاثة أضعاف نسبة المستفيدين من سكان الريف في مصر.

بنهاية الستينيات لم يحقق الإصلاح الزراعي الناصري جميع الأهداف التي روجت له لتمرير قانون الإصلاح. فهو لم يقم بتفكيك طبقة كبار، بل قام بإضعافها. ذلك أنها كانت قبل 1952، تملك 34٪ من الأراضي الزراعية، وبعد قوانين الإصلاح صارت تملك 20% منها. وبالمقابل تراجع الإنتاج الزراعي بسبب انخفاض الاستثمار فيه بحدود 23% من حجم الاستثمارات التي وجهت إلى الصناعة والإنشاء، ولم يؤد الإصلاح الزراعي إلى تحول رأسمالي للإنتاج حيث ذهبت الأسر الحاصلة على الأرض لإنتاج ما تحتاجه من غذاء عائلي كالقمح والإنتاج السلعي وما تحتاجه الحيوانات أو يمكن بيعه ليدر دخلاً، وليس الرأسمالي الذي يسهم في الصناعة الزراعية مُدخلا للإنتاج.

لم يكن دفع الأقساط على المالك الجديد مربحًا ولم يختلف كثيرًا عن المبالغ التي كانت تدفع لإيجار الأرض في الحقبة الملكية. بالمقابل، حقق مشروع الإصلاح تخفيف حدّة التفاوت الطبقي العالي في الريف وتخفيف حدّة الاحتقان الاجتماعي، وهو الأمر الذي منح الضباط الأحرار مزيداً من الشرعية السياسية.

وبالإضافة لمسألة ملكية الفلّاح للأرض، قدّمت الحكومة المصرية في عهد عبدالناصر مجموعة من البرامج التنموية السلطوية في الريف المصري في مجالات متعددة أهمها الصحّة والتعليم. أنشئ بين عامي 1952-1956 أكثر من 250 وحدة مجمعة تخدم 3.75 مليون مواطن في الريف، تشمل كل وحدة مدرسة ووحدة صحية ووحدة زراعية ووحدة اجتماعية، يسمي الباحث في علم الاجتماع الريفي صقر النور هذا التلازم بين الوحدات باندماج التنمية الريفية بالتنمية الزراعية.

التخلي عن الفلاح: الانفتاح الاقتصادي (١٩٧٥-١٩٨٧)

اتخذ السادات موقفًا معاديًا للناصرية إذ جرى على ما كُتب بممحاة. فبحلول عام 1975 بدأت رحلة الإصلاح الزراعي المضاد، أو الاقتصاد المنفتح جزئيًا، بالنظر في أهم القوانين والأطر التي تتعلق بالردة عن الناصرية. انعكس ذلك بوضوح في انفصال تنمية الريف عن تنمية الزراعة. ففي عام 1973، أنشئ جهاز بناء وتنمية القرية المصرية، الذي كان أحد مخرجاته التوقف عن إنشاء الوحدات المجمعة، مع توسع في عدد الوحدات الصحية منفصلة، وتراجع ملحوظ في ضخ الاستثمارات في القطاع الزراعي الذي انخفض إلى 9%.

أختزل شعار تنمية الزراعة في الاستصلاح الزراعي، وبناء عليه تم تعديل قانون الحيازة من 50 فدانا للفرد إلى 100 فدان، وللشركات الخاصة بدون سقف أعلى، وأسندت تلك المشاريع إلى الشركات الخاصة الناشئة حديثًا، إلا أن الدولة حافظت على مستوًى من التوجيه والإدارة في القطاع الزراعي.

شهدت تلك الفترة تعديلا للوائح بنك التسليف الزراعي الذي تغير اسمه إلى البنك الرئيسي للتنمية والائتمان الزراعي، وبدأت سياسة تغيير شروط الائتمان والإقراض لتصبح أصعب على صغار الفلاحين وتوجيهها للمستثمرين الكبار في مشاريع الاستصلاح الزراعي، وفي عام 1980 صدرت تعديلات للوائح وقوانين التعاونيات الزراعية، التي مكنت البنك الزراعي من فرض هيمنة على مخازنها وتهميش دورها، والإخلال بمدى تقاسم التكاليف بين المستأجر والمالك.

أسهم برنامج المعونة الأمريكية الذي بدأ في عام 1976 في تنمية الاستهلاك، وبالتالي تحولت الزراعة في مصر رويدا رويدًا لإنتاج السلع الاستهلاكية. شهد الانفتاح الجزئي نمواً في الاستهلاك من الطبقة العليا، فظهرت الزراعة الاستهلاكية، مثل زيادة استهلاك نسبة اللحوم وبالتالي ارتفعت تكلفة استيراد القمح المستخدم في الأعلاف طردياً، حتى بلغت واردات مصر الزراعية مستويات قياسية 44% من حجم الواردات منتصف السبعينيات.

اتسمت السياسة الساداتية بأنها أقرب لتنمية الحضر الريفي مع تراجع الاهتمام بالزراعة وصغار الفلاحين، فتوسعت قاعدة التعليم بإنشاء جامعات ومؤسسات تعليم في الأقاليم، وفي المدن الرئيسة للمحافظات الريفية مثل إنشاء جامعة طنطا والمنصورة..الخ، حتى هذا تراجع بصورة كبيرة بفعل الأزمة الاقتصادية (1986-1991). وبوجه عام، أدى التخلي عن الفلاح وإهمال الزراعة والاهتمام بكبار الملاك، إلى ردة فعل تمثلت بهجرة أعداد كبيرة من الفلاحين إلى الدول العربية المنتجة للنفط (دول الخليج والعراق وليبيا) وذلك خصوصا بعيد انتفاضة الخبز 1977.

من التخلي عن الفلاح المصري لاغتياله: الفترة النيوليبرالية في مصر (١٩٨٧-٢٠١١)

بحلول عام 1992، وتحديدا مع صدور قانون 96، بدأت علاقة الدولة المصرية بالتحول من التخلي عنه إلى تدشين مرحلة إفنائه. فبموجب هذا القانون، بدأت الدولة التوقف عن حماية المستأجرين للأراضي الزراعية حيث انخفضت مدة الإيجار إلى موسم واحد أو ستة أشهر، وبالتالي أصبحت العملية غير ربحية. وارتفع إيجار الفدان من 500 جنيه إلى 2000 جنيه وفي حالات صار عشرة أضعاف. وبسبب قانون تحرير الأراضي 1997 تأثر المنتفعين من الأراضي التي ظلت في حيازة هيئة الإصلاح الزراعي نشأ نزاع بين المستأجرين والملاك المطالبين بعودة أراضيهم، تقلصت نسبة الأراضي المملوكة للهيئة من 5.8% عام 2000 إلى 4.8 عام 2005. كانت هناك ردات فعل على تلك القوانين، أبرزها تمرد أكثر من 100 قرية عامي 1997-1998، التي أدت إلى اشتباكات مع الشرطة والملاك، راح ضحيتها 32 ضحية من الفلاحين و741 إصابة، وأكثر من 2410 معتقلين على خلفية تلك الأحداث. وكانت ذروة التحول عندما تخلت الدولة بصورة مباشرة عن الفلاح من خلال رفع سعر المدخلات الكيماوية عليه وخفض دعمها، وانتشار الفساد في قطاع الأسمدة أدى لتسربها إلى السوق السوداء بأسعار مرتفعة فلم يعد يحصل عليها إلا أصحاب الحيازات الواسعة، الأمر الآخر بترويج الزراعات النقدية مثل الزهور والأعشاب لتصديرها بدلًا من زراعة الحبوب.

بعيد الأزمة الاقتصادية الطاحنة عام 1987-1989، اتفقت مصر مع صندوق النقد على إجراء تغيير هيكلي في الاقتصاد المصري عام 1991. وفي ظل تطبيق سياسات صندوق النقد، بدأت عملية التحول إلى الزراعة الرأسمالية بدعم المستثمرين في المجال بدلًا من الفلاحين الصغار، فلم تعد القروض تقدم لصغار المستثمرين وإن قدمت كانت ضعيفة جدًا فأصبحت تذهب لشراء سلع استهلاكية.

وفي منتصف التسعينيات أعلن مشروع “شروق” الذي استهدف بالأساس تنمية البنية التحتية للريف بدافع من المتنفذين في الدولة والمرتبطين منهم من أباطرة “الأسمنت، والحديد، والسراميك”. هذه العلاقات الزبونية منحت لفئة قشرية رقيقة الاستفادة من القروض الميسرة من جهة، ومن جهة أخرى إمكانية الوصول والنفاذ إلى الموارد بتوزيع حصص الأرض المستصلحة وذلك عبر آلية لتوزيع الريع والمحاصصة. لم تعد هناك حاجة لتطوير الفلاح ولا أساليب الزراعة ولا الري، يمكن رصد ذلك من إنشاء وزارة للتنمية الريفية ثم تحويلها إلى وزارة الإدارة المحلية، ولم تعد الدولة تهتم بصورة أو بأخرى بتنمية الزراعة نفسها، ذلك من خلال نظر التقنيين والمهندسين والبيروقراطيين أن المشكلة تكمن في الفلاح المتكلس، في حين تذهب أموال الاستثمارات في الريف كلها للإنشاء والبناء لا الزراعة.

استتبع صعود البرجوازية المصرية والتحول إلى النظام الليبرالي وبالأدق النيوليبرالي في الاقتصاد المصري، تراجع مكانة الفلاح، وإصدار قوانين معادية له في الوقت الذي بلغت فيه نسبة الفقر في الريف أكثر من 50% من تعداد السكان، مما أثر مباشرة في شكل الريف وعلاقات الإنتاج فيه، مؤذنة بنهاية الفلاح نتيجة للممارسات المضادة للإصلاح الزراعي، فيما يبدو أنها كانت وما زالت عملية تستهدف اغتياله، لا إدماجه ضمن منظومة زراعية منتجة.

تراجعت نسبة العاملين في الزراعة إلى 28% بحلول 2010، وشكل نصيبهم من الناتج المحلي 13.9%. أصبحت سياسات محاباة المستثمرين باعتبارهم العمود الفقري للإصلاح الليبرالي مع وجود أزمة اقتصادية طاحنة، وهو ما دفع الآلاف وربما الملايين إلى هجر الريف إلى حواضر الخليج منتصف الثمانينيات والعقود التالية، وآخرون للهجرة الداخلية عمالاً “التراحيل” الظاهرة التي كانت الدولة الناصرية قضت عليها.

وهكذا أجهزت الدولة على الزراعة عندما أنهت الإنتاج الريفي الفلاحي بضخ الاستثمار على الإنشاء ومحاباة كبار المصنعين، تحول نمط الإنتاج من الزراعي إلى الإنشائي في الريف، أي أنها بصورة ما حالت دون بلوغ الفلاح للقيمة التي يستمدها من الأرض، في عبارة أبلغ إن الدولة اغتالت الفلاح بالإجهاز على الفلاحة.