في مقال مشهور، نشر في عام ١٧٨٤م، إجابة على سؤال «ما هو التنوير؟»، يوضح الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط أن مشروع التنوير يرتبط ارتباطا وثيقا بتحرير الإنسان وباستخدام العقل البشري. في هذا الإطار، يرى كانط أن البشر لا يقبعون في حال من القصور — المتعارض مع الحالة التنويرية الناضجة — لأنهم لا يستطيعون استخدام عقولهم؛ بل هم كذلك لأنهم لا يمتلكون الجرأة اللازمة للتفكير المستقل، حيث أنهم اعتادوا، وربما استمرأوا، الاعتماد على سلطات سياسية وفكرية ودينية للتفكير نيابة عنهم: «إنه من أجل هذا التنوير لا يتطلب الأمر شيئا آخر غير الحرية … أي حرية الاستعمال العمومي للعقل في كل الميادين. … إن استعمال الإنسان لعقله استعمالا عموميا يجب أن يكون دائما حرا، وهو وحده يمكن أن يؤدي إلى تنوير الناس». على هذا، فإن المساحة المتطلبة للاستعمال العمومي للعقل تُؤَسَّس عن طريق نشر الحرية، وتحرير الإنسان من وصاية الغير تُؤَمَّن وتُحفظ عن طريق الاستعمال العمومي للعقل.
على الرغم من تفاؤل كانط، إلا أن القرن والنصف التالي لنشر مقاله قد شهد تكاثراً في أشكال الهيمنة والطغيان التي بدا أنها انطلقت من ونتجت عن تقدم العقل التنويري، لا العكس. من بين أشكال هذه الهيمنة: الهيمنة الاقتصادية الملازمة لصعود نمط الإنتاج الرأسمالي، والهيمنة السياسية المنعكسة في تمدد الاستعمار وصعود الأنظمة الفاشية، والهيمنة التقنية المتمثلة بأبشع صورها في مستوى التدمير الناتج عن حربين عالميتين. ولهذا، فقد تعددت النظريات والمدارس الفلسفية التي اتخذت موقفاً مشككاً من العقل ومن مشروع التنوير منذ بداية القرن العشرين، ابتداءً من نيتشه، مرورا بوجوديةسارتر، وأنطولوجية هايديغر، وتفكيكية دريدا، وجينيالوجية فوكو، انتهاءً إلى الفلسفة المعاصرة عند ژيژك وباديو. ومع ذلك، فمازلنا اليوم نجد من يغض الطرف عن كل هذا، سواءً كان ذلك عن جهل أو عن تجاهل، ليمضي في التغني بكل بساطة بمبادئ مشروع التنوير والعقل التنويري.
ولعل من أبرز من يجسدون هذا التوجه بعض من يطالبون المسلمين بـ«الإصلاح الديني» في الوقت الحاضر. يظهر هذا عند كثير من أصحاب وسمَي #عقلانيون و#تنويريون في تويتر وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي، كما يظهر عند العديد من الكتاب الغربيين ممن يطالبون المسلمين بـ«تبني العقل»، وينادون بـ«تنوير إسلامي»، أو بـ«عصر عقلانية إسلامي»، أو بـ«إصلاح إسلامي»، على غرار الإصلاح البروتستانتي في أوروبا، سواءً كان المطالب بذلك توماس فريدمان أو آيان حرسي علي أو غيرهما. قد تتنوع أسباب تجاهل مثل هؤلاء الكتاب لنقد الفلسفة الحديثة لمشروع التنوير والعقل التنويري في هذا السياق: فعند البعض قد ينم ذلك عن سذاجة وقلة اطلاع، ولآخرين قد يكون الأمر من قبيل «ما يصلح لنا لا يصلح لغيرنا (حتى يلحقوا بنا)» مفصحين بذلك عن نظرة استشراقية مبطنة تضع المسلمين خارج إطار التاريخ، وللبعض الآخر قد لا يخرج الأمر عن كونه مجرد معاداة صريحة للآخر. ولكن لعل أبرز دلالة لمثل هذه التعليقات هي ميل توجهات أمثال هؤلاء الكتاب للمحافظة، إن لم يكن انتماؤهم لليمين الأكثر تطرفاً من ذلك؛ وهذه المحافظة تتجسد في مثل هذا المقال في صحيفة الوول ستريت جورنال، والذي يقدم عبدالفتاح السيسي على أنه رائد هذا الإصلاح. ذلك أن جميع الفلاسفة المعنيين بنقد التنوير والعقل التنويري ينتمون لليسار (باستثناء هايديغر، والذي هو الآخر لاينتمي للتوجه الليبرالي المحافظ السائد). ولعل أهم المدارس الفكرية اليسارية التي عنت بهذا السؤال عناية مركزية هي مدرسة فرانكفورت المُؤَسِّسَة للنظرية النقدية، والتي تعنى هذه التدوينة بتعريف القارئ بأبرز منظريها وبسط طبيعة اختلافاتهم حول سؤال التنوير والعقل التنويري، وسأقتصر في ذلك على محورين: السياق الاقتصادي والتاريخي، ودور العلم والتقنية في ترويض الطبيعة.
النقد الموجه من قبل رواد مدرسة فرانكفورت ضد مشروع العقل التنويري، بالرغم من كونه لاذعاً، لم يكن أبداً رفضاً رجعياً بدائياً له، ناهيك عن دعوة إلى المحافظة التقليدية. حتى ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، من أوائل منظري مدرسة فرانكفورت واثنين من أشد منتقدي مشروع التنوير فيها، يُسَلِّمُون بهذا في كتابهما المعنون «جدل التنوير»:
«لم يكن لدينا أدنى شك أن الحرية في المجتمع لا انفصال لها عن الفكر المتنور. كانت هذه نقطة انطلاقتنا الأولى. بل لقد كان علينا أن ندرك وبوضوح أن مفهوم هذا الفكر، ناهيك عن الأشكال التاريخية العينية، ومؤسسات المجتمع التي يتواجد فيها هذا الفكر، إنما تنطوي على بذرة هذا التراجع الذي نعانيه في أيامنا في كل مكان. والتنوير إن لم يبادر بعمل تفكيري يطال هذه اللحظة من التراجع، فهو كمن يقوم بترسيخ قدره الخاص.» (جدل التنوير، ص١٦)
هذا التوتر، بين صورة العقل التنويري كالبشير لتحرير الإنسانية وصورته كالمحرك وراء الهيمنة والرجعية الحضارية، هو دائم الحضور في كتابات المنظرين النقديين من مدرسة فرانكفورت. بالإضافة لـ«جدل التنوير» لهوركهايمر وأدورنو، تظهر ملامح هذا التوتر في كتاب «إيروس والحضارة» لهربرت ماركوزه، وفي كتاب «التحولات البنيوية في الفضاء العام» أول كتاب ليورغن هابرماس، كما يظهر في مقالين مهمين: «النظرية التقليدية والنظرية النقدية» لهوركهايمر (رابط المقال باللغة الانجليزية)، و«التقنية والعلم كـ«إيديولوجيا»» لهابرماس (رابط المقال باللغة الانجليزية).
العقل التنويري في سياق التاريخ والاقتصاد
مفكروا مدرسة فرانكفورت متفقون على الأهمية المركزية لمعرفة السياق التاريخي والاقتصادي للحكم على أي موضوع. يوضح هوركهايمر أن النظرية التقليدية تصور نفسها بهيئة مطلقة متحررة من قيود التاريخ، متجاهلة بغير حق الظروف الاجتماعية التاريخية، وعلى رأسها احتياجات الصناعة، والتي تؤدي إلى نجاح بعض الأفكار على غيرها. هكذا؛ يصبح العلم شيئاً منفصلاً عن المجتمع، متجسداً كصنف من أصناف الحقيقة الأزلية، مخفياً سياقيتها في سلسلة التصنيع الاجتماعية والاقتصادية. في المقابل، في النظرية النقدية، الاعتراف بمثل هذه السياقية التاريخية يمتد من ماوراء حيز الاكتشاف العلمي والتنظير إلى أبسط المكونات: أعضاء وأجهزة الإدراك، والمواد التي تُدرَك بها، وبالتالي أشكال التعقل والتجريد التي تنشأ عنها.
الغاية من هذا الاعتراف بالسياق التاريخي ليس دعوة الناس للتسليم بواقع اجتماعي-اقتصادي يتسم بالحتمية. بل على العكس، لأن النظرية التقليدية تضخم من صورة الفرد كذات حرة عاقلة مستقلة تمام الاستقلالية، المجتمع يصاب بالعمى تجاه الظروف التاريخية غير الضرورية التي تكمن وراء مُسَلَّمَات الإدراك والتعقل، متخذة بذلك كـ«طبيعي» ما هو في الواقع اجتماعي وتاريخي. نتيجةً لذلك؛ يفشل الناس في التصدي لهذه التحديات التاريخية التي تواجههم، مستسلمين لها كـ«طبيعة» لا يمكن التغلب عليها. بأخذ السياق الاجتماعي-الاقتصادي التاريخي في الحسبان، مفرِّقاً بين ذلك وما هو في الواقع طبيعياً، النظرية النقدية تحث الناس على إعادة النظر في الاطار العام الذي يعيشون فيه. هذا يمكنهم من التشكيك بمعايير الحكم الأساسية فيه—مثلا: أفضل، مفيد، مُنتِج، إلخ—ومن إدراك أن مكوناته الفردية—مثل الفوارق الطبقية، وتقسيم العمل—منشؤها هو العمل الإنساني القابل للمراجعة والتغيير. من غير هذا الموقف الناقد، العقل نفسه يتقلص إلى مجرد أداة، «ليس أكثر من مساعد للآلة الاقتصادية التي تشمل كل شيء.» (جدل التنوير، ص٥٢)
يتفق ماركوزه مع هوركهايمر وأدورنو في إدانتهما للعقل الأداتي والموقف غير النقدي من التاريخ الذي يتسبب فيه. يناقش ماركوزه فكرة سيغموند فرويد عن «مبدأ اللذة» (pleasure principle)، والتي تدفع الناس طبيعياً للسعي وراء اللذات ولتجتهد لإشباعها بشكل فوري: تحت وطأة كبت الغرائز—المفروض خارجياً ابتداءً، ثم داخلياً كجزء من الجهاز العقلي—يتحول «مبدأ اللذة» إلى «مبدأ الواقع» (reality principle)، والذي فيه يؤخر الاشباع، وتُسَخَّر الدوافع الجنسية للعمل المُنتِج، أي محكومة من قبل الحاجة الاقتصادية.
ولكن حسب ماركوزه، فإن اعتراف فرويد بدور السياق الاجتماعي والاقتصادي في هذا التحول لا يفَرِّق بشكل كافٍ بين الواقع البيولوجي والواقع الاجتماعي والاقتصادي، ولذلك رأى ماركوزه ضرورة تقديم مصطلحين معنيين بهذا الجانب الثاني: أولاً، «فائض القمع» (surplus-repression)، ويمثل القيود المستلزمة للهيمنة الاجتماعية، ويُمَيَّز عن القمع الأساسي أو الضروري، والذي يمثل التحولات الغريزية اللازمة لاستمرار الجنس البشري في الحالة الحضارية. ثانياً: «مبدأ الأداء» (performance principle)، وهو النمط التاريخي السائد لـ«مبدأ الواقع» (reality principle).
كما في هوركهايمر وأدورنو، الفرق عند ماركوزه هو بين تلك العوامل التي هي ضرورية وطبيعية في الواقع من جانب—مثل الحاجة البيولوجية لتجنب الموت، ومثل الحاجة الاجتماعية الأساسية للحضارة—ومن جانب آخر تلك العوامل الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية. هكذا يفسح ماركوزه المجال لتكوين «مبدأ واقع» غير قمعي، والذي سيخدم كأساس لنوع أسمى من العقل غير الأداتي، ولنظام حضاري مُحَرَّر من أشكال الهيمنة الاجتماعية.
من بين الأعمال التي بين أيدينا، يبدو كتاب هابرماس «التحولات البنيوية في الفضاء العام» الأكثر اهتماما بالسياق الاجتماعي-الاقتصادي التاريخي بشكل مباشر. الكتاب بأكمله يجعل مهمته تتبع منشأ الفضاء العام—وهو موضع تجلي العقل التنويري حسب مقال كانط آنف الذكر—وتطوره عبر الزمن. بالنسبة لهابرماس، الفضاء العام البرجوازي يتبع لسياق تاريخي محدد، ويستحيل تجريده من ذلك السياق. بتعامله مع الفضاء العام كصنف تاريخي، يوضح هابرماس العوامل غير الضرورية التي أدت إلى صعود الفضاء العام، بما في ذلك المعارضة البرجوازية للأنظمة الملكية، وتمدد النمط الرأسمالي في التجارة، وتطوير وسائل التواصل والصحافة وثقافة المقاهي وعالم الأدب، بالإضافة إلى التحولات التي رافقت كل هذا في مفاهيم السلطة، والتمثيل، والرأي العام. بإمداده لهذا التحليل إلى الزمن المعاصر، يوضح هابرماس مشروطية التطورات اللاحقة التي أدت في النهاية إلى انحلال الفضاء العام، ومن تلك التطورات التدخل المتزايد من قبل الدولة في الأمور الشخصية والخاصة، والتحولات في البُنْيَة العائلية، وتطور واتساع دائرة الثقافة الاستهلاكية الجماعية. آخذاً بجدية وصفة كانط لفضاء عام حر كموضع تجلي النقاش العقلاني، باستقرائه الدقيق للعوامل الاجتماعية-التاريخية المتعلقة بمآله، يفسح هابرماس المجال لإعادة حيويته في المستقبل.
لكي تستحق أي نظرية مسمى «نقدية»، لا بد منها أن تفحص السياق التاريخي بدقة وتكون على استعداد للتشكيك حتى في مقدماته الأساسية التي تعتمد عليها. من خلال إدراكهم للمشروطية التاريخية للمؤسسات والمبادئ الاجتماعية، وحتى المُسَلَّمَات الأساسية للإدراك والحكم، يكشف المنظرون النقديون الآليات والشروط المسبقة التي تؤدي إلى تحول العقل إلى منبع للهيمنة في المجتمع. بفعلهم هذا، يصبح بإمكانهم التفكير بشكل مبدع عن كيفية تغيير هذه الآليات والشروط المسبقة لمساندة قضية الحرية الإنسانية.
العقل التنويري في سياق العلم والتقنية وترويض الطبيعة
من خلال جهدهم لنزع صفة «الطبيعة» عن واقع الآليات الاجتماعية-الاقتصادية التاريخية، لتحرير الإنسان من الحتمية التاريخية، يقوم المنظرون النقديون بتحديد ما هو في الحقيقة طبيعي. كجزء من هذا المجهود، لا بُد لهم من التعامل مع تصورات مختلفة لمسألتي العلم والتقنية، واللتان، كجزء من التطور الحضاري، يتم استخدامهما كوسيلة لترويض الطبيعة بهدف إفساح المجال لتحسين الأوضاع المادية للإنسانية. على أبسط المستويات، هذا يقتضي تحديد طبيعة العقل العلمي والتقني، ومعالجة سؤال ما إن كانت الهيمنة على الطبيعة خلال هذه الوسائل تؤدي ولا بد إلى الهيمنة على البشر.
هوركهايمر وأدورنو يقولان بأن التنوير، في خطوة متعَجِّلة ومسبقة، قام بمحاولة تطعيم نفسه ضد آثار الأساطير بأن ساوى بين الفكر والرياضيات: «إذ يماهي الفكر مسبقاً بين الحقيقة والعالم الآخذ صورة رياضية ومنظمة بشكل كامل، فإن التنوير يعتبر نفسه بمعزل عن الأسطورة. إذ يدفع التنوير بالفكر للرياضيات. ولهذا السبب تطورت الرياضيات وتحولت إلى حجة مطلقة.» (جدل التنوير، ص٤٦) هكذا، يصبح الفكر نفسه مجرد آلة مادية متجسدة: «لقد تحول الفكر إلى سيرورة مستقلة بشكل أوتوماتيكي، مضارباً بذلك على الآلة التي أوجدتها هذه السيرورة، لدرجة حلت هذه الأخيرة مكانها.» (جدل التنوير، ص٤٧) بمجرد أن يُجعَل العقل أداة بهذا الشكل، يصبح مُكَوِّناً مركزياً في آلة التصنيع الاقتصادي، لا في خدمة غايات الإنسانية ككل، بل بالعكس، لخدمة مصالح فئة صغيرة من الأفراد بتعزيز قواهم وتمكينهم من الهيمنة على الآخرين.
هكذا، تُحَرَّف الوسائل العلمية والتقنية عن مقصدها الأصلي—السيطرة على الطبيعة لغاية تحقيق ودعم الحرية الإنسانية—إلى مقصد الهيمنة الاجتماعية. بالتالي، فإن التطور اللامتناهي للعلم والتقنية يجعل البشرية أكثر خنوعاً واستعباداً، لا العكس. ولهذا، فإن التطور الحضاري يصبح مبتوراً، حيث أن البشرية تكافح الآن ضد الطبيعة وكذلك ضد قوى الهيمنة الاجتماعية التي تعيق بشكل كبير فعالية كفاحها ضد الطبيعة. على هذا الأساس، يصبح من الضروري إمكانية تصور مجتمع مختلف، ينعدم فيه القمع والهيمنة، لكي يُسَخَّر العلم والتقنية لغاية السيطرة على الطبيعة وتحرير الإنسانية، لا كأداة في آلية التصنيع.
يتصور ماركوزه هذه المعضلة ويقترح حلولاً لها أكثر جذرية حتى من هوركهايمر وأدورنو، رغم اتفاقه معهما على أن العلم والعقل العلمي اليوم قد أصبح مرادفاً للموت والتخريب والقمع العالمي. أولاً، هو يخالفهما في تصورهما بأن تحرير الإنسانية يكون عن طريق الهيمنة على الطبيعة وترويضها، مجادلاً على العكس بأنه لا بد من أن يتم التوافق والانسجام بين الإنسانية والطبيعة في علاقة خالية من الهيمنة. ثانياً، من خلال التوافق والانسجام مع الطبيعة، يمكن للإنسانية أن تطلق العنان لهذه القوى الطبيعية كتهديد موجه ضد آليات الهيمنة الاجتماعية، والتي لعبت دوراً في قمعها.
متناولاً النقطة الأولى، ينطلق ماركوزه من فكرة فرويد بأن الطبيعة التي يكبتها الإنسان ويروضها لا تقع فقط في العالم الخارجي، بل كذلك، وربما في المقام الأول، تقع داخل الإنسان نفسه. لأنه يفتقد دافع ذاتي لإجادة الصنعة والاتقان، لا بُد للإنسان أن يكبت غرائزه الطبيعية، محولاً إياها إلى طاقات في خدمة العمل والصناعة. في النظام الحالي، المحكوم من قبل «مبدأ الأداء»، هذا الكبت للطبيعة لوحده يضمن استمرارية وجود الحضارة، وأي محاولة لتحرير الغرائز الطبيعية من الكبت ستتسبب في القضاء على العمل، وتحطيم الحضارة، وسقوط الإنسانية في حالة متوحشة. وظيفة العقل كما نعرفه اليوم هو مبني على «مبدأ الأداء»، وهدفه هو كبت «مبدأ اللذة». لكن، كما في هوركهايمر وأدورنو، فإن العقل في صورته الحالية يقود الإنسانية إلى طريق مسدود: العلم والتقنية اللذان، مبدئياً، يجب أن تقضي على الحاجة وتؤدي إلى حالة من الوفرة للجميع يُستَخدَمَان، بالعكس، لضمان التوزيع غير العادل للثروة وللدفاع عن نظام هرمي للقوة.
للقضاء على هذا النظام المبني على الهيمنة، يقترح ماركوزه تحولاً جذرياً في «مبدأ الواقع» الذي يقع وراءه. «مبدأ الواقع» السائد تاريخياً—«مبدأ الأداء»—يجب أن يُنبَذ ويُبَدَّل بمبدأ غير قمعي، يقوم بتحرير الغرائز والتوافق بين الإنسانية والطبيعة، داخلياً وخارجياً. تحت حكم «مبدأ الواقع» الجديد، الخط الفاصل بين الذات والمادة تصبح ضبابية ومتداخلة، حيث أن الإنسانية أصبحت أخيراً منسجمة مع الطبيعة في نظامٍ خالٍ من القمع والكبت. بتحرير الغرائز من كبت النمط العقلي الذي عفا عليه الزمن—العامل تحت «مبدأ الأداء»—يمكن لنمط جديد من العقل، والذي بإمكانه تحمل نظام جديد مبني على إشباع اللذات، أن يتكون. هذا النمط من العقل سيهدد بشكل فعَّال المؤسسات القائمة في النظام الاجتماعي المبني على الهيمنة.
في المقابل، فإن هابرماس يوجه تحدياً مباشراً لماركوزه على إمكانية وجود مثل هذا النمط الجديد من العقل. متتبعاً عواقب هذه الفكرة، يقول هابرماس بأن رؤية ماركوزه ستتضمن صيغاً جديدة للتشكيل النظري، وبشكل أوسع منهجية علمية مختلفة تماماً عن تلك المتَّبعة حالياً، وذلك يستلزم لا شيء أقل من تكوين «علم جديد» و«تقنية جديدة». يجادل هابرماس بأنه سيصعب على ماركوزه الدفاع عن مثل هذه الأطروحة لعدة أسباب. أولا، لأنه يقول بأن العلم الحديث لا يمكن أن يُدرَك بصفته مشروعاً خارقاً تاريخياً إلا إذا كان بالإمكان تصوُّر مخططاً بديلاً واحداً على الأقل. ثانياً، فإن هابرماس مقتنع بأن هناك علاقة محايثة بين التقنية المعروفة لدينا وبين بنية ما يسميه «الفعل العقلاني الهادف» (purposive-rational action). أهم من ذلك في نظر هابرماس هو أن مفهوم «العلم الجديد» غير القامع لا يمكنه الصمود أمام الفحص المنطقي الدقيق إذا أراد المحافظة على أي صفة من الصفات التي جعلته موجهاً نحو غاية التحكم التقني. إذا كان هابرماس صحيحاً في تحليلاته، فإن مشروع ماركوزه بأكمله—لتكوين أساس لنظامٍ خالٍ من القمع، بما في ذلك نمط جديد غير قمعي من التقعل—يقع محل الريبة والشك.
يقترح هابرماس أخذ تشخيصات ماركوزه على كونها مجرد موقف بديل تجاه الطبيعة، والذي فيه يُعَامَل الطبيعة على أن لها ذات، وتكون علاقتنا بالطبيعة لا علاقة هيمنة واستغلال، بل علاقة ذاتوية بينية (intersubjective) من التفاعل والتواصل. تغيير كهذا سيمثل منحىً جديداً للتطور، ولكن معايير العقل التي تقع وراءه ستبقى كما هي. ولكن هابرماس ليس متفائلاً حتى بهذا الاحتمال: لأن التفاعل الذاتوي البيني ما بين الإنسان وأخيه الإنسان لم يتحرر بعد من معضلة الهيمنة، فكيف يأمل الإنسان أن يكوِّن أي علاقة كهذه مع الطبيعة بشكل مسبق، ناهيك عن علاقة كهذه مع الطبيعة تكون خالية من الهيمنة؟
على الرغم من هذا، فإن هابرماس يتتبع سؤال الذاتية في تكوين مفهوم العقل عنده، مُمَيِّزاً بين «العمل» (الفعل العقلاني الهادف (purposive-rational action)، والذي يتكون من الفعل الأداتي أو الاختيار العقلاني) و«التفاعل» (والذي يتكون من الفعل التواصلي (communicative action)). منطق العمل يطغى في حيز الأنظمة التقنية، والتي تشهد توسعة دائمة تحت نمط الإنتاج الرأسمالي. يرى هابرماس أن في مراحلها المتأخرة، تخضع الرأسمالية لتحول جذري نتيجة التدخل المتصاعد من قبل الدولة. نتيجة لهذا، فإن السياسة لا تستمر كمجرد ظاهرة تابعة للبنية الفوقية (superstructure)، كما في مراحل سابقة للرأسمالية، ولذلك، فعلى النقد الاجتماعي أن يتضمن أكثر من مجرد الاقتصاد السياسي، كما في زمنماركس. لكي تبرر نفسها، فإن القوة السياسية تقوم بالبحث عن أيديولوجيا جديدة لتُكسِبها شرعية: وتلك هي أيديولوجيا الإنجاز (موفرة الفرصة لإمكانية الصعود اجتماعياً)، وتأمين الضمان الاجتماعي. بهذا الفعل، تقوم بتوسعة صلاحيات أنظمتها التقنية، واضعة إياها في حيز «الفعل العقلاني الهادف»، أي وراء حيز «الفعل التواصلي التفاعلي» والنقاش العمومي. بهذه الطريقة، يتحول العلم والتقنية إلى أيديولوجيا ملازمة لصعود الدولة التكنوقراطية.
هكذا، نرى أن هابرماس يبدو على اتفاق مع هوركهايمر وأدورنو حول الغاية من العقل العلمي والتقني، والذي يرون بأنه تحرير الإنسانية من خلال إخضاع الطبيعة للهيمنة والسيطرة. ولكن هوركهايمر وأدورنو يبدوان أكثر حساسية، إن لم يكونا مصابَين بنوع من جنون الارتياب، تجاه العواقب الوخيمة، وأحياناً القاتلة، التي تنتج عن استغلال العلم والتقنية لغاية الهيمنة الاجتماعية. في المقابل، فإن هابرماس يتمكن من تتبع تاريخ تطور العقل العلمي والتقني في المجتمع خطوة خطوة، مُمَكِّناً إياه من تكوين صورة دقيقة عن كيفية عملها في المجتمع، وكيف يتم استخدامها كأيديولوجيا. كذلك، فإن هابرماس يقدم نقداً لاقتراح ماركوزه لعقل علمي وتقني جديد، مشككاً في إمكانية وجود نظام مبني على مثل المقدمات التي يقترحها ماركوزه.
بالرغم من أن سؤال العقل التنويري يحتل مكاناً مركزياً في النظرية النقدية، إلا أن الاجابات المختلفة التي يقدمها مفكروها هي بعيدة عن السذاجة والتبسيط غير المبرر. كل المفكرين الذين تم تناولهم مدركون لاحتمالية أن يكون العقل قوة للهيمنة، لكنهم مع ذلك يحاولون استنقاذ ما يمكنهم استنقاذه من قوته التحريرية الكامنة.
بالنسبة لهوركهايمر وأدورنو، فبالإمكان تشخيص التنوير كمرض مزمن، حيث أن طبيعة العقل الذي ينشأ عنه لاعقلاني إلى أبعد الحدود، ولهذا فإنه لا فرار منه إلا بالتغلب عليه بشكل كامل. يمكن تشخيص موقفهم على أنه تشاؤم ثوري: منبع إبداع نظري مخالف لواقع العالم المعاصر إلى درجة أنه، بشكل يبدو متناقضاً، ينتهي إلى نوع من الانهزامية السياسية على أرض الواقع، كما يمكن استقراء ذلك من واقع هذين المفكرين في حياتهما العملية. مقارنةً بهما، فإن مشروع ماركوزه يبدو متفائلاً: بالرغم من سيطرة الهيمنة والعقل الأداتي في الوقت الحاضر، إلا أن ماركوزه يتصور إمكانية إيجاد عالم مثالي قادر على التغلب على النظام الهيمنة القمعي بشكل كامل، وإن احتاج ذلك بعض الوقت. مثل هذا التغيير سيكون جذرياً إلى حد أنه سيُغَيِّر من طبيعة العقل، جاعلاً إياه منسجماً تمام الانسجام مع حاجات الإنسانية الجديدة غير القمعية. مشروع هابرماس يبدو الأكثر تفاؤلاً من بين جميع المفكرين المتناولين أعلاه. بالرغم من أخذه المشروع النقدي محمل الجد، إلا أنه يقدم رؤية إيجابية تبدو قابلة للتطبيق من خلال تعديلات متواضعة نسبياً للنظام السائد. مشروعه يسعى للحد من تجاوزات النظام الرأسمالي القائم بتوفير فضاء عام للتواصل الذاتوي البيني والنقاش العاقل، والذي يتاح فيه الاتفاق على الممارسات السلوكية عن طريق تكوين إرادة ديمقراطية جماعية. هكذا، فبالرغم من حساسية هابرماس لإمكانية استغلال العقل لخدمة غاية الهيمنة، إلا أنه يقوم بإرجاع النظرية النقدية في دورة كاملة إلى كانط، والذي يتفق معه بأن الجوهر التحريري للعقل يتجسد في ذلك الحيز المفتوح المسمى الفضاء العام.