تضاريس السلطة
عقد الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مؤتمراً صحفياً في عام ٢٠٠٦ للتعليق على قرار طرح الثقة بوزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وتحت إلحاح الصحافيين بشأن تبعات القرار، أجاب بوش بإجابة قطعية: “القرار الأخير لي […] إنني أسمع الأصوات وأقرأ الصحف واطّلع على التكهنات، ولكنني أنا صاحب القرار النهائي، وسأقرّر ما أراه مناسباً”. كان جواب بوش صادماً ومستفزاً للرأي العام الأمريكي حينها. فمع أن الرئيس الأمريكي يتمتع بصلاحيات واسعة وهامّة من ضمنها تعيين الوزراء وإقالتهم، إلا أن تصريح بوش بأنه (صاحب القرار) أعاد إلى الذهن صورة حكّام القرون الوسطى الذين كانت تنحصر فيهم أعمال السيادة.
العبارة بهذا المعنى تثير أسئلةً جوهرية عن طبيعة السلطة السياسية في الدول المعاصرة. فتصريح الرئيس بأنه صاحب القرار النهائي في اعتقادي يكشف عن التوتر الكامن في الدولة الحديثة التي تحاول الجمع فيما يبدو أنه جمعٌ بين نقيضين؛ بين السياسة بما هي مجال للحرية والفعل، وتنصيب إرادة سيادية واحدة لها حق القرار النهائي. بهذا يمكن النظر فعلاً إلى عبارة بوش بأنها خروجٍ على مبدأ التوازن الحاكم في النظم الديمقراطية أو أنها محاولةٌ من الرئيس لسحب حق الحكم الفعلي من الشعب. وفي الوقت نفسه يمكن القول بأنّ العبارة ليست سوى تذكيرٌ بالعملية الديمقراطية ذاتها التي أعطت الرئيس حقاً دستورياً أصيلاً باتخاذ القرارات المناسبة لبلاده؛ أي أن الخضوع للقرار النهائي هو في جوهره خضوع للإرادة الشعبية التي وافقت على وجود هذه الإرادة السيادية ابتداءً.
هذا التناقض – أو هذا التضارب- أمرٌ مفهوم لا سيّما إذا علمنا أن نظرية السلطة السياسية لم تكن قط نظرية ثابتة ومتفقاً عليها طوال التاريخ السياسي. على العكس من هذا، فنظرية السلطة تجاذبتها وأسهمت فيها توجّهات ومدارس مختلفة ومتباينة ابتداءً من مذهب الحق الإلهي ومروراً بفكرة العقد الاجتماعي وانتهاءً بالنظريات الفلسفية المابعدية المعاصرة. ولكننا نحصر اهتمامنا في هذا المقام على توجهين رئيسين شكّلا -ولا يزالان – الفهم المعاصر للسلطة. التوجه الأول يمكن اعتباره بأنه محصلة للفكر القانوني والسياسي للقرنين السادس والسابع عشر الذي أسّس له الفرنسي جان بودان بربطه السياسة مباشرة بمفهوم السيادة. أما الاتجاه الثاني يمكننا الوقوف عليه عند المنظّر الألماني كارل شميت لا سيما في سياق نقده للسلطة المعاصرة. ففي حين أن المفهوم الكلاسيكي للسلطة عند بودان يُخضع السلطة السياسية لمذهب السيادة ويحصرها في شخص الملك مما يضفي عليه هالة تظهره كأنه أساس القانون وركيزته الأساسية، فإن نقد كارل شميت يوسّع من السلطة السياسية ولا يحصرها في مجرد أعمال السيادة، وهو بنقده للسلطة المعاصرة يوفّر إطاراً أكثر عمقاً واتساعاً لتحليل ديناميكيات القوة والخضوع في الدول والمجتمعات المعاصرة.
ينطلق جان بودان في كتابه الشهير كتب الجمهورية الستة الذي وضعه عام ١٥٧٦ من رفضه القاطع لحجج المناهضين للحكم الملكي المطلق واستنكاره الشديد لمحاولاتهم الحثيثة من أجل نقل السلطة وتأسيسها على حق الشعب والجماعة. ففي ذروة الاضطرابات السياسية والدينية التي كانت تعصف بفرنسا، انكبّ بودان على الكتابة والاشتغال المعرفي للمساهمة في ضمانِ واستقرار النظام الملكي الذي كان أحد أهمّ رجالاته المخلصين، فصاغ نتيجة لذلك مذهباً جديداً للسيادة سيكون حجر الزاوية في الخطاب السياسي لقرون تالية.
تتلخص حجة بودان في السيادة من أن ثمة مسلمة فرضتها طبائع الأمور في التجمعات السياسية، وهي تتمثل في وجود علاقة الأمر والطاعة التي تمت بمقتضى حقيقة قدرة بعض البشر على القبض على السلطة بالقوة المادية وإقامة تمييز واضح بين الحاكمين والمحكومين. هذه الفكرة الجوهرية قامت على أساسها الدولة الحديثة ويسمّيها بودان بالقوة التأسيسية. فهو يرى بأن وجود القوة التأسيسية جعلت السلطة منذ تشكلها في المجال السياسي تأخذ شكل علاقة هرمية عامودية حيث يوجد على رأس الهرم صاحب السيادة الذي لا ينازعه أحد سلطته أو يشاركه حق الأمر والطاعة.
يجادل بودان أن بين القوة التأسيسية والسلطة السياسية ارتباطاً لا ينفكّ، فهو يرى أن السلطة وحدها من تحوز على القوة، وعليه لا بدّ أن تعلو وتهيمن على باقي السلطات في إقليم الدولة، فهي؛ موحدة، ومطلقة، وأبدية. ويمكن القول بأن نموذج بودان للسلطة هو النموذج الذي هيمن على الحداثة السياسية بشقيها النظري والعملي، وهو بهذا المعنى النموذج المؤسس للفهم المعاصر لطبيعة السلطة في الدولة الحديثة؛ أي الفهم الذي لا يعرف سوى نموذج السلطة المطلقة القائم حصراً على حقيقة وجود الدولة ذات السيادة.
تحدى كارل شميت هذا الفهم البوداني للسلطة من خلال نص قصير كتبه في بداية خمسينيات القرن الماضي بعنوان حوارٌ حول السلطة والوصول إلى أصحاب السلطة الذي يشكل أيضاً مراجعة ذاتية لكتاباته الأولى حول الليبرالية، ويمكن فهمه أنه تشريح مضمر للنظام النازي. من الواضح في هذا النص أن شميت يعتقد بوجود قوة أسست للسلطة الحديثة، إلا أنه لا يفترض بأن هذه السلطة كانت مطلقة تماماً أو حتى غير مجزأة. على العكس من هذا، يحاجج شميت بأن ثمة ديالكتيك داخلياً بين القوة والعجز رافق السلطة منذ تشكلها في المجال السياسي مما جعل أكثر الملوك استبداداً لا يمارس السلطة بمفرده. فالملك أو الأمير، بسبب قدراته البشرية المحدودة، في أمسّ الحاجة إلى “مستشاريه وإلى تقاريرهم ومعلوماتهم”. كان هناك منذ البداية وفرة من المعلومات والاتصالات والتوصيات تضغط على الحاكم “يوماً بعد يوم” و “ساعة بعد ساعة” وفي هذا “البحر المتدفق غير المتناهي من الحقائق والأكاذيب، والوقائع والاحتمالات” يخلص شميت أنه “بالكاد يمكن لأكثر الناس ذكاءً وقوةً أن يغرف بضع قطرات منه”.
هذا يعني أن أمراء ما يسمى بفترة الحكم المطلق لم يكونوا قادرين على الاستفراد بالحكم بسبب وجود هذا التضارب والتنازع بين قوتهم أصحاباً للسلطة، وعجزهم البشري عن الإحاطة بكل شيء. قد يبدو ذكر الطبيعة البشرية للحاكم أو الأمير أمراً لا معنى له لأنه بدهي جداً، ولكن التشديد على هذه البشرية والتذكير بما فيها من عجز، وضعف، وفناء، أمرٌ مهم للغاية عند الحديث عن السلطة السياسية، بل قد نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إن الحديث عن السلطة السياسية هو حديث عن الطبيعة البشرية بالضرورة. فالقوة التأسيسية للسلطة التي تحدث عنها بودان لم تكن قط قوة مكنة وآلة فحسب، بل كانت قوة تتنازعها أبعاد نفسية وجسمانية للحاكم والمحكوم في آن معاً. بل إن النوازع الميتافيزيقية كانت حاضرة وبقوة في بدايات تشكل السلطة السياسية، وهذا ما يفسّر مثلا ازدهار الكتابات اللاهوتية ذات الطابع النثري والأدبي التي تتعلق بمسائل الحكم والرئاسة. وهذه النوازع هي أساس العجز الدائم والبنيوي الذي يطارد السلطة السياسية، وللمفارقة، أنها أيضاً أساس القوة الحيوية التي تزامنت مع بدايات الدولة الحديثة.
استمد شميت فكرته عن جدلية السلطة في الأساس من العمارة السيادية لعصر النهضة. فقصور الحكم في تلك الفترة بنيت بطريقة تفضح هذه الجدلية. ذلك أن غرف الملوك والأمراء لم تكن معزولة عن باقي غرف القصر، بل كانت محاطة بغرف متداخلة عادةً ما يطلق عليها وصف غرف الانتظار، وهذه الغرف بدورها محاطة بممرات وأروقة ومداخل فرعية وسلالم جانبية وخلفية كلها في النهاية تتصل، بطريقة أو بأخرى، بغرفة الأمير صاحب القرار النهائي. فأمام كل غرفة للسلطة المباشرة تشيّد غرفة أخرى لانتظار القرارات ولتنظيم الدخول إلى غرفة السلطة. كانت هذه القاعدة ثابتة في قصور الحكم، وهي ذاتها القاعدة التي تسري على الطبيعة البشرية؛ فلا توجد سلطة بشرية مهما عظم أو صغر شأنها بدون غرفٍ وممرات. وغرفة الانتظار -وهذا ما لاحظه شميت- كانت دوماً الممر المؤدي إلى روح أصحاب السلطة.
وجود غرف للانتظار في قصور المُلك لم يكن أمراً اعتباطياً بكل تأكيد بل هو تذكيرٌ مبطن بأن السلطة لا يمكن أن تختزل في حيّز مكاني محدود، بل لا يمكن الوصول لمن هم في السلطة دون المرور أولاً على غرف الانتظار. وإذا تمكن من في غرفة الانتظار أن يتصل بصاحب القرار مباشرة سيكون له حتماً نصيب من هذه السلطة، بل قد يحوّل غرفة الانتظار بفعل السلطة التي تحصل عليها إلى غرفة أخرى للسلطة المباشرة. ونظراً إلى حقيقة أن الحاكم صاحب القرار يعتمد على جيش من المستشارين والوزراء والكتاب والمساعدين -وغيرهم ممن ينفذون إلى غرفة الانتظار- فإن هؤلاء بدورهم يبدؤون باكتساب سلطة خاصة بهم، بل إنهم يشاركون في اتخاذ القرار السياسي من خلال صياغة المعلومات والتكهنات والانطباعات التي يجب أن تصل إلى صاحب القرار بعد تنظيمها وفرزها واختيارها.
هذا التقسيم للسلطة أمرٌّ لا مفرّ منه، بل يكاد يكون تقسيماً ذاتياً للسلطة منذ ظهورها على المسرح السياسي. ويمكن القول إن هناك حالة وحيدة فقط يمكن للسلطة أن تكون منغلقة تماماً على نفسها، وهي حالة ألا يعرض صاحب القرار نفسه على الآخرين، أن لا يتحدث إليهم، ولا يشاركهم ذات الحيّز المكاني، وهذا الأمر مستحيلٌ ولا يمكن تصوره. فما أن يحدث الالتقاء الأول والفعلي بين صاحب القرار ومن حوله، حتى يبدأ “البحر بالتدفق” والسلطة بالانشطار فيما يشبه عملية قسمة تلقائية لا تتوقف ولا تنتهي، يكون في أولها الحاكم الذي حلّت السلطة في جسده المرئي ومن بعده تأتي الأجساد والأصوات والأماكن المرئية وغير المرئية.
