اتحاد الشغل وقيس سعيد: الفصل بين النقابي والسياسي والتضامن الكوني

عمر العبدلي

كاتب المقالة

عمر العبدلي

باحث وكاتب سياسي من الكويت

 

أثار قرار الرئيس التونسي قيس سعيّد القاضي بإبعاد الأمينة العامة لاتحاد النقابات الأوروبية استر لينش ردة فعل شديدة من قبل أكبر التنظيمات النقابية في تونس: الاتحاد العام للشغل التونسي. إن هذا الصراع جزء من صراع أكبر يدور حول الإصلاحات الاقتصادية وأهمها السياسات الحكومية والحوار بينها وبين صندوق النقد الدولي، إذ تسعى تونس إلى تحصيل قرض بقيمة ١.٩ مليار دولار عاجلاً، إلا أن صندوق النقد وضع شروطاً لمنحه القرض منها تمويل برامج الإصلاحات الاقتصادية وصدور قانون حوكمة المؤسسات العمومية، فيما رأى الرئيس سعيّد أن هذه إملاءات خارجية مرفوضة، يُذكر أن كلا من فرنسا وإيطاليا تقودان عملية ضغط على كلا الطرفين – الصندوق وتونس – من أجل منح القرض وتفعيل الإصلاحات التي من شأنها تحسين الواقع المعيشي في تونس مما يخفف من تصاعد وتيرة الهجرة غير القانونية نحوهما. لم يغب الهاجس الإخواني عن النقاش حيث صرحت رئيس الحكومة الإيطالية بأنها ” لن تجازف بمحاباة الإخوان المسلمين” مع تأكيدها على وجوب المضي قدما في الإصلاحات الاقتصادية. علماً بأن وزيرة الصناعة والطاقة والمناجم نائلة نويرة القتجي أقيلت في الرابع من مايو، اثر نتائج الحوار مع صندوق النقد الذي أدى إلى رفع الدعم وزيادة أسعار المحروقات شروطاً للتوصل إلى الاتفاق وهو ما رفضه الرئيس سعيد.

 

يأتي قرار الإبعاد ضمن هذه الظروف الصعبة التي تعيشها تونس، حيث استند القرار على حجّة مفادها أن مشاركة الأجانب في المظاهرات والاعتصامات تعتبر تعديا على السيادة. جاء رد الاتحاد بعد يومين رافضا لقرار الرئاسة، معتبراً إياه انتهاكاً لحق كوني، وهو الحق في التظاهر والاعتصام. أقدم في هذه المقالة دعوى مفادها أن الفصل بين السياسي والنقابي الذي أقامه قيس سعيد فصل خطأ. وأن استناد الاتحاد على كونية الحقوق السياسية استناد خطأ أيضا.

 

جاء هذا الصدام بين الرئاسة والاتحاد على خلفية مشاركة إستر لينش في مظاهرة في صفاقس في ١٨ فبراير ٢٠٢٣ نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل. كان غرض هذه المظاهرة هو التنديد بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والملاحقات الأمنية للنقابيين. صرحت لينش أثناء مشاركتها بضرورة إشراك النقابات في رسم السياسات العامة معتبرة أن “النقابات جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة”. بعد هذه المشاركة مباشرة، جاء قرار الرئاسة بطردها، ليعقبه بيان الاتحاد المذكور آنفاً. لم يكتف الاتحاد بالتنديد بالقرار، بل دعا إلى مظاهرة في الرابع من مارس، احتشد فيها الاتحاد رداً على قرار طرد لينش وما لحقه من قرارات بمنع دخول شخصيات سياسية مثل الأمين العام للنقابة الإسبانية ماركو بيراز. انضمت قوى متعددة إلى هذه الوقفات التضامنية والتظاهرات الرافضة لسياسات الرئيس سعيد من بينها وقفات نظمتها جبهة الخلاص في شهري مارس وأبريل شارك فيها عدد من القوى السياسية المكونة للجبهة وهي حركة النهضة وتحالف قلب تونس، وائتلاف الكرامة، وحراك تونس الإرادة، وحزب أمل وآخرين.

