ليس خفيًا أن التاريخ يكتبه المنتصرون. يتضح هذا جليًا في علاقة المستعمر الأوروبي والإفريقي، فمع الحركات الاستعمارية الضخمة التي شهدها العالم عقب الثورة الصناعية، بدأ الإفريقي يظهر للعالم ليس بالعين الإفريقية (الأنا) وإنما بالعدسة الأوروبية (الآخر). والعدسة الأوروبية عدسة انتقائية تحصر معايير السمو والتقدم في ذاتها، والجهل والدونية في كل من هو دونها. فالأوروبي يحدد معايير الذكاء، ومعايير العقلنة، ومعايير الجمال الشكلي. بهذه المعايير الصماء بات الإفريقي جاهلاً، رجعياً، همجياً، يتسم بحماقة وبلاهة، أو كما شاع في الأدب الأوروبي: “نصف إنسان، ونصف شيطان”، وكعادة دراسة المجتمعات غير الأوروبية يقوم الباحث الأوروبي بدراسة فصيل واحد من المجتمعات ثم يعممه، ويقولب هذه الثقافة لتتلاءم مع قالب أنتجه هو ويتغافل عن أي حالة خلاف قالبه بل يعدها شذوذاً عن القاعدة.
رواية “الأشياء تتداعى” من أهم الروايات الإفريقية، بل من أهم الروايات في التاريخ. فهي رواية هدفها تبيين كيفة رؤية الإفريقي ذاته، وكيف يرى (الأنا والآخر) – وهذا محور المقالة- فتشينوا آتشيبي حاول أن يرد على هذه الترهات التي سفهت من قيمة الإفريقي، واختار لحظة دخول المستعمر البريطاني نيجيريا، ومع تقسيمها لثلاثة كأنه يريد أن يقول: هذا ما كنا عليه، وهذا ما أدخله لنا المستعمر، وهذا بات مآلنا!
استطاع آتشيبي ببراعة أن يبرهن حقيقة مهمة. لم يحاول أن يرد على الأدب الإنجليزي الذي جعل الإفريقي شيطاناً بأن صيّر من الإفريقي ملاكًا، بل الإفريقي إنسان كسائر البشر، يختلف من شخص لآخر. ليس هناك قالب يسمى القالب الإفريقي، فأوكونكوو البطل كان همجيًا لا يظهر تعاطفًا أمام الجماهير ومتديناً بينما كان أبوه هزيلًا أو ما أطلقوا عليه أجبالا – أي امرأة أو رجل جبان – فكان يخشى الحرب ويحب الموسيقى، وهذا رد على التعميم والقولبة التي فرضها المستعمر الأوروبي.
وبين خلافات عدة بين الثقافة الإفريقية والثقافة الأوروبية كما يرويها آتشيبي؛ لا ينتبه المحللون لاختلاف مفهوم الزمن قبل المستعمر وبعده؛ وقد تعمد آتشيبي قبل مجيء المستعمر أن يذكر لفظ (سوق) بدلًا من (ساعة) فيقول: سنأتي بعد ثلاثة أسواق أو أربعة، والسوق يعادل أربعة أيام وليس زمنًا جامدًا يرتبط بتروس ومواعيد، وهو أمر متعارف عليه في قطرنا العربي فلم نكن نتقابل (عند الخامسة) وإنما كنا نفضل استخدام (بعد العشاء) أو (قبل المغرب)، بينما أتى المستعمر بالساعة، ذلك الاختراع الذي له مدلوله الثقافي والاجتماعي والسياسي، فبات الزمن جامدًا يعتمد على عجلة وتروس وأرقام، وهو ما يتناسب مع عقلية الأوروبي الرأسمالية آنذاك!
كذلك مفهوم الأرض كان خاضعًا لجدال، مع أن مفاهيم كالأرض والزمن لا يُلاحظ عادةً وجود خلاف فيهم مع اختلافاتها الجوهرية. فالإفريقي عموماً – وهنا التعميم مقصود – قبل مجيء الاستعمار كان يؤمن بوفرة الأرض، فلا ندرة في الأرض كما يعتقد الأوروبي، وقد عبر آتشيبي عن هذا بحادثة بناء الأوروبيين كنيسة وتسييجها فضحك الأفارقة متسائلين: لماذا يسجنون أنفسهم؟ فمن العين الأوروبية تظهر حماية للملكية، بينما عدّها الإفريقي سجنًا!
أخيرًا، هذا النقد المفاهيمي وتبيان الخلاف بين العدستين، محاولةٌ من جموع القراء والباحثين الاجتماعيين خلقَ علوم سياسية غير غربية، سواء أكانت هذه العلوم عربية، أم إفريقية، أو حتى علوماً سياسية جنوبية، ليس بتغيير في المدرسة الفكرية وإنما إعادة تكوين المنظور كلّه (البارادايم).