ذهب الكويتيون لصناديق الاقتراع في الثاني من فبراير ٢٠١٢ لاختيار أعضاء مجلس الأمّة الكويتي في ظروف سياسية غير مسبوقة. على مستوى المنطقة كانت ثورات الربيع العربي قد بلغت أَوجَها، وعلى المستوى المحلي جاءت هذه الانتخابات بعد حلّ البرلمان نتيجة لنجاح الحراك السياسي الشعبي الكبير في إسقاط رئيس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الصباح في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البرلمان الكويتي حيث لم يسبق أن أُسقط رئيس الوزراء الذي يختاره أمير البلاد من بين أفراد الأسرة الحاكمة، فجرت الانتخابات في هذه الأجواء، وكانت نتيجتها نجاحاً مدويّاً للمعارضة السياسية الكويتية حيث استحوذت على ٣٥ مقعداً من أصل ٥٠.
وُصف الأعضاء الـ ٣٥ بكتلة الأغلبية؛ فقد قدموا أنفسهم وعدّهم المواطنون كتلة سياسية واحدة، وإن كانوا لم يؤسسوا حزباً، ولم يترشحوا بوصفهم فريقاً، لكنهم كانوا أشبه بالتحالف السياسي بين مجموعة من الأعضاء المستقلين والكتل البرلمانية يتوافقون على أهداف سياسية محددة تتطابق مع الأهداف التي نادى بها الحراك السياسي العام. أهم هذه الأهداف هي تعديل قوانين الحريات أو ما يسمى بقوانين المرئي والمسموع، وتنظيم الهيئات السياسية، وقانون مخاصمة القضاء، واستقلالية القضاء، والسؤال هنا: كيف قام أعضاء هذه الكتلة بتنسيق العمل فيما بينهم؟
لا إجابة أفضل من سلوك النائب عبيد الوسمي حينها والتي توضّح الأزمة البنيوية التي تحكم عمل نوّاب مجلس الأمة، فبعد أربعة أيام من إعلان تشكيل الحكومة في ١٥ فبراير ٢٠١٢ برئاسة الشيخ جابر المبارك، أقيمت ندوة بعنوان “الانتقائية في تطبيق القانون”، أعلن فيها النائب د. عبيد الوسمي عزمه على استجواب رئيس الوزراء حيث قال: “وأنا عن نفسي والله لو أقدم الاستجواب منفردا، ولو ما يصوت لي إلا واحد”. أحدث هذا التصريح ضجة وردود أفعال نيابية ساخطة، حيث علّق عليه النائب فلاح الصواغ بقوله “نستغرب من الوسمي عدم مشاورته لنا بخصوص الاستجواب” لاحظ أن الصواغ كان حاضراً في ذات الندوة التي أعلن فيها الوسمي نيّته، ولم يكن لديه أدنى علم، وقد بيّن سبب امتعاضه بجلاء حيث قال: “لا يمكن لنائب أن يجر كتلة، والكويت فوق الجميع”. كل هذا يؤكد أن قرار الوسمي كان فردياً، وهو ما أدركه الجميع حيث وصفته صحيفة “الجريدة” بافتتاح المزاد، تعبيراً عن بدء مسلسل التصعيد والمزايدات التي تأتي بعد أن يُصعّد عضو البرلمان من خطابه السياسي مفتتحاً بذلك موجة تصعيد شعبوية.
تتابعت بعد ذلك ردود الأفعال النيابية من كتلة الأغلبية البرلمانية التي يعد الوسمي أحد أعضائها والتي تشير كلها لمسألة واحدة، هي أن الوسمي تصرف منفرداً. خذ على سبيل المثال تصريح النائب عمار العجمي والذي أعلن جهله بقرار الاستجواب واستغرابه من التوقيت والدوافع. أما النائب أسامة المناور فبعد أن أكد على أن الاستجواب حق دستوري، عاد وأكد على نقطة العمل الفردي فقال: “لا ننازع الوسمي حقه في الاستجواب، لكن نختلف على عدم المشاورة”. في نهاية المطاف لم تتمكن كتلة الأغلبية من إقناع الوسمي بتغيير قراره، بل وصلت معه لتسوية بأن يقوم بتأجيله شرط أن تحل أزمة المحبوسين التي قررتها النيابة العامة.
هذه القصة التي تتناول تمرّد نائب على كتلته النيابية وتقديمه للعمل المنفرد على العمل الجماعي، وعجز الكتلة عن التنسيق ليست خاصة بشخص عبيد الوسمي، بل هي قصة متكررة لكثير من النوّاب – باختلاف أهوائهم الأيديولوجية وتوجهاتهم السياسية وصفاتهم الشخصية – حيث يقدمون ويفضلون العمل المنفرد على العمل الجماعي، وما الاستجواب المقدم من النائب مبارك الحجرف لوزير المالية، والذي تبعه استجواب آخر لنائب رئيس الوزراء وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء براك الشيتان تقدمت به النائبة جنان بوشهري عنّا ببعيد.