 

هذا عن سياق الصدام بين الطرفين، لننتقل الآن لتفصيل مبررات قرار قيس سعيّد بإبعاد إستر لينش وكيف كان رد الاتحاد على هذه المبررات. المبرر الأول مبني على فصل الرئيس سعيد بين السياسي والنقابي، فهو يقول: “الحق النقابي مضمون بموجب الدستور لكن لا يمكن أن يتحول لتحقيق مآرب سياسية”. أيّ أن النقابات لا يحق لها العمل من خلال التظاهر والاعتصام بهدف التأثير على السياسات الحكومية فهذا الفعل السياسي يرفضه الرئيس سعيّد. أما المبرر الثاني الذي قدمه فهو السيادة. يقول الرئيس “هنالك من يريد أن يدعو بعض الأشخاص الأجانب للتظاهر في تونس، وهذا أمر غير مقبول على أي مقياس من المقاييس”. أيّ أنه لا يرفض حق الاتحاد بالتظاهر، لكنه يرفض ممارسة معينة ومحددة وهي مشاركة الأجانب فيها. هذا المبرر هو ما رد عليه الاتحاد رداً أبين مكامن الخلل فيه ثم أقدم حجة بديلةً عنه.

 

أولا، إن فصل سعيّد السياسي عن النقابي متناقض، فمع تأكيده على أن ” الحق النقابي مضمون بموجب الدستور” إلا أنه أكد رفضه لأن يكون أداة سياسية بقوله ” لكن لا يمكن أن يتحول لتحقيق مآرب سياسية “. إننا إذا فهمنا أن التظاهر والاعتصام الذي قام به الاتحاد يراد منه التأثير على القرارات السياسية للحكومة وهو ما قبل به الرئيس مع اقتصار رفضه على مشاركة الاجانب، وإذا فهمنا كذلك أن الاتحاد كيان نقابي يقع ضمن دائرة مؤسسات المجتمع المدني، وإذا أضفنا إلى ذلك أن قضية التظاهر وكيان المتظاهر كلاهما داخلان في المجال السياسي، فإن موقف الرئيس سعيد بتأكيده على حق التظاهر وحق العمل النقابي من جهة ورفضه للتوظيف السياسي من جهة اخرى يصبح بلا معنى، وإذا تبيّن أن هذا الفصل لا أساس منطقياً له، فلا يبقى إلا أن يكون مجرّد شمّاعة سياسية لتفريغ الحقوق النقابية من محتواها بحجة عدم تسييسها، مثلما فعل عندما احتجز عدداً من القياديين البارزين في الحركة النقابية بتهمة تنفيذ “مآرب سياسية” في حين أنهم مارسوا حقهم النقابي بالاعتصام والعصيان المدني الذي سبق أن أكد على شرعيته. إن ما يوحي إليه هذا التناقض هو قبول الرئيس بالتظاهر كحق للنقابات ومؤسسات المجتمع المدني طالما لم توجّه إليه تحديداً.

 

ثانياً، جاء ردّ الاتحاد العام للشغل على موقف سعيّد بأنّ حق التظاهر والاعتصام حقاً كونياً لا يقتصر على المواطنين، بل يشمل الأجانب. وهذا يعني أن الرابطة التضامنية بين العمال والنقابيين رابطة إنسانية متجاوزة للحدود السياسية تتيح للأجانب من أمثال استر لينش وماركو بيراز المشاركة في المظاهرات السياسية. نجد هذا في خطاب الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي خلال المظاهرة حيث وضّح أن الاتحاد يدافع عن “الحقوق الكونية للإنسان وعن إنسانية الإنسان”، أيّ أن الإنسان -أيّ إنسان- يحق له المشاركة في أيّ اعتصام أو مظاهرة لأنه إنسان دون الحاجة أن يكون مواطناً في بلد الاعتصام.

