شهدت الساحة الخليجية تهافتاً غير مسبوق على التطبيع مع الكيان الصهيوني كماً وكيفاً منذ توقيع اتفاقية أبراهام في سبتمبر ٢٠٢١ ، ترافق معها تنامي المحاولات الشعبية الجادة لمقاومة التطبيع من خلال عدة مجاميع خليجية إنْ محلية مثل الجمعية البحرينية لمقاومة التطبيع وشباب قطر ضد التطبيع والرابطة الإماراتية لمقاومة التطبيع، أوعلى مستوى الخليج كله مثل ائتلاف الخليج ضد التطبيع .
ومع تنامي هاتين الظاهرتين- التطبيع ومقاومته – يتحوّل كل حدث فيه تطبيع أو رفض له، إلى مناسبة لأن يقوم المناصرون لكل موقف بالترويج لحججهم وقناعاتهم حوله. ولعل آخر هذه الأحداث هو موقف لاعب كرة المضرب الكويتي الناشئ محمد العوضي حين انسحب من بطولة للناشئين مقامة في دبي بعدما وضعته القرعة أمام لاعب صهيوني. واحتفى الشارع العربي عموماً على مواقع التواصل الاجتماعي بهذا الانسحاب عبر أكثر من وسم مثل #شكرا_يابطل و#محمد_العوضي، ليس كونه حالة نادرة وفريدة بل لأنه جاء في سياق يحاول فيه الكثيرون تصوير التطبيع قضية محسومة لصالح المطبعين وأن شعوب منطقة الخليج قبلت به، وعمره الصغير جاء مؤكداً على استمرار معركة الوعي بالنسبة للنشئ ، وأن القضية الفلسطينية مازالت حية في وجدان الأجيال الأصغر سناً.
لم تكن الساحة محصورة على أصوات المحتفين والمؤيدين، بل ظهرت بعض الأصوات في الخليج تقدم محاججات ومبررات للتطبيع، وسأقوم في هذه المقالة بنقد أكثرها تكراراً وتداولاً، أولاها: التشكيك بكون المقاطعة وسيلة مقاومة وأن إلحاق الهزيمة بالخصم هو النصر الحقيقي؛ وثانيها: ادعاء وجود فصل بين الرياضة والسياسة دون النظر للحقائق التاريخية المفندة لذلك؛ وآخرها: ضرورة الانضمام لبقية دول العالم واللحاق بقطار التطبيع قبل فوات الأوان، مصورين العلاقة بالكيان بأنها حل سحري لجميع المشاكل التي تعاني منها الدول العربية ومصورين المشهد العالمي من الكيان على غير حقيقته.
عدو وليست خصم
هناك من كتب أن الانسحاب ليس بطولة وأنه كان من الأجدى منافسة اللاعب الصهيوني وهزيمته إن كان يراه عدواً وألا يسمح له بأن يظفر بنقاط سهلة أو إحراز تقدم. هنا يرى أصحاب هذه الفكرة أنه بدلاً من الانسحاب فإن على الرياضيين العرب اللعب وإلحاق الهزيمة بمن يرونه عدواً، وأن الانسحاب يظهر الرياضين العرب بمظهر الجبان الذي يهرب من المواجهة.
وهذه حجة يظهر فيها الجهل بطبيعة الصراع مع الصهاينة. فالصراع مع الكيان الصهيوني ليس صراعا على النفوذ، لندرج التفوق في الممارسات الرياضية إحدى وسائل التفوق عليه، والصراع ليس على حول مشكلة حدودية أو خلافات آيديويوجية، بل الصراع هنا مع جيش احتلال وكيان استعماري يمثل وجوده أصل المشكلة. فوجود هذا الكيان يعني استمرارا لاحتلال وسلب الأراضي الفلسطينية وتهجير شعبها واضطهادهم. وعندما نفهم الصراع بهذا الشكل يكون الانسحاب تأكيدا على عدم الاعتراف بالكيان واحتلاله وتهجيره، واستمرارا لفرض العزلة على كل ما ينتمي للكيان عن محيطه العربي -شعبياً وثقافياً على أقل تقدير-، ويكون الدخول في منافسة رياضية مع ممثلين للاحتلال اعترافا ضمنيا بشرعية وجوده وباحتلاله وتهجيره وانتهاكاته.
مع النسيج الخليجي والعربي ضد التطبيع
أما الحجة الثانية التي يقدمها مبررو التطبيع، فمفادها أن الامتناع عن التطبيع يعزل الكويت عن “النسيج الخليجي”، وأن رفض التطبيع في مختلف المناسبات يتحمله الكويتيون وحدهم، فيرى هؤلاء أنه طالما طبعت بعض دول الخليج أو بعض الدول العربية فإن من مصلحة دولة مثل الكويت أن تطبع ليكون موقف الكويت حسب تعبيرهم متسق مع محيطها الخليجي، وعلى ذات الوتر أي “الانسجام” يقولون بأن دول العالم اعترفت بالكيان وبذلك فإن الاعتراف والتطبيع معه انضمامٌ لدول العالم، أما المقاطعة وعدم الاعتراف فانعزال عنه.
وهذه الحجة مبنية على مغالطتين الأولى أخلاقية والثانية واقعية، فاعتبار الكثرة دليل على الصواب مغالطة أخلاقية؛ وإذا كان أكثر من حولك يفعلون أمراً ما، حتى لو كان فعلاً إجرامياً فهذه الحجة ترى أن اعتزال هذه الكثرة يعتبر خطيئة؛ وهذا بيّن الخطأ، بل العبرة في أن تلتزم حين يزل من حولك؛ أي أن وجود أغلبية تؤيد موقف ما لا يعني صحة هذا الموقف أخلاقياً، بل إن مثل هذه المواقف تمثل اختبار حقيقي لمسطرة الحق في ضمائرنا.
