منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر حصلت تحولات في خطاب “مكافحة الإرهاب”، جلّها كانت تصب في أمرين: أولاً، محاولة توسيع المقاربة الأمنية والمخابراتية البحتة، لتشمل الأسباب الأوسع التي قد تؤدي لارتكاب أعمال العنف الإرهابي من عوامل اجتماعية أو اقتصادية، وثانياً، محاولة رد الاتهامات الموجهة للخطاب بأنه استشراقي انتقائي متحّيز، فيُطلَق مصطلح “الإرهاب” بناءً على لون بشرة أو ديانة مرتكب العنف، وتُغفل أعمال إرهاب أخرى لأن مرتكبها ليس “عربياً أو مسلماً”. هنا يمكننا طرح تساؤل: هل نجح الخطاب الغربي لمكافحة الإرهاب وأجهزته في تبني مقاربة شمولية تساعد على وقف الإرهاب أو منعه قبل حصوله؟ وهل محاولات تجديد الخطاب مكنته من الخروج من تهمة الانتقائية والتحيز؟
في هذا المقال، أريد أن أجادل باستمرارية النزعة الاستشراقية والأمنية في الخطاب الغربي لمكافحة الإرهاب حتى بعد محاولات تجديده، ومع أنه حدث تحول في مؤسسات مكافحة الإرهاب، فإن هذا الخطاب لم يتمكن من تجاوز المقاربة الأمنية والاستشراقية، بل على العكس، توسعت معاملته الأمنية لتشمل قطاعات أخرى كانت في السابق تعمل بعيداً عن الهاجس الأمني.
التحول الاصطلاحي: من مكافحة الإرهاب، إلى مكافحة التطرف العنيف، إلى منع التطرف العنيف
تعريف مكافحة الإرهاب هي قضية سياسية بالدرجة الأولى
أولاً، تتعدد تعريفات الإرهاب، والأمم المتحدة لا تضع تعريفاً دقيقاً للإرهاب لأنه لا توافق عليه. فحتى اليوم تجاهلت أغلب القرارات الصادرة عن مجلس الأمن في الأمم المتحدة تعريف الإرهاب تعريفاً واضحاً دقيقاً. وكأن ترك درجة من الغموض في التعريف أمر مقصود، وهناك صعوبة في الوصول لإجماع بين الدول لاختلاف وجهات النظر والمقاربات الفكرية والسياسية للمسألة. وهنا تبقى ثغرة كبيرة: كيف يمكن توقع تضافر جهود العالم في مقاومة ظاهرة لا يُتفق على تعريفها؟
ثانياُ، إذا سلطنا الضوء على تعريف الإرهاب الذي تبنته الدول العربية، فسنجد أنها استثنت منه الكفاح المسلح ضد الاحتلال، مما يؤكد أن عملية تعريف الإرهاب قضية سياسية بالدرجة الأولى. حيث تبنت جامعة الدول العربية عام 1998 “الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب”، والتي تعرَف الإرهاب بأنه “كل فعل من أفعال العنف أو التهديد به أياً كانت بواعثه أو أغراضه، يقع تنفيذاً لمشروع إجرامي فردي أو جماعي ويهدف لإلقاء الرعب بين الناس أو ترويعهم بإيذائهم أو تعريض حياتهم أو حريتهم أو أمنهم للخطر أو إلحاق الضرر بالبيئة أو بأحد المرافق أو الأملاك العامة أو الخاصة او احتلالها أو الاستيلاء عليها أو تعريض أحد الموارد الوطنية للخطر”. وبعد هذا التعريف نجد أن الاتفاقية تضع استثناءات للأعمال التي لا تندرج تحت مسمى الإرهاب وأولها الكفاح المسلح لمقاومة الاحتلال والتحرر وتقرير المصير، فتنص المادة الثانية بأنه “لا تعد جريمة حالات الكفاح بمختلف الوسائل بما في ذلك الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي والعدوان من أجل التحرر وتقرير المصير وفقاً لمبادئ القانون الدولي، ولا يعتبر من هذه الحالات كل عمل يمس بالوحدة الترابية لأي من الدول العربية”. إذاً نجد أن الدول العربية تستثني الكفاح المسلح للاحتلال من تعريف الإرهاب، على الأقل على المستوى النظري والخطابي.