 

حجة الاتحاد المستندة على الكونية والإنسانية، هي حجة قاصرة ليست ملزمة، ويمكن الرد عليها بأن لكل بلد دستوراً قد يفسر حقوق الإنسان تفسيراً مختلفاً يتجلّى في القوانين، وبهذا يصبح الاختلاف ليس في الحقوق الإنسانية إنما في تطبيقها، حيث إن أغلب الدساتير تتضمن الاعتراف بحقوق الانسان، ولكن التشريعات القانونية هي ما تحدد كيف يمكن ممارستها وما هي حدودها وإطلاقاتها. إن الطريقة الصحيحة في الرد على الرئيس سعيّد هي في منازعته فيما يدعيه لنفسه، أيّ في كونه السيد في تونس وهو ما عبر عنه صراحةً بقوله “تونس ليست ضيعةً أو بستاناً أو أرضاً بلا سيد”. ففي ذات المقابلة أكد أن الاتحاد “حر في تنظيم مظاهرة ولكن ليس حرا في أن يدعو الأجانب في المشاركة فيها”. إن ما يفعله الرئيس سعيّد هو جعل الدستور والقوانين خصماً للاتحاد بوصفه المفسّر والحافظ له، بمعنى انهم ليسوا سوى متجاوزين للقانون وليسوا طرفاً في السلطة ومعارضين لطريقة إدارته للدولة وكافة مؤسساتها. لذا فالرد المناسب عليه يكون من خلال ذكر مواقفه تجاه الدستور والقوانين الذي يحتج باحترامه، إذ خالف دعواه بالعمل من داخل المنظومة السياسية الدستورية عندما كانت عائقاً له، فقد أغلق البرلمان عندما اعترض على أعماله وحل مجلس القضاء الأعلى عندما انتقد مواقفه وكتب دستورا جديدا عندما رأى بأنه لا يناسب اهوائه، بهذه الطريقة يناقش، أيّ بوصفه مستبدا تعدى على الدستور والقانون والمؤسسات التي يلزم الآخرين باحترامها والعمل من خلالها.

 

إن فصل النقابي عن السياسي يراد منه أن يكون أداة لتعزيز الدعم الشعبي للقرارات الرئاسية وشخصية الرئيس عبر المؤسسات النقابية أو متنفساً للسخط الشعبي عبر ذات المؤسسات دون توجيهها لشخص الرئيس بل للحكومة والوزراء. إن هذا يلغي غاية المؤسسات العامة وهي قدرتها تغيير السياسات الحكومية والتأثير فيها ونقد القائمين عليها. يشار إلى أن ما بدأ يعانيه الاتحاد هو نتيجة مباشرة لسياسات القمع التي سبق أن أيدها في بيان أصدره عقب الإجراءات الاستثنائية التي أتخذها الرئيس سعيد قال فيه الاتحاد ” نؤكد على أن التدابير الاستثنائية التي اتخذها رئيس الجمهورية كانت استجابة لمطالب شعبية وحلاً أخيرا لتعقد الأزمة التي تمر بها البلاد في غياب أي مؤشر لحلول أخرى عمل الكثيرون على إحباطها. “ ففي هذا البيان تجاوز الاتحاد المؤسسات الناظمة للعمل السياسي وعلى رأسها البرلمان. إن هذه المرحلة التي أصبح الاتحاد فيها ضحية لم تكن سوى مرحلة من مراحل الاستبداد الذي سبق أن ناصره، ولعله أهم الدروس المستفادة من التجربة التونسية وهو أنه لا بديل عن العمل داخل المنظومة السياسية مهما كانت معقدة ومحبطة وأن الخروج منها هو بوابة الاستبداد السياسي.

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *