المعارضة العرجاء: استحقاق القبيلة والوطن في الكويت

عمر العبدلي

كاتب المقالة

عمر العبدلي

باحث وكاتب سياسي من الكويت

أعجبتني لا تتحرك إزالة الإعجاب
 
14

المعارضة السياسية جزء من أي نظام سياسي حديث، فكل نظام سياسي له معارضة مقابلة له، ولكن هذا لا يعني تطابق مفهوم المعارضة في كل زمان ومكان بل العكس هو الصحيح، فكما أن الأنظمة السياسية تختلف، المعارضة السياسية تختلف.

في هذه المقالة سأناقش المعارضة الكويتية التي تشكلت في انتخابات ٥ ديسمبر ٢٠٢٠ مقدماً دعوى مفادها أن جزءًا واسعاً من المعارضة الكويتية يعاني من تناقض يرجع إلى أساسين لا يجتمعان، أولهما الاستحقاق الوطني وهو الرغبة في بناء نظام ديمقراطي متكامل يقوم على المساواة في المواطنة والعدالة في توزيع الثروات والحقوق السياسية في مواجهة السلطة من خلال معارضة الحكومة وتهديد بقاءها عبر الاستجوابات وإسقاط الوزراء ورئاسة الوزراء أيضا، لدفعها نحو تقديم تنازلات شعبية. وثانيهما الاستحقاق القبلي المتمثل في النزعة الانغلاقية التي تسعى إلى الاستفادة من الخدمات والامتيازات التي تقدمها الحكومة شريطة مداهنتها وطاعة أمرها مما يؤثر على المعارضة سلباً في تناغمها وتعاونها ويقف عائقاً أمام تطويرها للعمل الجماعي لتحقيق برنامج عمل سياسي موحد. سأوضح أولا ماذا اقصد بالمعادلة المتناقضة ومصدر هذا التناقض، ثم سأقدم السياق السياسي للدورة البرلمانية الحالية وعلاقتها بالحالة السياسية الممتدة منذ عام ٢٠١٢، في الختام سأستعرض كيف يساهم هذا التناقض في إضعاف المعارضة وتفككها، متناولاً ثلاث محطات رئيسية واجهتها المعارضة منذ اليوم الأول في البرلمان: انتخاب رئيس المجلس، والعفو عن المهجرين، وتعديل النظام الانتخابي.

إن المقصود بالمعادلة المتناقضة تلك المعادلة التي تنشأ على أساس استحقاقين مختلفين ومتناقضين، حيث إن الاستحقاق الأول يسعى إلى المشاركة في المعارضة الوطنية من أجل القضايا الوطنية العامة مثل تحقيق المساواة والعدالة ومحاربة الفساد والتمييز بين المواطنين، ومن سمات هذه المعارضة الوطنية الانفتاح على الشعب الكويتي كافة وترك التعصب والطائفية والانشغال بالقضايا المجمع عليها. وعلى النقيض من توجه الانفتاح والمساواة هذا، يقوم الاستحقاق القبلي على أساس نزعة هوياتية دون وطنية -قبلية- تسعى إلى الاستفراد بالامتيازات والخدمات، أيَّ تسعى لتمييز ذاتها في علاقتها مع الدولة. تتمكن النزعة القبلية من نيل استحقاقها عبر تسييس القبيلة حيث تقوم القبائل الكبرى في الكويت باختيار ممثل لها عبر انتخابات فرعية سابقة للانتخابات العامة، ويكون ذلك عبر إقامة ما يسمى تشاورية وهي مجرمة قانونا ولكن يُتغاضى عنها من قبل أجهزة الدولة. تقوم التشاورية بجمع كافة أبناء القبيلة الذكور في محفل عام ويتم فيه التصويت على المرشحين/الممثلين للقبيلة في الانتخابات العامة، وبعد أن يُختار مرشحٌ ما يتنازل جميع منافسيه عن الترشح في الانتخابات العامة، لتوحيد أكبر عدد ممكن من الأصوات. تضع هذه المعادلة المتناقضة النائب الوطني بين فكي عفريت، فهو مطالب بأن يتوسل الحكومة لتوفير الخدمات والامتيازات للقبيلة من جهة، وأن يكون معارضاً للحكومة -إن اختار المعارضة-  في القضايا الكبرى من جهة أخرى. سأبين كيف يحدث ذلك بعد أن أقدم مقدمة للسياق السياسي القائم. 

شهدت الكويت سنوات سبع عجاف بين أعوام ٢٠١٣-٢٠٢٠، كان قد سحق أثناءها الحراك الجماهيري الواسع ٢٠٠٩-٢٠١٢، الذي بدأ بفضح قضية فساد اتهم فيها رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ ناصر المحمد الصباح، وسرعان ما تصاعدت المطالبات إلى دعوى إسقاط رئيس الوزراء عبر البرلمان والتي كانت الأولى من نوعها. كانت قضية الإيداعات كما أطلق عليها والتي أثارها النائب السابق د. فيصل المسلم، ثم تبنتها مجموعة معارضة من نواب مجلس الأمة ٢٠٠٩-٢٠١١ فضيحةً هزت الكيان السياسي. على الرغم من حضور المال السياسي ودخوله في اللعبة البرلمانية طوال التجربة البرلمانية الكويت ١٩٦٤-٢٠٢٠، إلا أن الزخم التي حظيت به هذه القضية تحديدا كان كبيراً. توسعت المطالبات إلى إسقاط رئيس الوزراء شعبياً ومطالب أخرى متعلقة بالحريات السياسية ومحاسبة الفاسدين، وصولاً إلى مطلب الحكومة المنتخبة أو الشعبية كما أطلق عليها آنذاك. ازداد توسع رقعة الحراك حتى أصبح الأوسع والأكثر جرأةً في تاريخ الكويت السياسي مع حضور الربيع العربي في الخطابات السياسية العامة، خرجت مظاهرات شعبية قدرت بعشرات الآلاف في بلدٍ لا يتجاوز تعداد سكانه المليونين مواطن.

كانت ردة فعل السلطة على هذا الحراك متنوعة وحادة تجاه المعارضة ورموزها، فقد سحبت الجنسية من بعض الشخصيات السياسية كالنائب السابق عبدالله البرغش والإعلامي احمد الجبر، في حين اختار اخرون المنفى بعد صدور احكام بسجنهم كمسلم البراك وفيصل المسلم. اجتمعت المعارضة في المنفى الاختياري لهم في تركيا بعد صدور حكم المحكمة بسجنهم إثر قضية دخول المجلس، والتي أطلق عليها الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح أحداث الأربعاء الأسود، كان وجودهم في المنفى له أثر على المشهد، فقد تبنى الكثير من النواب قضية العفو كأولوية لهم في مجلس ٢٠١٦-٢٠٢٠، لم تتكلل جهود النواب بتحقيق العفو مما أجلَ قضية العفو إلى مجلس ٢٠٢٠، والذي عقب وفاة الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد الصباح. تهافتت الدعوات إلى المشاركة السياسية وعودة المعارضة إلى المشاركة في الانتخابات تفاؤلاً بما أطلق عليه العهد الجديد، حيث بلغت نسبة المشاركة رقما قياسيا مقارنة بالسنوات الممتدة بين ٢٠١٢-٢٠٢٠، فقد اقتربت نسبة المشاركة في الاتخابات رغم جائحة فايروس كورونا نسبة ٧٠٪

أعادت المعارضة  نشاطها وبشكل مباشر بعد انتخابات ٢٠٢٠ حيث قامت جماعة إسطنبول بتهنئة البرلمانيين الجدد وحثهم على إعادة بناء المعارضة فقد اعتبرت أن نسبة التغيير (٦٢٪ ) من تركيبة البرلمان الأسبق تدل على سخط وغضب الشارع الكويتي. وقد قدمت كتلة برلمانية نفسها على أنها الجسد المعبر عن المعارضة في الخارج، وتتمركز رؤيتها على إسقاط رئيس مجلس الأمة، وإصدار قانون عفو عن المعارضة السياسية في الخارج، وتغيير النظام الانتخابي، وإزالة قوانين المقيدة للحريات، بإجماع ٤٠ عضواً من أصل ٥٠.

رئيس المجلس: انكشاف المعارضة 

إن منصب رئاسة المجلس ذو أهمية كبرى وأولوية دائمة في تاريخ المعارضة، فرئاسة المجلس تمنح صاحبها سلطات أعلى داخل البرلمان. وقد أعلنت الكتلة المكونة من ٤٠ نائباً رغبتها في اختيار مرشح لرئاسة المجلس بديلاً عن رئيس المجلسين السابقين ٢٠١٣-٢٠٢٠ السيد مرزوق علي الغانم. حيث اعتبرته المعارضة امتداداً للنهج السابق وعقبةً أمام الإرادة الشعبية . وحتى تتأكد الكتلة من عدم تزوير الصوت والمخادعة – إذ أنّ تصويت الرئاسة سريٌ – قامت الكتلة بوضع باركود بجانب ورقة التصويت ومطالبة الاعضاء بالتصوير كآلية لضمان الالتزام. فقد ذاقت المعارضة طعم الخيانة سابقا ٢٠١٦-٢٠٢٠ ، حيث رشحت المعارضة آنذاك مرشحها النائب شعيب المويزري دون أن يحصد عدد الأصوات التي أعلنت المعارضة امتلاكها، وقد عبر عن هذه الحادثة النائب في البرلمان آنذاك د. وليد الطبطبائي قائلاً :” هناك 11 نائبا خانوا أمانتهم من أول يوم، وصوتوا بخلاف ما وعدوا به، وقد لا نستطيع كشفهم بشكل أكيد، لكن الأكيد أن المواقف والأيام القادمة ستكشفهم“. إذا فالشك وعدم الثقة القائم بين الكتلة له مبرراته، فأغلبية أعضاءها لم يلتقوا مسبقاً، ولا يعرفون بعضهم على المستوى الشخصي أو السياسي. حيث تتكون المعارضة من غالبية من المستقلين غير المنتمين لأحزاب سياسية، والتي تقوم بدور المنظم والموجه محددة المبادئ والسياسات العامة لأعضائها. ومن هنا يتبين بوضوح دور المعادلة المتناقضة والتوتر الدائم في القضايا الحاسمة بين الاستحقاق الوطني والقبلي. فمن بين سبعة أعضاء نكثوا بوعدهم للتصويت لمرشح الكتلة كان خمسة منهم من مرشحي الفرعيات . هذا يوضح أن التناقض القائم بين القاعدة الانتخابية القبلية التي تتطلب التقارب مع الحكومة وبين الالتزام بالمعارضة تساهم في إرباك المعارضة وتضعف قوتها في الصراع، ونتيجة مباشرة لهذا التناقض قام النائب مبارك الخجمة – أحد الناكثين بوعدهم – بالاشتباك مع النائب المعارض د. حسن جوهر محاولاً اشعال فتيل الطائفية باتهامه بمجموعة من الترهات الطائفية للتنصل من الضغط الشعبي الحانق، مما يبين أن الاستحقاق الوطني ينأى بالمعارض عن الصراعات الطائفية، على عكس الاستحقاق القبلي الذي يحتاج إلى فئة أخرى كي يتميز عنها، ومن العجيب أنه – الاستحقاق القبلي – يجد في الحكومة ضالته والعكس صحيح، وهذا يوضح كيف أن الطائفية ذات مصدر سلطوي استبدادي، مما ينقض ادعاء الحكومات العربية الاستبدادية أن شعوبها تعاني من القبلية والطائفية وأنها هي من تحافظ على نزع الفتيل والأمن الاجتماعي.

الحوار الوطني: قضية العفو

عادت قضية العفو عن المهجرين لتتصدر المشهد السياسي بعد أن فشلت المعارضة بإسقاط رئيس المجلس المدعوم حكومياً، وقد بدأت المعارضة بالتصعيد والتأزيم من خلال تعطيل الجلسات وطرح استجوابات لرئيس الوزراء وعدد من الوزراء الآخرين، مما أدى إلى حالة عدم استقرار سياسي جديد، كان عنوانها الإطاحة برئيس الوزراء الشيخ صباح الخالد، وأدّى التصعيد المتواصل إلى تقديم الخالد استقالته لصاحب السمو أمير الكويت الشيخ نواف الأحمد. جاء إعلان الديوان الأميري إلى الحوار الوطني لإعادة الاستقرار السياسي وتمكين سبل التفاهم والتعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية بمثابة طوق النجاة للجانبين الحكومي والمعارض. حيث رحبت قوى المعارضة بجميع أطيافها بفكرة الحوار الوطني لتجاوز الأزمة الراهنة، ورحب بها مجلس الوزراء الذي أراد نهاية لهذه التوترات والتصعيد النيابي والشعبي. بدأ الحوار بين السلطات الثلاث وممثلين للديوان الأميري بعقد جلسات سرية للتفاهم حول الموضوعات التي طالب النواب بحلها دون تأجيل، وكان ملف العفو عن المهجرين أولوية نيابية في الحوار الوطني، وعلى الرغم من غياب الشفافية حول نوع التفاهمات والملفات المطروحة في طاولة النقاش النيابي-الحكومي، إلا أن إنهاء ملف العفو كان هو مكمن الاتفاق والخلاف حول ما دعي بالحوار الوطني. وقد سبق هذا الحوار تراجع عدد الكتلة بسبب قضية التصويت على رئاسة المجلس من ٤٠ نائبا إلى ٣١ بعد جلسة تمكين الحكومة الجديدة والتي قاطعتها المعارضة احتجاجا على إعادة تكليف رئيس الوزراء المستقيل.

انقسام المعارضة: معارضة المعارضة 

انقسمت المعارضة في الخارج – المنفيين – إلى كتلتين جراء الاختلاف حول شكل ومضامين الحوار، مما انعكس على كتلة المعارضة البرلمانية (٣١ عضواً)؛ والتي انقسمت بالتوازي إلى كتلتين يمثل كلاهما خطاً معارضاً للآخر. الكتلة الأولى تعبر عن خط المعارض السياسي المنفي مسلم البراك ممثلةً بـ ٢٢ عضواً بقيادة عضو التكميلي د. عبيد الوسمي أحد ممثلي المعارضة الثلاثة في الحوار الوطني، وقد تبين هذا في البيان الصادر باسم بيان الأمة، ليرد النائب محمد المطير ببيان سماه بيان للأمة والذي كان بمثابة إعلان عن تكوين الكتلة الثانية والتي تمثل المعارض السياسي المنفي فيصل المسلم وعددها ٩ أعضاء. قاد هذا الانقسام الشديد بين المعارضة إلى إبراز تناقض البنى السياسية واختلالها، فإن كان من الوارد الانقسام في العمل السياسي جراء اختلاف الرؤى، إلا أن الاصطفاف الهوياتي-االقبلي سرعان ما ظهر على السطح. فقد اصطف نواب قبيلة المطران – مرشحي الفرعي باستثناء النائب مبارك العرو – في الكتلة الأولى والتي يقودها د. عبيد الوسمي والتي تمثل مسلم البراك وكلاهما من ذات القبيلة. على الرغم من عدم إعلان النواب المطران عن تشكيلهم كتلة واحدة – خوفا من الاتهمات بالقبلية – إلا أنهم يعملون بشكل جماعي ومتناسق. فيما اصطف النائبان خالد مونس العتيبي – مرشح فرعي – وفارس العتيبي مع الكتلة الثانية والممثلة لفيصل المسلم وهو من نفس القبيلة ايضاً. لا يرجع هذا الاصطفاف إلى كون النواب ذوي انتماء حزبي واضح، كما هو الحال مع نواب الحركة الدستورية الإسلامية (حدس)، أو تماهياً مع كتلة ذات توافق فكري ومنتمية لذات الدوائر الانتخابية كالكتلة النيابية التي تشكلت مبكراً داخل البرلمان المعروفة بكتلة الستة (الكتلة الوطنية).

الخلاصة

تعاني المعارضة منذ وجودها في الحياة البرلمانية من هذه التناقضات بين استحقاق وطني وآخر فئوي/قبلي/طائفي، وقد ركزت في طرحي هذا على التناقض والتوتر القائم بين الاستحقاقين الوطني والقبلي في محاولة للكشف عن مدى تأثيره في الدورة البرلمانية الحالية ٢٠٢٠. وقد نستطيع ملاحظة هذه التناقضات بالنظر إلى العديد من المجالس السابقة منذ تأسيس البرلمان حتى يومنا هذا. فما زالت الذاكرة البرلمانية شاهدة على هذا التوتر والتناقض القائم. ولعل أبرز هذه المشاهد ذلك الاستجواب الشهير ٢٠٠٣ الذي قدمته كتلة العمل الشعبي للوزير السابق محمد ضيف الله شرار المطيري فوقف الرمز المعارض مسلم البراك – احد أعضاء الكتلة – كمتحدث ضد الاستجواب في مشهد ساخر وصادم قل ما يتكرر خوفاً من ردة فعل قبيلة المطران. وتستمر هذه التناقضات على طول المسيرة البرلمانية محولة الصراع بين المعارضة والحكومة إلى حرب قبلية بين المعارضة ذاتها كما في الاستجواب المقدم لوزير النفط السابق بخيت الرشيدي حين وقف النائب علي الدقباسي الرشيدي معارضاً لطرح الثقة بالوزير متهماً المستجوبين بالعنصرية ضد قبيلته. أما آخرها فاستجواب الوزير السابق محمد الجبري العتيبي حين وقف النائب المعارض خالد مونس العتيبي – والذي ما زال معارضاً – مدافعاً عن الوزير ومخالفاً لخط المعارضة متهماً المستجوبين أيضا بالتمييز والعنصرية تجاه الوزير العتيبي. ينظر هذا البحث في مواقف المعارضة القبلية ضد استحقاقاتها الوطنية أحياناً، وضد أعضاءها ذاتهم أحياناً. معللاً الظاهرة بوجود عامل بنيوي في المعارضة، فمهما اختلفت الوجوه والأسماء والحقب الزمنية والظروف الوطنية إلا ان مثل هذه الأحداث تتكرر وتعيدنا إلى نقاشها وملاحظتها وتناولها بمنظور نقدي مستمر.

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *