“في الآخر فإنه لا مفر من العودة إلى الديموقراطية”.. بهذه الجملة انتهى النقاش الجانبي القصير مع أحد الزملاء على خلفية تعليقي الرافض لمسلّمة “الحتمية الديموقراطية” التي استشعرتها من الورقة البحثية التي قدمها قبل أيام الزميل الباحث محمود المحمود في مركز الخليج لسياسات التنمية في الكويت و التي ألقت الضوء على ما يسميه المركز بـ”الخلل السياسي” في دول الخليج العربي. و لعل لاختياري الاستهلال بهذه الجملة غرض أبعد من ذلك الحديث الجانبي، حيث يبدو أن موقف هذا الزميل يعبر عن مسلمة معرفية سائدة في الأوساط الثقافية العربية. وقد يكون خير تجلي لهذه المسلّمة المعرفية موجود فيما حذر منه المفكر العربي المشهور محمد عابد الجابري في كتابه “الديمقراطية و حقوق الانسان“، من خطورة أي تصور سياسي يقع خارج مفهوم الديموقراطية. ويأتي تحذير الجابري من ذلك مستندا إلى فرضية معرفية تصنف التصورات السياسية لصنفين متضادين لا ثالث لهما، و في ذلك يقول: “ليس هناك من بديل للديمقراطية إلا الاستبداد والدكتاتورية. نعم، ليس هناك خيار ثالث.. هناك فقط إما عيوب الديمقراطية وإما عيوب الاستبداد والدكتاتورية.. وهذه الأخيرة لا تقبل التخفيف ولا تتساهل إلا بالتخلي عنها والجنوح إلى الديمقراطية.” ما يثير الاهتمام فعلا هو صدور هذا الموقف من مفكر كالجابري الذي يُعد من أهم من اشتهروا بالتنبيه للخلل المعرفي في خطاب الإصلاح السياسي العربي و التحذير من التسليم بمسلماته المعرفية السائدة. لكن يبدو أن يد النقد المعرفي للجابري ترفض التعرض لمسلمة الحتمية الديموقراطية بالقدر الذي يؤدي إلى نقضها ثم التحرر منها، بل تأتي آراءه دائماً مؤكدةً لها، في معرض التأكيد على ضرورة الاستجابة للتحديات الأخلاقية التي تطرحها فكرة الحداثة السياسية على المجتمعات العربية. و نعني بالتحديات الأخلاقية لفكرة الحداثة السياسية هنا تلك الأسئلة الفكرية المتعلقة بتعريف علاقة الحاكم و المحكوم. أو بعبارة أخرى، تلك الأسئلة التي تبحث منذ زمن طويل عن إجابات مقنعة فيما يتعلق بفكرة تأسيس الحكم وفقاً لنظرية عقدية رضائية تكون الأساس الفلسفي والتأصيل التاريخي لشرعية النظام السياسي من جهة ولحقوق المواطنين في التمثيل والمشاركة والمحاسبة من جهة أخرى. ومسايراً لموقف الجابري يأتي كلام المفكر العربي محمد جابر الأنصاري، المشهور هو الآخر بنقده المعرفي لخطاب الإصلاح السياسي العربي، مؤكداً لاستثناء هذه المسلمة من النقض ومبرراً لحتميتها حيث يذكر في أحد لقاءاته التلفزيونية أنه:”كما قال تشرشل ليست [الديموقراطية] أفضل أنظمة الحكم ولكنها الأقل سوءاً”.
وفي ظل المستجدات السياسية والإشكالات الفكرية المنبثقة من نتائج الثورات العربية فإن التساؤل الذي يجب أن يطرح في معرض البحث في الخلل المعرفي لخطاب الاصلاح السياسي العربي الآن هو ذلك المتعلق بفحص صلاحية هذه المسلمة و كشف أسباب استمرار هيمنتها على بناء الهيكل المفاهيمي لخطاب الإصلاح السياسي. ولما كان أن هذا المبحث من الضخامة بمكان بحيث لا يمكن عرض جميع أوجهه في هذه المساحة، فسأخصص هذه التدوينة لعرض وجه واحد من أوجه هذا المبحث، وهو ذلك المتعلق بكشف أحد صور الممارسات الخطابية (Discursive Practices) التي يستخدمها خطاب الحتمية الديموقراطية لإعادة تكريس هيمنته وقمع فرص ظهور نماذج بديلة من خارج نموذجه المعرفي وروايته التاريخية. ويكون معنى الممارسات الخطابية هنا هو ذلك الذي يشير له صاحب المدرسة التحليلية لخطاب الهيمنة والقوة المفكر الفرنسي ميشيل فوكو باعتباره العمليات التواصلية (الموجهة نحو المخاطبين) و التي يحاول الخطاب من خلالها أن يشكل “الواقع” عن طريق سيطرته على مجال المفاهيم و اعادة انتاجها.
بداية، لعلنا نجد في الدراسات السيمائية للغة (أو علم الاشارات) (Semiology) ما يعيننا على الكشف عن هذه الممارسات الخطابية باستخدام النظرية التحليلية “للثنائيات المتضادة”. و يعود الفضل في تأسيس هذه النظرية لمؤسس الدراسات السيمائية ذاته السويسري فريديناند دي سوسير والذي يفترض أن وحدات اللغة تكتسب قيمتها ومعناها فقط عندما تقترن بمفهوم آخر مضاد، بحيث يعرف كل منهما الآخر بكونه ضداً له ولازماً لتمام تصوره. فتكون الحياة هي المضاد المفاهيمي اللازم لفهم وتصور معنى الموت، والنقاء كذلك بالنسبة للتلوث والبياض للسواد والحزن للسعادة وهكذا. وما لبثت هذه النظرية طويلاً حتى أن تلقفها قائد المدرسة التفكيكية جاك ديريدا لاستخدمها كأداة تحليلية فعالة لتقديم مشروعه النقدي الطامح لوضع كل المسلمات الفلسفية الغربية -منذ عهد أفلاطون- موضع الشك. فاستخدم هذه النظرية لمحاولة إبطال مفاهيم مركزية سائدة في الفلسفة الغربية تكتسب قيمتها ومعناها من ثنائيات مترسخة في الخطاب الفلسفي كثنائيات (جسد/ روح، خير/ شر، جاد/ هازل). ويتركز اعتراض ديريدا في أن هذه الثنائيات دائما ما تفرز تراتبات وجودية، تحتم على طرف ما التموضعَ في موضع من الامتياز والفوقية، وتحتم على طرف أخر التموضع في موضع من التغييب والدونية والتهميش، وبذلك يُكَرس اقصاء وقمع هذا الطرف لحساب هيمنة الطرف الأول. وكان لفوكو أيضا اهتماما باستخدام هذه النظرية كأداة تحليلة، خصوصا في كتابه المراقبة والعقاب الذي أرخ فيه للأنظمة والمؤسسات العقابية في أوربا ولتطور مفاهيمها، حيث يؤكد في هذا الكتاب على أهمية هذه الثنائيات في الممارسات الخطابية التي يستخدمها الخطاب المهيمن لإعادة تكريس هيمتنه وفرض نموذجه على الأفق المعرفي للمجتمعات. ويصر بأنه عبر مثل هذه الثنائيات المتضادة في اللغة يقوم الخطاب بخلق تصنيفات تمايز بين ما هو “طبيعي” ومقبول وفقاً لمفاهيم الخطاب المهيمن وبين ما هو “غير طبيعي” و يستوجب التجريم والعقاب وفقا لذات المفاهيم.
بتطبيق هذه النظرية على مسلّمة الحتمية الديمقراطية كتصور ايديولوجي لمعطيات الواقع و حركة التاريخ يظهر ما يأتي: وفقاً للمفكر البارز في مجال العلاقة بين الحداثة والفكر الإسلامي وائل حلاق فإن “نظرية التقدم” التي تجد أصولها في النموذج المعرفي الذي أنتجه عصر التنوير الغربي لا تشكل أساس النظر لحركة التاريخ في الخطاب الفكري المعاصر فحسب، بل تشكل الأساس للهيكل المفاهيمي للغة هذا الخطاب. ثم يضيف أنه يكاد لا يوجد فكرة أو نظرية تفوق قوة هذه النظرية في تشكيل مفاهيمنا الفكرية الحديثة. وتتلخص فكرة نظرية التقدم في افتراض حركة خطية لتقدم الجنس البشري نحو تحريره من الظلامية (جميع صور الظلامية وفقاً لتصوره التاريخي سواء في المجال السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو التكنولوجي) لكن عندما تخرج هذه النظرية من نطاقها الغربي، كما فعلت في فكرة الاستعمار الأوربي وكما تفعل الآن من خلال فكرة عولمة مفاهيم الاصلاح و التنمية، فإنها تضع النموذج الغربي بكل صوره دائماً في القيادة وتضع النماذج غير الغربية في نقاط أخرى على خط التقدم التاريخي نحو هذا النموذج. ومن هذا المنطلق يكون خطاب الحتمية الديمقراطية هو الوجه السياسي لنظرية التقدم و روايتها التاريخية.
وإضافة إلى ذلك، فإننا نجد أن الاستراتيجية اللغوية للحتمية الديموقراطية لتكريس الهيمنة على خطاب الاصلاح السياسي العربي تكمن في استخدام مصطلحات ذات غرض تصنيفي بمنطق المتضادات يقع على أثره أي (رأي، شخص، جماعة، حدث، ألخ) إما في خانة “التقدم” أو في خانة “التخلف” بالقياس إلى رواية الحتمية الديموقراطية لحركة التاريخ. و ينتج عن ذلك اعتبار أن تحقُق مفهوم الديموقراطية في نظام الحكم السياسي يعد شرطاً طبيعياً وحتمياً لتقدم المجتمعات البشرية نحو الحرية والخروج من غياهب التخلف و الظلامية السياسية.
ولتقديم مثال على ذلك، فيمكننا تطبيق هذه الملاحظات على قول الجابري المقتطف آنفاً لنرى بأنه – رغم انتقاده الحاد لمركزية النموذج الغربي – يفشل في تحرير تصوره لمستقبل الاصلاح السياسي في الحالة العربية من سلطة الممارسات الخطابية التي تعيد تكريس هيمنة هذه المركزية، فنجده يستخدم ذات اللغة و ذات الثنائيات المتضادة ليؤكد حتمية نموذجها السياسي ويكرر فرضيتها الرئيسية بأن معالجة الخلل السياسي لا يتسنى إلا باستيفاء مفهوم الديموقراطية المحتم. لكن الأهم من ذلك بالنسبة لنا هو انطواء كلامه على تصنيف كل ما يخالف هذا الطرح باعتباره معولا للتخلف، أي معيقا لحركة التاريخ الحتمية نحو التحرر و سببا لاستمرار و تكريس المضاد المفاهيمي و هو “الاستبداد”. إذا فإن مصطلح “الاستبداد” كمضاد مفاهيمي يلعب دوراً مهماً للغاية لإعادة تكريس هذه الهيمنة وذلك باعتبار هذا المصطلح السلبي جامعاً ولازماً لكل مايقع خارج نطاق مصطلح “الديمقراطية”. وهكذا ينجح خطاب الحتمية الديموقراطية من بناء متضادات مفاهيمية تؤدي إلى خلق ميل وجداني للعداء تجاه كل ما ينتفي عنه صفة نموذجها باعتباره “غير طبيعي” و غير مقبول بالنسبة لحركة التاريخ، وهنا تكمن خطورة التسليم لهذه المسلمة. حيث يشكل التسليم لها في الواقع غلقاً للأفق أمام أي فرصة لتطوير نموذج يحاول تقديم استجابة مقنعة للتحديات الأخلاقية الملحة للحداثة السياسية خارج إطار هذه المعادلة الثنائية.
يمكننا أن نضيف أيضاً بأن خطاب الحتمية الديمقراطية لا يختلف في أسلوبه في الضغط على الضمير الأخلاقي للمثقف العربي؛ عن ذلك الاسلوب الذي تستخدمه قوى الإسلام السياسي من خلال استخدامها لذات الممارسات الخطابية. فكما تستغل تلك القوى حالة الشعور العام بالتدين وضرورة الدفاع عن الهوية الدينية لتهيمن ايديولوجياً على الخطاب السياسي، فيما يتعلق بذلك المشكل من يستخدم خطاب الحتمية الديمقراطية الشعور العام بضرورة الاستجابة للتحديات الأخلاقية للحداثة السياسية؛ لتكريس هيمنة نموذجه المعرفي على تصور كل ما يتعلق بمشكل الحداثة السياسية. وكما تستخدم هذه القوى الثنائيات المتضادة: “مؤمن” (أي في جانب الخير) لمن يقبل روايتها الايديولوجية لحركة التاريخ في مقابل “كافر” أو “ضال” (أي في جانب الشر) لخلق ضغط أخلاقي على لمن يخالفها، فإن خطاب الحتمية الديمقراطية يمارس نفس الضغط الأخلاقي من خلال ثنائياته المتضادة ولكن دون أن يُطلق على ذلك مسمى “الإرهاب الفكري” كما هو الحال في عند الاسلاميين.
عموماً، فإن مايمكن الخلاص إليه مما تقدم هنا هو أن قبول هذه الحتمية الديمقراطية يترتب عليه تشكل موقعين متمايزين للتفكير من حيث المساحة الممكنة للإبداع وحرية الفعل الفكري. الأول هو موقع القائد التاريخي والذي يضع العقل الغربي دائماً في موقع يستوجب بالضرورة مساحة كبيرة للابداع وحرية واسعة للفعل الفكري، وذلك للبحث الحر عن حلول غير مسبوقة لمشكلات “التقدم” غير المسبوق (تلك المشكلات الفريدة من نوعها من حيث الجدة و الطبيعة) فيما يضع العقل غير الغربي -العربي في حالتنا – في موقع اللاحق، فينحصر أفق الابداع، بل وأفق الفهم التشخيصي، وفقاً لذلك في مواجهة مشكلات “اللحاق” (تلك المشكلات المكررة من حيث نوعها و التي قد انتج لها حلول معيارية في “السابق”). ونتيجة لذلك ينحصر الأفق المعرفي للعقل السياسي العربي فقط في نطاق الأسئلة المتعلقة بكيفية “التقدم”، أي اللحاق بالنموذج الغربي من هذا الموقع.
أخيراً، يمكننا القول بأن الدارسين للخلل المعرفي لخطاب الاصلاح السياسي العربي مثل الجابري و الأنصاري قد أدركوا منذ عقود أهمية تحقيق “الاستقلال التاريخي” للمجتمعات العربية من ناحية معرفية، بعيداً عن الحتمية التاريخية للنموذج الغربي، باعتبار ذلك شرطاً ضرورياً لفتح الآفاق أمام العقل السياسي العربي لإبداع نموذج معرفي جديد ومستقل لتشخيص واقعه، وتصور مستقبله، بالنسبة لإشكال الاستجابة للتحديات الأخلاقية التي تطرحها فكرة الحداثة السياسية. بل ونجد أن كلاً من الجابري والأنصاري قد أكدا على ضرورة انجاز ما يسميه غاشتون باشلار “بالقطيعة المعرفية” (Epistemological Rupture) من سلطة أي نموذج معرفي سابق كشرط لتحقق هذه الاستقلالية. بيد أنهم أخفقوا في ربط شرط القطيعة المعرفية بما تستلزمه منطقياً، أي بما يمكن تسميته بالقطيعة اللغوية، أي بضرورة تحرير اللغة المستخدمة في خطاب الإصلاح السياسي العربي من الهيكل المفاهيمي للثنائيات المتضادة المُكرِسة لمسلمة الحتمية الديموقراطية؛ ومن مقاومة الضغط الأخلاقي الذي تمارسه خطابياً. بل كما رأينا فإنهم يرفضون التشكيك في ثنائية ديموقراطية/استبداد ويستمرون في التعامل مع مصطلح “الديمقراطية” باعتباره خياراً وحيداً وحتمياً لابد أن تؤسس عليه أي فكرة للإصلاح السياسي.
للأسف الشديد هذا هو واقع المثقف العربي في الكثير من الأحيان التسليم لثنائيات لا تقبل ثالثا لها ليس في المجال السياسي فقط بل حتى في المجال الأدبي والاجتماعي وغيرها من المجالات رغم انفتاح ميادينها لتعددية الآراء
لننطلق من الجملة الأخيرة في المقال والتي يظهر انها خلاصاه
يقول الكاتب
“…. “الديمقراطية” باعتباره خياراً وحيداً وحتمياً لابد أن تؤسس عليه أي فكرة للإصلاح السياسي….”
إذا لم تكن الديمقراطية كما تطورت في الغرب هي الخيار الحتمي والوحيد للإصلاح السياسي فما هو الخيار الآخر (الخيارات البديلة ) لنبدأ بالهدف من الإصلاح السياسي ، أليس لتحقيق المشاركة وتدوير السلطة بدلا من احتكارها والحق في التعبير والتجمع وغيرها من حقوق مدنية. ماهو الخيار السياسي الآخر الذي يمكن أن يتحقق من خلاله هذا الهدف الجامع؟ ماهو النظام السياسي غير الديموقراطي الموجود حاليا أو سبق تأسيسه في قرون مضت ولا يزال ملائما للعصر الحديث الذي يمكن الأفراد من هذه الحقوق. انظر حولك ستجد العالم منقسم بين أنظمة سياسية ديموقراطية (أوروبا أمريكا الشمالية والجنوبية واليبان الهند كوريا الجنوبية وعدد من الدول الآسيوية والافريقية) وأنظمة تسلطية وشبه تسلطية ( دول مابعد الاتحاد السوفيتي الصين الدول العربية ودول أخرى آسيوية وافريقية ) في المجموعة الثانية نجد “مظاهر” للحقوق المشار لها أعلاه. (المشاركة والتعددية وحرية التعبير )
إذا أين البديل الوسط بين الديمقراطية والتسلط؟
ولنحاول ولو للحظة أن نسمي النظام الديمقراطي الذي يمكن الأفراد من حقوقهم باسم مختلف مثال “النظام الفاصولي” من الفاصوليا أو” النظام الارجواني” من اللون الارجواني! هل سيجعل ذلك خيار الديمقراطية أكثر قبولا من قبول الرافضيين له بدعوى رفض الحتمية الديمقراطية؟
خلاصة الكلام لم يستطع العالم حتى الآن تطوير نظام سياسي يمكن الأفراد من حقوقهم مثل أو افضل من النظام الديمقراطي الذي يعني رفضه رفض الحقوق الفردية المشار إليها أعلاه.