كثيرا ما تتردد المقولة المشهورة: (الإرهابي بالنسبة لطرف، هو مقاتل لأجل الحرية بالنسبة لآخر). وعادةً ما يقصد بها أن مصطلح (الإرهاب) مستباح المعنى، أي أنه يعاد تشكيله كل مرة بحسب المصالح والغايات السياسية لهذا الطرف أو ذاك. وبسبب هذا التسييس العالي للمصطلح، يصبح كل حديث عنه هو بالضرورة حديث مؤدلج: إما بتوظيفه من أجل نزع الشرعية عن الخصوم، أو بفضح هذا التوظيف من أجل إدانة السلطة التي تتهم خصومها بالإرهاب، أو بقلب هذا المفهوم على السلطة عبر تقديمها كسلطة إرهابية، كما يفعل عادة تشومسكي مع الولايات المتحدة الأميركية.
ورغم أن نقد الخطاب السياسي والأيديولوجي المرافق لمفهوم الإرهاب مهمّ وضروري، لكنه في بعض الأحيان يصعّب أي مقاربة تحليلية للإرهاب. فهل هناك معنى تحليلي للإرهاب؟ والمقصود بـ”المقاربة التحليلية” هي الإجابة على سؤال: هل هناك ظاهرة مستقلة بذاتها يمكن خلع عليها هذه تسمية (إرهاب) يمكن دراستها وفحصها بغض النظر عن موقفنا السياسي والإخلاقي منها؟ من وجهة نظر العلوم السياسية، الجواب: نعم، لكن الموضوع معقّد بعض الشيء. في هذه التدوينة، سأقدّم المدرستين الرئيستين في فهم ظاهرة الإرهاب في العلوم السياسية، ثم بعد ذلك سأقدّم نبذة عن أشهر بنك معلومات عن الأحداث الإرهابية والذي يقوم بتغطيتها خلال الفترة ما بين ١٩٧٠-٢٠١٤م.
تعريف الإرهاب
ككل المفاهيم السياسية التحليلية- مثل (الديمقراطية)، و(المجتمع المدني)، و(الثورة)…إلخ- فإن أي زعم بأن هناك إجماع حول معنى تحليلي لمصطلح الإرهاب هو زعم مغالٍ، لكن بالإمكان القول أن الخلاف الرئيسي هو بين مدرستين: المدرسة الأكبر والأشهر هي تلك التي تعرّف الإرهاب باعتباره فعل، أي باعتباره نوعا خاصا من أنواع العنف السياسي. أما المدرسة الأخرى، وهي مدرسة حديثة ينتمي إليها أقليّة من الباحثين، تعرّف الإرهاب بحسب الفاعل، أو المنظمة التي تقوم به.
تشكلت المدرسة الأولى في السبعينيات الميلادية، وذلك بغية فهم أعمال العنف التي تم تنفيذها في أوروبا الغربية من قبل حركات ماركسية ثورية كمنظمة بادر-ماينهوف في ألمانيا الغربية، ويمكن اعتبار من بين أشهر منظريها الأوائل:البريطاني بول ويلكينسون (١٩٣٧-٢٠١١) والأميركية مارثا كرينشاو الأستاذة في جامعة ستانفورد. فكرينشاو، في دراستها “أسباب الإرهاب” التي نشرتها عام ١٩٨١م، تعرّف الإرهاب بأنه “الإستخدام المخطط له أو التهديد بالتخطيط لاستخدام عنف رمزيّ ذا مستوى منخفض من قبل منظمة تآمريّة. ويسعى العنف الإرهابي لتوصيل رسالة سياسية تتجاوز في أهدافها تدمير موارد الهدف الماديّة”. يفصّل ويلكينسون هذا التعريف بالإشارة إلى خمس خصائص تميز الإرهاب عن غيره من أنواع العنف السياسي: ١- بأنه مصمّم لغاية خلق بيئة من الرعب الشديد. ٢- بأنه موجّه لجمهور أكبر من المستهدف الرئيسي بالعنف. ٣- تتضمن استهداف أهداف عشوائية أو ذات قيمة رمزية، بما في ذلك المدنيين. ٤- بأنها تصنّف في المجتمع الذي تحدث فيه بأنها (غير عاديّة)، أي تتجاوز المتعارف عليه من أعمال الاحتجاج والاعتراض..إلخ. ٥- بأنها تستخدم بشكل رئيسي، وإن لم يكن بشكل حصري، من أجل التأثير على السلوك السياسي للحكومات والمجتمعات والفئات الإجتماعية.
ماذا تعني هذه التعريفات؟ تعني، أولا، أن الإرهاب فعل عقلاني محسوب بدقّة لتحقيق غايات سياسية، أي أن الجماعات المنخرطة بهذا النوع من العنف ليست متعصبة أو متطرفة أو مجنونة أو مدفوعة بهوس جنسي بملذات ما بعد الدنيا، بل عبارة عن فاعلين سياسيين يحاولون تحقيق غاياتهم عبر هذا النوع من العنف. وتعني، ثانيا، أن استهداف المدنيين، أو المؤسسات الدينية، أو الأهداف الرمزية- كأبراج التجارة العالمية-، ليست غاية، بقدر ما هي وسيلة من أجل التأثير على السلوك أو الخيارات السياسية لجمهور يتجاوز المستهدف المباشر من العنف. وفق هذا التعريف، لا يصبح الغرض من هجمات الحادي عشر من سبتمبر من عام ٢٠٠١م في الولايات المتحدة الأميركية تدمير أبراج التجارة العالمية أو قتل المدنيين، بل إن تدمير هذه الأبراج وقتل هؤلاء المدنيين هي الطريقة التي من خلالها استطاع تنظيم القاعدة لفت أنظار العالم إليه وإلى مطالبه، وهي كذلك الطريقة التي من خلالها أبدى لحكومة الولايات المتحدة الأميركية إلى أي مدى سيذهب من أجل تحقيق أهدافه السياسية. ثالثا، تعني هذه التعريفات أن الإرهاب- إذا ما أردنا استعارة عبارة جيمس سكوت– سلاح الضعفاء. والمقصود هنا أن الحركات قليلة العدّة والعدد، والتي لا تملك القدرة على تحقيق أهدافها بشكل مباشر (مثلا خوض حرب نظامية مباشرة مع المحتل من أجل طرده)، تلجأ لهذا النوع من العنف الرمزي من أجل تحقيق غاياتها. رابعا، استهداف المدنيين ليس عنصرا أساسيا من تعريف الإرهاب، فيمكن للفعل أن يكون إرهابيا، وإن لم يستهدف مدنيّا واحدا، إذ أن العنصر الرئيسي فيه يتمثّل في كونه عنف رمزيّ. أخيرا، هذا التعريف يحصر هذا النوع من الأرهاب بالمنظمات والجماعات، أي أن الدولة لا تقوم بالإرهاب. وهذا الاستثناء إجرائي، هدفه حصر الظاهرة، ولا يقتضي أن الدول لا تقوم بأعمال عنف تهدف لبث الرعب أو توصيل رسالة سياسية من خلال ممارسة العنف السياسي، لكن هذه الأعمال يجب أن تفهم وتدرس بوصفها صنف مختلف عن صنف العنف السياسي الذي تقوم به الجماعات والمنظمات والذي نسميه بالإرهاب.
تعريف هذه المدرسة للإرهاب تم تحديه من قبل مدرسة أخرى صاعدة يقودها مجموعة من الباحثين الأسبان القائمين على مشروع تفسير سلوك الإرهابيين والمتمردين المدعوم من مركز خوان مارش. هؤلاء الباحثين هم لويس دي لا كيل ، وإگناسيو سانشيز-كوينشا. ترفض هذه المدرسة تعريف الإرهاب بوصفه فعل ذا خصائص تميزه عن غيره من أنواع العنف السياسي، فتعريف الإرهاب، مثلا، بأنه استهداف للمدنيين يجعلنا نخلط بين عنف الدولة وغير الدولة، العنف في الحروب النظامية والحروب الأهلية وغيرها، إذ في كافة هذه الظواهر يقتل المدنيين. بالمقابل هناك حركات تصنّف بأنها إرهابية، لكنها لا تستهدف المدنيين، كالجيش الجمهوري الإيرلندي في شمال إيرلندا الذي كان يقصر عملياته ضد الجنود البريطانيين. كما أن تعريف الإرهاب بوصفه نوع من التأثير على سلوك هدف معيّن عبر بث الرعب واستخدام العنف بشكل رمزي لا يعتبر تعريفا جامعا، ذلك أن كثير من العنف السياسي الذي يحدث في الحروب الأهلية يتمتع بهذه الصفات نفسها.
إذا كان تعريف الإرهاب كفعل مُشكل، كيف إذن تعرفه هذه المدرسة؟ الجواب: يعرّف من خلال الفاعل. فبحسب هذه المدرسة، هناك نوعين من التنظيمات والجماعات: الأولى هي “منظمات قُطرية”، أي منظمات تهدف للسيطرة على الأرض والاستحواذ عليها، و”منظمات غير قُطرية” أي أنها تستخدم العنف السياسي ليس من أجل الاستحواذ على الأرض والسيطرة عليها. فعلى سبيل المثال، حركة حماس قبل وصولها لحكم قطاع غزة، كانت “حركة غير قُطرية”، أي أنه لم يكن لديها أرض محددة تحافظ عليها وتحكمها ومجموعة من المدنيين تسيطر عليهم وتحكمهم. لكن بعد ذلك، أصبحت حركة قُطرية، مسؤولة عن الأرض والناس الموجودين في قطاع غزّة. بحسب هذا التمييز، تقوم هذه المدرسة باعتبار الحركات غير القُطرية حركات إرهابية، أما الحركات القُطرية، فهي حركات تمرديّة تتبنى أساليب حرب العصابات من أجل السيطرة على الأرض والاستحواذ عليها. فما يميز الحركة الإرهابية عن غيرها هو سؤآل: هل تسعى للإستحواذ على الأرض أم لا؟ فإذا كانت لا تسعى للاستحواذ على الأرض فهي إرهابية. بهذا التعريف، تعتبر تنظيمات مثل حزب الله، وجبهة النصرة، والدولة الإسلامية، وطالبان تنظيمات غير إرهابية، وذلك لأنها تسيطر على أراض وتسعى للحفاظ عليها و/أو توسيعها و/أو القتال من أجل انتزاع المزيد منها.
بيانات الإرهاب من ١٩٧٠-٢٠١٤
بعد الحادي عشر من سبتمبر من عام ٢٠٠١م، نشطت الدراسات الأكاديمية حول الإرهاب، وفي عام ٢٠٠٥م أنشأت جامعة ميرلاند مركز الإئتلاف الوطنيّ لدراسة الإرهاب والردّ عليه (ستارت) والذي قام بتطوير بنك معلومات عن كل الأعمال الإرهابية في العالم من عام ١٩٧٠م إلى عام ٢٠١٤م، اسمه “بنك معلومات الإرهاب العالمية“. ينتمي هذا العمل إلى المدرسة الأولى في فهم الإرهاب، حيث تتبنى تعريفا واسعا للعمل الإرهابي مستندا على تعريف الجيش الأميركي، والذي يعرفه بأنه “استخدام أو التهديد باستخدام القوّة والعنف بشكل غير قانوني من أجل تحصيل أهداف سياسية واقتصادية ودينية واجتماعية عبر التخويف والإخضاع والتهديد”.
بإلقاء نظرة على هذه البيانات، نجد أنه في الفترة ما بين ١٩٧٠-٢٠١٤م حدث ما يقارب الـ١٤١٩٦٦ عملية إرهابية. والشكل التالي يوضّح توزيعها في مناطق العالم.
وكما هو بيّن، نجد أن عدد العمليات الإرهابية في العالم العربي ٣٣٦٩١ عملية، أي أنها تمثّل ما نسبته ٢٤.٤٪ من مجمل العمليات الإرهابية في العالم. وتوزيع هذه العمليات على الدول العربيّة هو كالتالي:
فكما هو واضح، تأتي العراق في الترتيب الأول حيث تقدّر العمليات الإرهابية في هذا البلد بـ١٦٠٢٣ أي أنها تمثل ما نسبته ٤٧.٦٪ من مجمل العمليات الإرهابية في العالم العربية، و ١١.٣٪ من مجمل العمليات الإرهابية في العالم. والغالبية الساحقة من هذه العمليات حدثت بعد عام ٢٠٠٣ (وهو عام الإحتلال الأمريكي للعراق)، فقبل هذه السنة كانت العمليات الإرهابية في العالم العربي ٧٢٩٠، وفي العراق ١٧٧. ليس هذا فقط، بل لو تفحصنا داخل العراق، سنجد أن ١٤٩١٢ عملية (أي ٩٣٪ من العمليات التي حدثت في العراق من ١٩٧٠-٢٠١٤) تركزت في ٧ محافظات من محافظات العراق الـ١٩، وهذه المحافظات هي: (بغداد، الأنبار، ديالى، نينوى، صلاح الدين، بابل، كركوك). وبعد العراق، تأتي فلسطين ، وهذان البلدان يشتركان في كونهما تحت الإحتلال. بعد الاحتلال تأتي البلدان التي عانت وتعاني من الحروب الأهلية، كسوريا والجزائر والصومال وليبيا واليمن، أو من الإثنين كلبنان.
رغم أنها لا تبدو واضحة في الشكل السابق، ولكن عدد العمليات الإرهابية في السعودية في الفترة من عام ١٩٧٠-٢٠١٤م كان ٩٠ عملية، موزعة مناطقيا بالشكل التالي:
يوضح بنك المعلومات هذا السمة العقلانية للعمليات الإرهابية، وأنها تستخدم لتحقيق أهداف سياسية أكثر من كونها مدفوعة بدوافع غير عقلانية. فمثلا لو رأينا الأهداف التي استهدفها تنظيم الدولة الإسلامية بنوع واحد من العمليات، وهو العمليات الإنتحارية (الذي يصوّر عادة بأنه أكثر الأعمال غير عقلانية)، في العراق، سنجد أنه في الفترة من ٢٠٠٧ (عام إعلان الدولة الإسلامية في العراق) إلى ٢٠١٤، قامت الدولة الإسلامية بتنفيذ ٢٤٢ عملية انتحارية في العراق. من بينها ١٦٢ عملية (٦٧٪ من الإجمالي) وجهت لأهداف عسكرية وحكومية وشرطة وجماعات عسكرية أخرى. مجموع ضحايا هذه العملية كان ٣٧٠٢ قتيلا، كان أكثر من نصفهم (٥٨.٢٪) من غير المدنيين. فتركّز العمليات على أهداف غير مدنية يكشف التوظيف المحسوب والعقلاني لهذه العمليات من أجل تحقيق أهداف السياسية للجماعة.
ليس المقصود من هذا الاستعراض أن يشمل كل الجوانب التي تتم دراسة الإرهاب من خلالها، ولا كافة الطرق التي يمكن من خلالها استغلالا هذه البيانات فيها، ولكن الهدف منه هو تقديم المحاولات التحليلية لفهم الإهاب، وتقديم بنك معلومات الإرهاب العالمي هذه للقارئ والباحث وصانع السياسات العربي من أجل الاستفادة منها في فهم ومواجهة والتعامل مع هذه الظواهر على أرضية أكثر موضوعية ووضوح.
مشكور شكر جزيل أخ سلطان على العرض الممتاز، والذي لم يخل من الاتزان رغم الإيجاز. أتمنى لك وللإخوة والأخوات في المدونة التوفيق في هذا المجهود الطيب.
أردت أن أجذب انتباهك إلى اتجاه مهم آخر، وربما مدرسة أخرى، في الدراسات المتعلقة بالإرهاب: ما تسمى «دراسات الإرهاب النقدية» (Critical Terrorism Studies)، والتي أسسها مجموعة من الباحثين عام ٢٠٠٩م، على رأسهم الأستاذ ريتشارد جاكسون من جامعة أوتاغو في نيوزيلندا.
– صفحة الأستاذ في جامعة أوتاغو: http://www.otago.ac.nz/ncpacs/staff/otago029983.html
– الكتاب الذي أسس المجال:
http://www.amazon.com/Critical-Terrorism-Studies-Research-Agenda/dp/0415574153
–