كيف نفهم هذا السلوك؟ هل هي الأنانية؟ حب الظهور؟ أو هو شيء في الثقافة العربية يعادي العمل الجماعي؟ أو لعلها الرشوة والإفساد السياسي؟ بظني أن الإجابة الرئيسة على هذا السؤال لا تكمن في أيّ من هذه العوامل. بل المشكلة مؤسساتية دستورية مرتبطة على نحو رئيس بالأدوات التي يمنحها الدستور للنائب منفرداً، فهذا العامل هو ما يعطي الأنانية والرشوة وحب الظهور وأي عامل نفسي أو شخصي إمكانية الظهور، فحسب الدستور يحق للعضو منفرداً أن يقوم بالعديد من مهامه دون الحاجة لأن يتعاون أو ينسق مع غيره، فهو يستطيع – منفرداً – أن يطلب استجواب أي وزير أو مسؤول، ويستطيع – منفرداً أيضاً – أن يقترح قانوناً؛ ويستطيع – منفرداً – أن يطرح أي سؤال برلماني يراه ضروريا. هذه الأدوات الدستورية تحفّز وتزيّن وتسهّل العمل النيابي الفردي؛ ومن ثمّ تجعل أي عمل جماعي داخل قبّة مجلس الأمة مسألة صعبة.
لتوضيح هذه الحجّة، ركزت في هذه المقالة على أداة واحدة فقط وهي أداة الاستجواب، موضحاً كيف أن اليسر الذي يمنحه الدستور للنائب البرلماني لاستخدامها يكاد ألّا يضارعه أيٌ من الأنظمة البرلمانية في العالم، فغالبية هذه الأنظمة البرلمانية تجعل هذا الحق جماعيا وليس فردياً، وأما من سمح بالفردية فإنه يضع كوابح داخلية تضطر النائب للعمل بشكل جماعي، وبعد أخذ نماذج من البرلمانات العالمية ستتضح غرابة الحالة الموجودة في الكويت، وأن هذا الوضع الدستوري- لا الثقافة ولا السمات الشخصية ولا الفساد والرشوة – هو الذي يفسر صعوبة العمل الجماعي تحت قبة البرلمان الكويتي.
الاستجواب أداة دستورية فردية في الكويت
يقوم عمل البرلمان بشكل رئيس على تأدية وظيفتين: التشريع والرقابة. في الكويت، تعمل الحكومة المعيّنة من الأمير شريكاً في عملية التشريع، حيث يحق لأعضاء الحكومة التصويت على القوانين المقترحة، أما الوظيفة الرقابية فهي عمل برلماني خالص لا تنازعه فيه الحكومة.
تتعدد أدوات عضو البرلمان الرقابية على أعمال الحكومة، فهي تشمل: الاستجواب، طرح الثقة، السؤال البرلماني، لجنة التحقيق. وبعض هذه الأدوات تُمنح للنائب منفردا وأخرى تشترط عدد معيناً من الأعضاء. في الدستور الكويتي نجد أن لعضو البرلمان منفردا حق السؤال (مادة ٩٩) والاستجواب (مادة ١٠٠)، أما بالنسبة لطرح الثقة وطلب لجنة التحقيق، فيشترط ١٠ أعضاء (مادة ١٠١) للأولى، و ٥ أعضاء (اللائحة الداخلية، مادة ١٤٧) للثانية.
يفصّل الدستور الكويتي في تنظيمه لأداة الاستجواب في المادة ١٠٠ حيث سمح “لكل عضو من أعضاء مجلس الأمة أن يوجه إلى رئيس مجلس الوزراء وإلى الوزراء استجوابات عن الأمور الداخلة في اختصاصاتهم” ومن خلال النظر في نص المادة يمكننا معرفة أن هذا الحق الدستوري منح للعضو منفرداً دون اشتراط موافقة أعضاء آخرين. يؤكد هذا الأمر ما نجده في اللائحة الداخلية لمجلس الأمة، حيث نجدها حددت عدداً أقصى للموقعين “ثلاثة أعضاء” (اللائحة الداخلية، ١٣٤)، إلا أنها لم تضع حداً أدنى، بل جاء في نص الدستور ” لكل عضو” أي يُكتفى بواحد.
يقدم الاستجواب مكتوبا من العضو منفردا إلى رئيس المجلس، ويبلغ به الوزير المستجوب حتى يناقش الاستجواب بمدة لا تقل عن ٨ أيام في غير حالة الاستعجال (الدستور، ١٠٠)، ويدرج الاستجواب في أول جلسة تالية لتحديد موعد المناقشة فيه (اللائحة الداخلية، ١٣٤).
هذه هي طريقة عمل الاستجواب في النظام البرلماني الكويتي، فهي تمر عبر ثلاث محطات: أولاها تقديم طلب الاستجواب من عضو (أو اثنين أو ثلاثة)، ثم تبليغ رئيس مجلس الأمة للوزير المستجوب ومدتها ٨ أيام، والمحطة الأخيرة مناقشة الاستجواب في أول جلسة مقبلة. ويتبين من هذه المحطات سهولة ممارسة هذه الأداة لكل عضو من أعضاء البرلمان منفرداً، فلا يحتاج إلى موافقة من رئيس المجلس، ولا يحتاج لإقناع غيره من الأعضاء بذلك، ولا يملك الوزير تجاهله.
أداة الاستجواب في البرلمانات الأخرى
تختلف الأنظمة البرلمانية حول العالم في طريقة تنظيمها لأداة الاستجواب، فهناك أنظمة مشابهة للنظام الكويتي تمنح حق الاستجواب للعضو الفرد، وهناك أنظمة تشترط توافق مجموعة من الأعضاء. الهدف من إجراء هذا المسح، هو معرفة موقع الكويت ضمن مثيلاتها من الأنظمة البرلمانية، وكذلك الاستفادة من التجارب الأخرى لحل مشاكلنا.
لنبدأ بالبرلمانات التي تمنح حق الاستجواب للعضو منفرداً. في منطقتنا يوجد على الأقل نظامان برلمانيان يقومان بذلك؛ البحريني والمصري. لكن هناك اختلافاً رئيساً مع الحالة الكويتية، ففي البلدين يشترط تشكيل لجنة مكونة من خمسة أعضاء من البرلمان للنظر في الاستجوابات. تهدف هذه اللجان لتفحص سلامة مقاصد الاستجواب ومنع استخدامه للمصالح الشخصية لئلّا يتحول إلى أداة للابتزاز السياسي.
أما بالنسبة للبرلمانات التي تشترط توافق أكثر من عضو للتمكن من الاستجواب فهي أيضا تختلف في العدد اللازم توفره للحصول على الاستجواب. ففي منطقتنا، نجد في العراق أنه يمكن لعضو البرلمان أن يتقدم بالاستجواب شرط أن يوافق ٢٥ عضوا من أصل ٣٢٥ نائبا، والحكمة في زيادة عدد مقدمي الاستجواب هو النأي به عن المصالح الشخصية بحسب رأي الباحثة في الفقه الدستوري د. حنان القيسي. فيما يتطلب موضوع طرح الثقة بأحد الوزراء توقيع ٥٠ نائبا في مجلس النواب العراقي. أما في تونس، فإنه من الممكن تقديم لائحة لوم ضد الحكومة مشفوعا بتوقيع ثلث الأعضاء البالغ عددهم ٢١٧ أي ٧٣ عضوا (الدستور التونسي، ٩٧). ولم يكتف الدستور بهذا الشرط حيث وضع شرطا آخر وهو عدم تقديم لائحة لوم في حالة عدم تحقيق أغلبية مطلقة إلا بعد مضي ستة أشهر. إن من شأن هذه القيود أن تحد من استخدام الاستجواب لأغراض شخصية عن طريق الابتزاز بالتلويح أو بالتقديم، وهذه القيود تدفع عضو البرلمان إلى العمل الجماعي لتحقيق مبتغاه.
أما في خارج منطقتنا، فنجد في أوروبا أن الدستور النمساوي مثلاً يشترط موافقة ١٥ عضوا من أصل ١٨٥، وهو شبيه للشرط المعمول به في البرلمان الألماني حيث يشترط توقيع ٣٠ عضواً لتقديم الاستجواب. أما في أمريكا اللاتينية، فنجد أن الاستجواب في الإكوادور يشترط أن يتقدم به ربع أعضاء المجلس، وفي البيرو يشترط توافق ١٥٪ من أعضاء البرلمان لتقديم الاستجواب.
.
إن هذه المقالة محاولة لتفسير السلوك الفردي للنائب في البرلمان الكويتي من خلال قراءة المحفزات والقيود التي تؤسس لعمل الأعضاء. حيث ناقشت في هذه المقالة أداة الاستجواب موضحا بأن استنادها على عضو واحد هو ما يدفع إلى السلوك الفردي لأعضاء مجلس الأمة، وأن النظر في التجارب البرلمانية الأخرى من شأنه أن يفتح الطريق لقراءة جديدة لهذه الأداة والأدوات الأخرى، ونؤكد بأن مهما كثرت التفسيرات المؤامراتية والنفسية والشخصية لأسباب السلوك الفردي فإنها ستبقى بعيدة عن معالجة أصل المشكلة وجذرها الممتد في اللائحة والدستور الكويتي.
إن تعدد الشروط واختلافها في النماذج البرلمانية من شأنه تزويدنا بمعالجات ضرورية يحتاجها البرلمان الكويتي، ففي حين يتغنى البرلمان الكويتي بقدرة أعضائه منفردين على تقديم الاستجواب، فإن البرلمانات الأخرى تبحث عن تعزيز العمل المؤسسي والجماعي والقدرة على الإقناع والتعاون بين أعضائه، كبديل عن سياسات الانفراد والتوريط والتصعيد.