ثالثاُ، بالمقابل، نجد أن دولاً أخرى على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، تعرف الإرهاب تعريفاً واسعاً يمكنها من توظيفه بشكل يسوغ للاحتلال. حيث استغلته سياسياً لتبرير غزو أفغانستان لعشرين عاماً، واحتلال العراق لأكثر من ثمانية أعوام. ومع أن هذين الاحتلالين يخالفان القانون الدولي، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ما زالت ملتزمة على المستوى الخطابي الرسمي بأن احتلالها لأفغانستان والعراق كان مبرراً ومشروعاً. في حالة العراق مثلاُ صرّح كوفي عنان، أمين الأمم المتحدة في ذلك الوقت، بعدم شرعية حرب العراق وأنها تخالف ميثاق الأمم المتحدة. وفي حالة أفغانستان، فالاطلاع على المواثيق والقوانين الدولية تبين لنا عدم شرعية الاحتلال.
رابعاً، نلاحظ أن كثيراً من الدول تعرف الإرهاب بطريقة غامضة تسمح لها بتوظيفه لتقييد الحريات، وقد عبّرت كثير من دوائر وجهات ضمان الحقوق المدنية عن مخاوفها من استغلال خطاب مكافحة الإرهاب لتقليل هامش حرية التعبير وحيوية منظمات المجتمع المدني، ويرجع ذلك غالباً إلى أن كثيراً من الدول تبنت تشريعات وطنية تُعطي تعريفات فضفاضة للإرهاب، وتمنح سلطة واسعة أو مطلقة للأجهزة الأمنية للتضييق على الأفراد والمنظمات لشبهة التعامل مع جهات مشبوهة بالإرهاب، بدون وجود أدلة واضحة بالضرورة على ارتكاب جريمة، بالإضافة إلى إعطاء حق الاعتقال بغياب عملية قضائية شفافة وعادلة، أو تبرير سوء المعاملة والتعسف. ولعل سجن جوانتانامو مثال جلي لذلك، فهو سجن غير قانوني حسب المواثيق الدولية و”موقع تفشى فيه التعذيب وسوء المعاملة” كما تؤكد احدى التقارير الأممية.
الانتقال من “مكافحة الإرهاب” إلى مكافحة/منع التطرف العنيف
انْتُقِل من خطاب “مكافحة الإرهاب” إلى “مكافحة/منع التطرف العنيف” في محاولة لتفادي الانتقادات الموجهة له، ولكن لم تفلح هذه المحاولة . لعل أهم خاصية تميز أجهزة “مكافحة الإرهاب” أنها تقع ضمن المنظومة التقليدية لمكافحة الجرائم، التي توظف الأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعدالة الجنائية، بالإضافة للعمل على المستوى الدولي من تبادل المعلومات حول الأفراد والمجموعات المشتبه بارتكابها للجرائم الإرهابية، وأحياناً شن العمليات العسكرية والأمنية للتصدي لهم عبر حدود عدة دول. ولكن بسبب التوظيف الإشكالي لهذه المنظومة يمكننا القول بأن مصطلح “الإرهاب” و”مكافحته” هو مصطلح محمّل، يحمل دلالات شائكة ومذمومة في بعض الأحيان. لم تحد انتقادات مكافحة الإرهاب من استمرار مقاربته الأمنية. ولكن رداً على هذه الانتقادات، اسْتُحدثت مقاربة إضافية تحت مسمى “مكافحة التطرف العنيف”، و”منع التطرف العنيف”، وفي الكثير من الأحيان يُستخدم المصطلحان بشكل مترادف.
الفكرة الأساسية لهذه المقاربة أنها تزعم أنها تنتقل من “مقاربة أمنية” إلى “مقاربة مجتمعية”، أي عدم الاعتماد فقط على أجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات، بل توظف كافة مؤسسات المجتمع من تعليم وصحة ورياضة وغيرها في رصد من هو “في خطر أن يصبح إرهابي” قبل أن يختار ذلك. وتستبدل هذه المقاربة كلمة “إرهابي” بكلمة “متطرف عنيف”. وهنا نقع في نفس إشكالية تعريف المصطلح، فليس هناك تعريف موحد بالضرورة للمقصود بكلمة “التطرف العنيف”. ولكن يمكن القول بأن هناك تركيز على فكرة دعم أو استخدام العنف لأغراض أيديولوجية أو سياسية. فمثلاً تُعرّف منظمة اليونيسكو التطرف العنيف بأنه “يشير إلى معتقدات وأفعال الأشخاص الذين يدعمون أو يستخدمون العنف لتحقيق أهداف أيديولوجية أو دينية أو سياسية”. ويمكن أن يشمل ذلك “الإرهاب وغيره من أشكال العنف ذات الدوافع السياسية”.
على أي حال، تقوم مقاربة مكافحة/منع التطرف العنيف على “مقاربة مجتمعية” وتوظف فاعلين من قطاعات مختلفة، من معلمين، ووجهاء في المجتمع، وعاملين اجتماعيين، والعاملين في القطاع الصحي لمساندة الجهات الرسمية في رصد الأشخاص المحتمل تحولهم لمتطرفين عنيفين. فمثلاً يشرح هذا الدليل لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا “مقاربة الشرطة المجتمعية: للوقاية من الإرهاب ومكافحة التطرف العنيف والراديكالية المؤديين إليه”. تجادل هذه المقاربة بأهمية تفعيل نموذج الشرطة المجتمعية، التي تتواصل مع المجتمع بكل فئاته من رجال ونساء وشباب، والتعاون مع منظمات المجتمع المدني والمنظمات الدينية وزعماء الدين.
في الوهلة الأولى تبدو هذه المقاربة أكثر شمولية، ولكنها في الحقيقة مبنية على افتراضات مغلوطة. فلو تساءلنا: من هو الشخص الذي لديه قابلية أن يتحول لمتطرف عنيف؟ وهل يمكننا محاسبة شخص قبل أن يرتكب أمراً مخالفاً للقانون فقط لأن لديه مؤشرات أنه “قد” يرتكب أعمال عنف؟ وما هي هذه المؤشرات أصلاً؟ وهل نعرف ما هي الخصائص التي تميز مرتكب جريمة الإرهاب عن غيره؟
من هو الشخص الذي لديه قابلية أعلى من غيره ليصبح ارهابي؟
أحد الأسئلة التي شغلت الباحثين هي: هل هناك عوامل أو خصائص معينة تميز مرتكبي جريمة الإرهاب عن غيرهم؟ هل يكونون عادة من طبقة اجتماعية فقيرة؟ هل يكونون بالعادة رجالاً عوضاً عن النساء؟ أو لديهم تعليم منخفض مقارنة بغيرهم؟ هل ينتمون عادة لدين أو معتقد معين؟
باختصار ليس لدينا إجابة لهذا السؤال، فليس هناك عامل واحد أو مجموعة عوامل محددة تقول لنا بأن هذا الشخص لديه قابلية أعلى من غيره ليصبح إرهابياً. مرتكبو جرائم الإرهاب يمكن أن يكونوا أميين أو يكون لديهم درجات أكاديمية عليا، يمكن أن يكونوا نساءً أو رجالاً، يمكن أن يكونوا فقراء أو أغنياء، ويمكن أن ينتموا لأي ثقافة أو بلد.
في دراسة للكاتب جوناثان راي، قام باستعراض عدة مقاربات والبحث إن كان لديها القابلية للتنبؤ بخصائص مرتكب الإرهاب، ولكنه وصل إلى خلاصة أن هذا أمر لا فائدة منه. وقد استعرض عدة مدارس في الدراسات الجنائية من دراسة سمات مثل العرق والجندر والعمر والحالة النفسية أو المرضية، أو الوضع الاقتصادي والاجتماعي، والكشف السلوكي، ولكن كل هذه المقاربات لم تنجح في تحديد سمات معينة تتنبأ بارتكاب فرد دون غيره لجريمة الإرهاب. باختصار هذه الظاهرة مركبة ولا يمكن عزوها لسمات ديموغرافية فردية معينة، ولا يوجد ملف نموذجي لمرتكب جريمة الإرهاب، ورغم هذا الاستنتاج والذي تؤكده دراسة تلو دراسة، إلا أن خطاب مكافحة الإرهاب ومكافحة/منع التطرف العنيف لا يتصرف على هذا الأساس، فهو ما يزال قائماً بشكل فعلي على الفرضية المغلوطة بأن الشخص العربي أو المسلم لديه قابلية أعلى من غيره للانجرار نحو “التطرف العنيف”.
نموذجي المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية
مع ما سبق؛ فإن مقاربات مكافحة/منع التطرف العنيف لم تفلت من الاستشراق والأمننة، ويمكن استعراض نموذجين في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية لتوضيح ذلك. فإذا نظرنا لمثال استراتيجية “منع التطرف العنيف” أو كما تعرف بالإنجليزية “Prevent” في المملكة المتحدة فهي استراتيجية أُطلقت عام 2011 وهي تنص على ثلاثة أهداف:، “أولاً، الرد على التحدي الأيديولوجي للإرهاب والتهديد من الذين يروجون له، ثانياً، منع الناس من الانجرار نحو الإرهاب والتأكد من تقديم المشورة والدعم المناسبين لهم، ثالثاً، العمل مع القطاعات والمؤسسات التي توجد بها أشخاص معرضون لمخاطر التطرف للتصدي له”. وبالنسبة للهدف الثالث، فالقطاعات المعنية حسب الاستراتيجية تشمل المؤسسات التعليمية، الدينية، الصحية، الخيرية، والعدالة الجنائية. وقد أثارت هذه الاستراتيجية الكثير من الانتقادات والاستنكارات لما سببته من أمننة هذه القطاعات، أو إضفاء الطابع الأمني لعملها. حيث إنه في عام 2015 وُضِع تشريع يلزم العاملين في القطاع التعليمي والقطاع الصحي بالتبليغ عن أي شخص يُشتبه بأنه يتبنى “أفكاراً متطرفة”. بالطبع، هذا أمر اشكالي، ويطرح تساؤلات ويثير مخاوفاً حول حرية التعبير والتفكير، لما تسببه هذه الاستراتيجية في تعزيز الرقابة الذاتية في الدوائر التعليمية والأكاديمية وفي الفضاء العام بشكل أوسع. فمن طرائف القصص أنّ صبياً في الرابعة من عمره أُحيلَ من قبل العاملين في روضته للسلطات الرسمية المسؤولة عن مكافحة التطرف العنيف لأنه رسم والده وبيده قطعة خيار اعتقدت العاملة أنه سلاح. كذلك أُحيل طالب عمره 11 سنة عندما سألته المعلمة: “ماذا ستفعل لو كان لديك الكثير من المال؟” فقال لها: “سأتبرع بها صدقة للمظلومين”، ولكنها ظنت بشكل مغلوط أنه قال “سأتبرع بأسلحة للمظلومين”. وبالطبع لا مفاجأة عندما نكتشف بأن الصبيين في الحالتين كانا من عائلة مسلمة.
وإذا أخذنا مثال الولايات المتحدة الأمريكية، فيمكن رصد التحول إلى خطاب مكافحة/منع التطرف العنيف في هذا الخط الزمني الذي يبين بعض الاستراتيجيات المحورية:
مكافحة الإرهاب: انشاء جهاز جديد “وزارة الأمن الداخلي” | مكافحة التطرف العنيف: استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية للأمن القومي | منع التطرف العنيف: استراتيجية “تمكين الشركاء المحليين لمنع التطرف العنيف في الولايات المتحدة” |
2002 | 2006 | 2011 |
ولعله في عام 2015 وصلت مقاربة “مكافحة التطرف العنيف” لأوجها عندما عقد الرئيس أوباما “قمة البيت الأبيض لمكافحة التطرف العنيف” حيث حضر ممثلون من 60 دولة، منها عدة دول عربية، وعبروا عن التزامهم بهذه المقاربة. وانطلاقاً من استراتيجية البيت الأبيض حول “تمكين الشركاء المحليين لمنع التطرف العنيف في الولايات المتحدة” أطلقت الولايات المتحدة برنامجاً تجريبياً لتطبيق مقاربة منع التطرف العنيف في ثلاث مدن أمريكية: بوسطن، لوس أنجلوس، ومينيسوتا. أما عن سبب اختيار هذه المدن الثلاثة فقد ذكرت الإدارة الأمريكية في موقع وزارة العدل أن هذه المدن اختيرت لوجود تنسيق مسبق بين عدة مؤسسات مجتمعية بها، لكن أيضاً هناك أسباب أخرى أكثر إشكالية؛ ففي حالة مينيسوتا مثلاُ ذكرت الوزارة أن مدينة مينيسوتا اختيرت “لأن بها أكبر تجمع للجالية الصومالية في أمريكا الشمالية”. لم يخل هذا البرنامج التجريبي من الانتقادات حول تصميمه، وذهبت بعض الدراسات للجدل بأنه برنامج غير دستوري لأنه قائم على تمييز مواطنين دون آخرين على أساس هويتهم أو أصلهم.
في محصلة هذه البرامج تعزز فكرة أن الشخص العربي أو المسلم لديه قابلية أكثر من غيره للتطرف العنيف. وبسبب هذا التركيز وتخصيص الموارد والبرامج على فئة من المجتمع دون غيرهم؛ أُغفل العنف الناتج عن مجموعات أخرى مثل مجموعات اليمين المتطرف. ومع أنّ كثيراً من المؤتمرات حول التطرف العنيف تدعوا متحدثاً من ممثلي المنظمات التي تقاوم “اليمين المتطرف” أو تقاوم المجموعات التي تؤمن “بفوقية العرق الأبيض”، لكن هذا التمثيل يكون رمزياً، ولا زال لفظ “الإرهاب” يُطلق كثيراً بناء على هوية مرتكب الجريمة.
عن أمننة قطاع التنمية الدولية كنتيجة لتحولات خطاب مكافحة الإرهاب
أدت تحولات الخطاب الغربي لمكافحة الإرهاب إلى أمننة قطاعات بعيدة عن موضوع الإرهاب مثل قطاع التنمية الدولية، أي إضفاء الطابع الأمني لجهود التنمية وتوفير حقوق مثل التعليم والصحة وغيرها. فعندما تكون هناك تحديات بالفعل في دعم التعليم للشباب مثلاً، فمن اللازم دعم التعليم كونه حقاً بذاته، وليس لغرض منع الإرهاب، خصوصاً مع الإشكاليات والانتقادات لمقاربة مكافحة/منع التطرف، فيصبح التعامل مع الشباب بطريقة أمنية، وتقديم حق التعليم أيضاً أمر أمني، وتوظيف المدارس والجامعات بشكل أمني أو استخباراتي.
يمكننا رصد ذلك بالتحديد في الدول العربية التي ينشط فيها عمل الجهات المانحة ومؤسسات التنمية الدولية مثل الأردن، ولبنان، والمغرب، وتونس، وغيرها. حيث تنتقل هذه التحولات بشكل مباشر من الجهات الدولية وتترجم إلى برامج على أرض الواقع، وترصد الميزانيات والمنح لها. بالإضافة لتأثيرها على صانعي القرار إلى حد ما ودفعهم لوضع “استراتيجيات وبرامج وطنية لمكافحة/منع التطرف العنيف”.
نلاحظ أن منظمات التنمية الدولية طوّرت استراتيجيات حول مقاربة ” التنمية لمكافحة التطرف العنيف” مثل التي أصدرتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، عام 2011. أو المؤسسة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) والتي تشرح تبنيها لمقاربة “منع التطرف العنيف” في ورقة تحديد موقف عام 2019، وتذكر أمثلة لاستخدامها في الأردن وتونس، ودول أخرى مثل الفلبين والكاميرون.
وبالمقابل فالعديد من المنظمات المحلية التي تعمل مع هذه الجهات المانحة اتخذت مقاربة برجماتية، وانتهزت فرصة أن هناك زخماً عالمياً لشعار “مكافحة/منع التطرف العنيف”، ومخصصات مالية لدعمه. فقامت بعضها بترويج مبادراتها التنموية أنها “تساهم في الحد من التطرف العنيف”، لتزيد من فرص حصول الدعم لها، مع أن الدراسات لا تشير لأي علاقة سببية بين جهود التنمية الدولية والحد من الجرائم الإرهابية بالضرورة.
هل الإرهاب نوع “استثنائي” من أعمال العنف؟
أذكر أني حضرت مؤتمراً يناقش مكافحة التطرف العنيف عام 2016 في الولايات المتحدة وكان ضمن الحضور ضابط من مكتب التحقيق الفيدرالي، فقال كلمة لا أنساها: ” الإرهاب حادث نادر الحصول، ولكنه حدث ذو تأثير كبير” فذكر أن عدد ضحايا الإرهاب في سياق الولايات المتحدة ضئيل نسبياً، ولكن الاهتمام عليه كبير. وأن هناك أنواعاً أخرى من الجرائم والعنف التي تودي بحياة عدد أكبر من الضحايا، ولكنها لا تحظى بنفس درجة الاهتمام وتخصيص الموارد بالضرورة. فذكر مثالاً بأنه في الأسبوع الماضي ارتُبكت ثمان جرائم قتل في مدينة شيكاغو، ولكن لم تكن هذه الجرائم موضوع عناوين نشرات الأخبار الوطنية.
ختاماً، هناك سؤال يقع في صميم كل الفرضيات التي يقوم عليها خطاب مكافحة الإرهاب بكل تحولاته: هل الإرهاب نوع استثنائي من أعمال العنف؟ وإن كان كذلك، هل يحتم علينا ذلك إنشاءَ منظومة كاملة منفصلة نوعاً ما عن المنظومات الأمنية والقضائية والجنائية القائمة أصلاً لمكافحة الجرائم بشكل عام؟ وإذا كانت الجريمة القائمة على التطرف العنيف مرتبطة بالأيديولوجيا، فهل الطريقة الأمنية الحالية للتعامل مع عالم الأفكار ناجحة في خفضه؟ أو أن المقاربات الحالية تتناقض -في كثير من الأحيان- مع الحقوق المدنية للأفراد والمؤسسات وتخلق مشكلات في العقد الاجتماعي ما بين المؤسسات الحاكمة والمواطنين؟
لعله من الضروري إعادة النظر في فرضية أن الإرهاب نوع استثنائي من العنف، أو جريمة مختلفة عن بقية الجرائم الأخرى. فمن الواضح بأن المقاربات الحالية للخطاب الغربي لمكافحة الإرهاب بكل تحولاته ما زالت قائمة على فرضيات استشراقية، وتعزز النزعة الأمنية للتعامل مع قضايا مجتمعية وتنموية عديدة.
الآراء المعبر عنها تنتمي للكاتبة بصفتها الشخصية.