من المهم هنا بكل تأكيد ألّا نأخذ “غرفة الانتظار” أو “الممر” بالمعنى الحرفي الضيّق، أي الحيز المعماري أو المكاني. إذ لا بدّ من توسيع المصطلح ومدّه في أثناء تتبع تاريخ تشكل السلطة السياسية الحديثة، وفي حال الانتظام في هذا سنصل حتماً إلى النتيجة الدريدية القائلة بأن السلطة تنسحب أساساً من اللغة وأنه بمجرد مشاركة الحيز اللغوي مع صاحب القرار يبدأ الانقسام الأصيل للسلطة. والفكر السياسي الكلاسيكي التقط بطريقة ما هذا المعنى العميق “لغرفة الانتظار” وشيّد حوله نظرياته الأولى عن السلطة السياسية. فأكثر الكتابات السياسية تجريداً وصرامةً، ككتابات ميكيافيلي وهوبز وفيكو، التي ينسب إليها عادة تأسيسها للأفكار السلطوية والفاشستية، هي في جوهرها كتابات تتعلق بالطبيعة الأولية البسيطة التي تحكم العلاقات بين البشر. فخلف تلك الرموز والاستشهادات والعبارات المهيبة التي زخرت بها كتابات هؤلاء يكمن المعنى الحيوي للطبيعة المزدوجة للعلاقات والتفاعلات التي شكّلت السلطة السياسية ورسّختها لوقت طويل من الزمن.
أفول السلطة وغطرسة القوة
في عمله التأريخي المهم للفكر السياسي يصل كوينتن سكنر إلى ملاحظة مفادها أن الحداثة تحققت “لحظةَ انفصال هيكل الدولة وأجهزتها عن الحكام والمحكومين في آن معاً”. وهذه ملاحظة دقيقة وفي محلها ولكن قبل أن نمضي بها، لا بدّ من التفريق بين أمرين مهمين؛ بين استقلال السلطة وانفصالها. فالسلطة السياسية منذ ظهورها، أو تشكلها في الحيّز السياسي، كانت مستقلة عمن يحوزها. فهي لم تتحد أو تمتزج في شخص الملك أو الأمير أو المستشار -وغيرهم من أصحاب القرار- بسبب وجود تلك النوازع البشرية التي حافظت على استقلال السلطة من التجسد في شخص الحاكم والأمير. واستقلال السلطة هو ما أنتج التوتر المستمر للسلطة أو الديالكتيتك الداخلي بتعبير شميت.
قد يكون السبب في الخلط الذي جرى بين ذات الأمير والسلطة يرجع إلى دخول مفهوم السيادة على الخط المفاهيمي للفكر السياسي. فهذا المصطلح -التجريدي الغامض- تدل كل مفرداته على أن ثمة تداخلاً بين ما هو محدود ومؤقت وما هو مطلق ودائم؛ فالصلاحيات، والقرارات، والأوامر، والنواهي، والاستثناءات، والتقييدات .. كلها مفردات تدفع صوب فهم ملتبسٍ للسيادة. فصاحب القرار ليس صاحب السلطة في التصور المعاصر فحسب، بل هو السلطة ذاتها. والنظام أو الدولة لا يشيران إلى هيئات وأجهزة مستقلة، بل يشيران إلى شخص أو حزب أو جماعة واحدة. وهذا التداخل بطبيعة الحال لا يبقى في حيز المفاهيم، بل ينتقل من فضاء المفاهيم والاستعارات إلى فضاء الممارسة والتطبيق، ويكتسب خلال انتقاله قوة القانون وهيبته. وهذا ما يؤدي في نهاية المطاف إلى أن انهيار أنظمة معينة مما يعني -في ذات اللحظة- انهيارَ دولٍ بأكملها.
هنا يبرز التحدي الأصعب عند التطرق لهذه المفاهيم؛ أي القدرة على القبض على أساس هذا التداخل بين مفاهيم قد يظن للوهلة الأولى أنها مترادفات وتعمل وفق منطق واحد. إذ إن جوهر السلطة يختلف تماماً عن ظاهرها. فجوهر أي سلطة هي مسألة تتعلق أساساً بالقوة الذاتية البحتة؛ قوة تنبع من الداخل تمكن السلطة -أياّ كان مسماها- من الاستمرار دونما حاجة للجوء إلى قوة أخرى لتسويغ وجودها. بينما ظاهر السلطة هي مسألة تتعلق بالسيادة في المقام الأول والتي تكمن في القدرة على إقامة القوانين من ثمّ “كسرها” على حدّ تعبير بودان. وهي أيضاً مسألة ترتبط بجسد الحاكم؛ من هو؟ ما الطريقة التي وصل بها إلى السلطة؟ كيف يمارس سلطته؟ .. وأيّ سلطة تستلزم بلا شك توافر الجوهر والظاهر معاً. ولا تعارض في ذلك، بل إن شكليات السلطة تزامنت في الأساس مع ظهور “القوة التأسيسية” للسلطة. ولكن، فيما مضى، كان جوهر السلطة هو الذي يحرّك الظاهر ويشكله، بل في لحظات تاريخية معينة كان الجوهر يتجاوز الظاهر إذا ما نحت القرارات والإجراءات الشكلية نحو تقوّيض جوهر السلطة أو تعطيل اندفاعها.
غير أن هذه المعادلة بين الجوهر والظاهر داخل السلطة انقلبت رأساً على عقب في العصر الحديث. فظاهر السلطة انقلب إلى مجرد إظهار أو تظاهر بوجود السلطة، شيء أقرب إلى التخيل والوهم منه إلى انعكاس لحقيقة السلطة وواقعها. والإشكال هنا هو أن هذا التظاهر صار يطغى على الجوهر بحيث قد تتخلى السلطة عن جوهرها تماماً في لحظات معينة وتتكئ كليًّا على الظاهر لاستمرارها. هذا أساس التداخل في مفاهيم السلطة؛ فما يبدو لنا أنه تداخل بين صاحب القرار والسلطة، أو بين النظام والدولة، هو في حقيقة الأمر تداخلٌ على مستوى الشكل والظاهر فحسب. أما ما يجري في الجوهر هو نقيض ذلك تماماً، فثمة انفصال مستمر بين السلطة ونوازعها الأولى المؤسِّسة التي كانت تعمل على شكل ضوابط معلنة وغير معلنة لمنع السلطة من الانغلاق التام على نفسها. هذه الضوابط -وهو ما يخلص له سكنر في أطروحته- بدأت بالتلاشي شيئا فشيئا بفعل الحداثة السياسية التي استبدلت قوة العلاقات والممارسات البشرية التي كانت تحاوط السلطة السياسية بقوة الآلة والمكنة وحدها.
تتبع ظهور الآلة أو المكنة، بُعداً من أبعاد السلطة، سيعيدنا إلى القرن التاسع عشر أو الثامن عشر، أو أبعد من ذلك بحسب سكنر الذي أرّخ لهذه اللحظة وربطها بتطوّر الآلة العسكرية بحيث صار هناك “براعة عسكرية” لم تكن معهودة من قبل لدى السلطات الحاكمة. هذه القوة الوافدة على السلطة غيّرت من طبيعة القوة السياسية جذرياً، فالابتكارات والتطورات غير المسبوقة في علوم الآلة جعلت من قرارات السلطة وأدائها أكثر دقة وإحكاماً بل أكثر تجرداً. لكن الإشكال الحقيقي حدث مع التضخم الكبير لهذا البعد الوافد على السلطة بحيث لم يعد معها ممكنا أن يبقى مجرد بعدٍ من أبعاد السلطة، بل حالة ميكانيكية منفصلة لا تخضع إلاّ لمنطق قوتها الذاتية. فالآلة -والتكنولوجيا فيما بعد- لم تعد قوى محايدة تعمل لصالح السلطة السياسية حصراً، وهي قطعاً ليست مجرد وسائل تنتمي إلى العلوم التطبيقية كما يرّوج لها في الخطاب الثقافوي العمومي؛ أي أنه يمكن حصر قوتها وإخضاعها لإرادة بشرية دائماً.
القوة التي باتت السلطة السياسية تعتمد عليها أكثر ليست هي تلك القوة الذاتية التي كانت تقوم على التفاعلات البشرية بين الحكام والمحكومين، بل صارت قوة تتخطى حدود البشرية بمراحل، ويمكن القول إنها قوة -وبخلاف تعبير شميت- غير دياليكتيكية أبداً. فهي قوة قد تحررت من أيّ ضعف ولا تعترف بحدودٍ قد تقف أمام تعاظمها. وهذا تحول لافتٌ بلا شك في تاريخ السلطة السياسية، ومنه نفهم السبب وراء اهتمام فيلسوف كميشيل فوكو بالحوكمة وتقنيات السلطة لا بالفلسفة السياسية للسلطة. فهذا التحول في الاشتغال التنظيري مبرر ومنطقي، ذلك أن الحديث اليوم عن السلطة السياسية لا يدور في حقيقته عن كيفية إدارة الحوار أو الممارسة السياسية بين الأفراد الفاعلين، بل هو حديث عن تقنيات الآلة وأساليب المراقبة والضبط. أو بكلمات أخرى، لم تعد هناك قيمة فعلية للاعتبارات الحقوقية والسياسية والدينية أمام الاعتبارات الدقيقة والصارمة للآلة والتقنية الحديثة.
إن التحييد المتزايد للاعتبارات الإنسانية والحيوية لصالح قوة الآلة هو ما يوقع السلطة المعاصرة في مأزقها. فالسلطة المعاصرة عندما تحيّد هذه الاعتبارات فهي لا تتخلى عن جوانب الضعف أو التخلف كما قد تتوهم، بل إن في تحييدها هذا في الواقع تقوّيض لمفاهيم الحقيقة والمعنى قبل أي شيء. ولنا في الأنظمة النازية والفاشية مثالٌ جيدٌ على هذا، فالأنظمة الشمولية التي ظهرت في القرن العشرين، والتي تعدّ تعبيراً صارخاً عن أزمة السلطة السياسية، لم تسقط لسببٍ يتعلق بقوتها المادية أو بقدرتها على السيطرة. انهارت هذه الأنظمة لأنها حيّدت تلك المساحات الممكنة للتعبير عن النوازع البشرية المتضاربة، فانغلقت بالتالي على نفسها انغلاقاً تاماً بحيث لم تعد ترى ما يجري خارج قوتها العارية. وهذه مفارقة لافتة للغاية، فالحالة الميكانيكية التي وصلت إليها النظم الشمولية وقادتها لإلغاء أي مساحة تقع خارج سلطتها، لم تمكنها في نهاية المطاف من الحفاظ على البقاء المادي للنظام فضلاً عن المحافظة على حياة مؤيديها ومواطنيها.
هذا هو الدرس القاسي الذي يبدو أن النظم الديمقراطية الليبرالية قد استوعبته جيداً وتكافح باستمرار في سبيل ألّا يتكرر المشهد النازي والفاشي في بلادها مرة أخرى. وهي بهذا تكون أكثر النظم التي تفطّنت لقيمة “الممر” المؤدي إلى السلطة و”غرفة انتظار السلطة”. فهذه النظم نقلت الممر والغرفة لتصبح أماكن راسخة ومستقلة للسلطة أخذت شكل هيئات سياسية وتشريعية وثقافية وأدبية حقيقية وفعالة. فالصحافي والكاتب والبرلماني والمستشار والقاضي وغيرهم، هم أشخاص يلعبون أدواراً حيوية ومؤثرة في السلطة لا أدواراً شكلية. والأهم من هذا كلّه، هو أن قائمة المؤثرين المحتملين في السلطة تظل مفتوحةً ومتجددة على الدوام في النظم الديمقراطية.
ختاماً، وعودة لبوش الذي بدأنا به هذه المقالة. بعد المؤتمر الصحفي الذي أقامه الرئيس السابق راحت الصحف الأمريكية والعالمية تصفه -إما تأييداً أو استهزاءً- بصاحب القرار، حتى إن سيرته الذاتية حملت كلمة القرار فيما يشبه الهوس الحقيقي عند الرئيس بإثبات أنه هو من اتخذ القرارات الكبرى سواء في حياته الشخصية أو في إدارته للبلاد. تركيز الصحف والإعلام على عبارة “أنا صاحب القرار” وأخذها على محمل الجد يمكن أن نصفه بأنه الفهم البوداني للسلطة المتأثر بقدر كبير بمفهوم السيادة؛ أي أنّ بوش بوصفه رئيس البلاد فمن المنطقي أن يكون هو صاحب القرار الفعلي. ولكن إذا استحضرنا استعارة “غرفة الانتظار” أو “الممر” في النظر في ديناميكيات السلطة في بلدٍ كالولايات المتحدة، حيث التفاعلات بين القوة وتوازن القوى لا تزال دائرة، سندرك أن من ابتدع القرارات الكبرى في إدارة بوش لم يكن أحد سوى ديك تشيني نائب الرئيس ومستشاره.
والفرق شاسع للغاية بين خلق القرار ابتداءً أو صياغته أو فرزه ومجرد اتخاذه. هذا ما يفرّق دولاً، كالولايات المتحدة الأمريكية، عن الدول الأخرى؛ أنها ما زالت تحافظ على وجود هذا التمايز بين خلق القرار واتخاذه. فسؤال السلطة الرئيس، والأهم، لا يتعلق في جوهره بمن هم في السلطة، بل بكيفية الوصول إلى السلطة.