وأما واقعياً، فعدد الدول العربية المطبعة رسمياً أقل من تلك التي لم تطبع، فمن بين الـ٢٢ دولة، هناك ست دول مطبعة -أي أقل من ٣٠٪- وهذا بعد أكثر من سبعة عقود من احتلال فلسطين. بينما ظل الموقف الشعبي -وهو الأهم- رغم اتساع دائرة التطبيع على المستوى الرسمي رافضاً له، لذلك يرفض الرياضيون العرب اللعب مع أي رياضي صهيوني ويفضلون الانسحاب، وبهذا يكون فعل العوضي اصطفافاً وانسجاماً مع مواقف أبطال العرب المتكررة وليس العكس. ولا يقتصر الأمر على الرياضيين العرب بل شمل مختلف القطاعات، فشهدنا قبل أسابيع انسحاب عدد من الأدباء الخليجيين والعرب من مهرجان طيران الإمارات للأدب، بالإضافة لإعلان الرابطة الأردنية لأطباء الأسنان الانسحاب من مؤتمر إيدك الذي يشارك فيه أطباء وجهات طبية من الكيان المحتل أيضاً. وبهذا تكون مواقف الانسحاب المستمرة من مختلف القطاعات تأكيداً على بطلان حجة مبرري التطبيع من أساسها، بل وحجتهم عليهم، فمن يرفض التطبيع يتسق مع المواقف الشعبية الرافضة بينما يعزل المطبعون أنفسهم عن النسيج الخليجي والعربي.
أسطورة فصل الرياضة عن السياسة
أما الحجة الأخيرة، فهي أن المقابلة الرياضية لا تعد تطبيعاً وأن الرياضة لا علاقة لها بالسياسة، فيرى هؤلاء أن الرياضة لا ترتبط بالتوجهات السياسية للدول التي يمثلها الرياضيون، وأنها بمعزل عن كل ما يجري في العالم من أحداث، فهي في نظرهم حدث مؤقت لا يرتبط بأي شيء غير الرياضة نفسها، ولا يجب أن يتأثر المشهد الرياضي لا بحرب ولا مشاكل سياسية.
وهذا قول باطل، فالتاريخ يشهد كيف استخدمت الملاعب والساحات الرياضية لأغراض الدعاية السياسية ، وأن الدول والجماعات استخدمت مبدأ المقاطعة لنصرة مختلف القضايا أو الاحتجاج أو جزءًا من الحرب الباردة حين قاطعت ٦٧ دولة أولومبياد عام ١٩٨٠ الذي استضافته موسكو ليرد الاتحاد السوفيتي و١٤ دولة حليفة له بمقاطعة أولومبياد ١٩٨٤ الذي أقيم لوس أنجلس ، وكذلك ما حدث مع جنوب أفريقيا حين كانت المقاطعة الرياضية لها جزءًا من المقاطعة والعقوبات الدولية احتجاجاً على نظام الفصل العنصري، بل أننا نعيش اليوم حادثة تزج فيها الرياضة في المعترك السياسي ، فخلال هذه الأيام استبعد الفيفا الفرق الروسية من جميع المسابقات على خلفية حرب روسيا على أوكرانيا، وقبل عدة أسابيع قاطعت الولايات المتحدة الأمريكية الألعاب الأولومبية الشتوية التي أقيمت في الصين في فبراير الماضي بدعوى انتهاكات الصين لحقوق الانسان، وتنضم الهند للمقاطعة بسبب مشاركة جندي صيني -سبق وأن شارك في مناوشات حدودية بين البلدين- في حمل الشعلة الأولومبية.
أخيراً لا بد أن نذكر أن مقاطعة الكيان الصهيوني بات ضمن حملات دولية منظمة استطاعت أن تنشر الوعي حول القضية الفلسطينية ليتزايد عدد المنضمين لحملات المقاطعة من فنانين ومثقفين وأكاديميين وشخصيات بارزة من مختلف الجنسيات وفي مختلف المجالات، استطاعت حملات المقاطعة هذه أن تضغط على عدد من المؤسسات والشركات لتسحب استثماراتها من الأراضي المحتلة بالإضافة لحمل الجامعات والأكاديميين على مقاطعة جامعات الاحتلال، واستطاعت حملات المقاطعة مزاحمة الرواية الصهيوني بل وإزاحتها في كثير من الأحيان فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وإعادة موضعة الرأي العام العالمي من القضية، وبهذا تصبح المقاطعة ورفض التطبيع أحد أهم وسائل المقاومة التي أثبتت فعاليتها، مما جعل اللوبيات الصهيونية بمعية سياسيين من الكيان يلاحقون الناشطين في عدد من الدول الأوروبية بل وتوصف هذه الحملات بالخطر الاسترايجي، وذلك لأن الكيان المحتل ومنذ تأسيسه لطالما استفاد من التعاطف الغربي معه، وبهذه الحجة نرد على كل المنهزمين لمقولات مثل الأمر الواقع والاعتراف الدولي وعدم جدوى المقاطعة، فإذا كانت الأمم المتحدة تعترف بـ”إسرائيل” دولةً ، فإن المجتمعات والشعوب ومختلف الدول تعترف بحركة المقاطعة وبالمقاطعة حقاً، ومع هذا التنامي لحركة المقاطعة في مختلف الدول شرقيها وغربيها فإن بإمكاننا القول أنه بينما بدأ العالم يميل لمقاطعة الكيان المحتل فإن مروجي التطبيع والساعين له هم الذين ينعزلون عن الحراك العالمي.