“لم تكن الجماهير في حياتها ظمآ للحقيقة، وأمام الحقائق التي تزعجهم فإنهم يحولون أنظارهم في اتجاهٍ آخر، إن من يعرف إيهامهم يصبح سيدًا لهم، ومن يحاول قشع الوهم من أعينهم يمسي هو الضحية، وليس سادة الجماهير في الغالب رجال فكر بل هم رجال عمل قليلو الحذر”
غوستاف لوبون (سايكلوجية الجماهير)
عندما وصلت جماعة الإخوان المسلمين -حزب الحرية والعدالة- إلى الحكم عام ٢٠١٢ كانت تحمل شعارًا انتخابيًا مألوفًا هو “دولة مدنية بمرجعية إسلامية”. هذا الشعار يطرح سؤالاً هو: ما الفرق بين حزبٍ إسلامي وحزب علماني إذا كان واجب أي سلطة -وتحديدًا بعد ثورة شعبية- حرب الفقر والبطالة، وإصلاح الاقتصاد والتعليم والصحة؟ لماذا عليّ أن أنتخب حزبًا دون آخر إذا كانت وعود هذا الحزب تشابه وعود الآخر في القضاء على المشكلات الاجتماعية؟ فَهم التيار الإسلامي ذلك جيدًا -بحسن نيةٍ أو بسوء نية- فلم يعمد في خطابه للجماهير إلى إثبات جدية الوعود الإصلاحية والثورية لحل مشكلات البلاد مثلًا، ولم تكن حملته الانتخابية تشرح كيف سيواجه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية بمرجعية إسلامية، كطرح خارطة طريق واضحة تقنع العوام من الناس بضرورة انتخابهم، بل اعتمد على أسلوبٍ تعبوي ضحل قادته الشخصيات الإعلامية المحسوبة على التيار الإسلامي، أسلوبٍ يخاطب التدين الشعبي بشعارات كما نتذكر مثل “الإسلام هو الحل” و “انتخبوا بتوع ربنا” و “صوتك أمانة فاجعله للأحزاب الإسلامية” و “قالت الصناديق للدين نعم” .. إلخ.
إن الخطاب التبسيطي في التعامل مع الجماهير سمة بعض التيارات الإسلامية، والتحليل التبسيطي يدخل القضايا السياسية الراهنة، وتحليل التاريخ وتفسير الظواهر العالمية كالاستعمار والعولمة والحداثة وغيرها. ولأن لكل حزبٍ أو تيارٍ فكري في العالم رؤية يحلل بها التاريخ ليفهم بها الحاضر، فكثير من التيارات الإسلامية تفسّر التاريخ على أنه صراعٌ بين الكفر والإيمان؛ وبذلك فإن ما يدور في الحاضر كالصراع مع الهيمنة الغربية ومقاومة الاحتلال الإسرائيلي هو شكلٌ حديثٌ لهذا الصراع السرمديّ. فكل قضية تُطرح يجب فهمها من خلال هذا التحليل المبسط للتاريخ، فعندما كتب الشيخ عبدالله عزام عن عدوه القابع خلف المتراس الآخر “الاتحاد السوفييتي” لم يسوّغ قتاله لإخراجه أفغانستان المُحتلة أنّه ردّ أي شعبٍ يجتاحه الاحتلال، بل أدخل الثورة الأفغانية في سياق “الصراع بين الكفر والإيمان” وعندما أتته الفرصة لإيضاح هوية هذا العدو الذي يقاتله كتب كتابه السرطان الأحمر الذي أعدّه مثالًا لما أعنيه بـ “الخطاب التبسيطي” فلم يعتمد في كتابه هذا على فضح استبداد الاتحاد السوفييتي وتناقض مبادئه -الذي تحار من أين تبدأ في الكلام عنه- أو على الأقل قدّم نقدًا علميًا للعقيدة السياسية للاتحاد السوفييتي “الشيوعية”، بل قال في كتابه إن الشيوعية -التي نظّر لها كارل ماركس “اليهودي” ونادى بها البلاشفة الذين يقودهم كلّ من فلاديمير لينين “اليهودي” وليون تروتسكي “اليهودي”- ليست إلا مؤامرة صهيونية ماسونية للقضاء على الأديان، فهلمّوا أيها الشباب المسلم للتصدي لها!
وتجد التحليل التبسيطي ذاته في خطاب الشيخ محمد الغزالي عندما وجّه هجومًا عنيفًا على الرئيس جمال عبدالناصر في كتابه قذائف الحق، فلم يستخدم حججًا موضوعية كاستبداد عبدالناصر وتقييده للحريات العامة والتعذيب في السجون وتفشي الفساد والمحسوبية في أجهزة الدولة ورأيه عنه لخصه في جملة من كتابه: “نعم.. مات عبدالناصر رائد الفكر القومي الماركسي الشيوعي ربيب الماسونية والصليبية”. وهي جملة تعيدنا إلى الخطاب التبسيطي أيضًا، فغير مهمٍّ أبدًا أن تشرح للعوام الفرق بين القومية والماركسية والماسونية والصليبية، بل المهم أن تقذف عدوّك بكل هذه الصفات. وقد وقع الدكتور عبدالله النفيسي بهذه الحفرة أيضًا في سلسلة حلقات مع الإعلامي عمار تقي ينتقد فيها مصطفى كمال أتاتورك الذي علمن الدولة والمجتمع وحظر الدين من الفضاء العام، فلا يجد النفيسي تفسيرًا أكثر منطقية إلا أن يكون أتاتورك هذا من أصل يهودي يضمر كرهًا للإسلام والمسلمين، بلا دليل يثبت هذا الادعاء، بل لا حاجة إلى هذا الادعاء أصلا لإثبات أو نفي أي تهمة تُدين حاكما ما. دين الحاكم يورد حجة في ورقة بحثية بعنوان استهداف النصارى واليهود للقادة الأفارقة المسلمين: الرئيس الأوغندي عيدي أمين دادا نموذجا نشرتها جامعة أفريقيا العالمية بالسودان يقول فيها كاتب الورقة الدكتور أحمد رزق الله بأن الإطاحة بعيدي أمين كانت ضمن المخطط العالمي للقضاء على الإسلام والقادة المسلمين في إفريقيا، ولم تكن الموافقة الدولية على الإطاحة به بسبب حكمه الاستبدادي المجنون والغشوم الذي يصعب جدا صبغه بأي شرعية، ولا بسبب انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان التي تشمئز من القراءة عنها، ولا بسبب قراره الغشيم بغزو تنزانيا عام ١٩٧٨ الذي كان المسمار الأخير في نعشه، وإنما يفسر الدكتور رزق الله “بضحالة” أن السبب المنطقي هو معاداته للكنيسة الأوغندية ودوره العظيم في نشر الإسلام!
ينقل الخطاب التبسيطي هنا متلقيه إلى عالم موازٍ، لا يمت بأي صلة للعالم الواقعي الذي نعيش فيه ونتأثر بأحداثه، ولا معنى من الاستفادة والاعتبار بالتاريخ إن كانت أحداثه فُسّرت وفُهمت خطأً. مثلاً يتخيل بعض الإسلاميين تاريخ المنطقة الحديث -منذ القرن العشرين- هكذا: أولًا، كانت هنالك خلافة إسلامية تحكم بشرع الله على رأسها خليفة إسلامي عظيم هو عبدالحميد الثاني وكانت الأمة في خيرٍ وسلام. ثانيًا، تآمر الغرب والشرق لإسقاط هذه الخلافة بعون من بعض العرب العلمانيين الخونة (القوميون العرب) الذين نالوا الدعم من الإنجليز واليهود والماسونيين. ثالثًا، سقطت الخلافة الرشيدة وأتى المستعمر ليقسم بلادنا الإسلامية ووضع بنفسه حكامًا عملاء ليحموا مصالح المستعمر ويحاربوا الإسلام والمسلمين. رابعًا، مهمتنا اليوم استعادة هذه الخلافة لنعود سادة العالم.
هذه هي الرواية التاريخية التبسيطية لما حصل، حيث تُذكر على شكل حقائق ضمنية غير معرضة للمناقشة أو التشكيك. فعلى سبيل المثال عندما تقرأ كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لأبي الحسن الندوي، بل عند قراءتك العنوان تجد السردية إياها: كان العالم غارقًا في الحروب والخراب، ظهر المسلمون ووضعوا حدا لهذا الخراب وقادوا العالم في شتى مجالات العلوم والمعرفة، سقط المسلمون ليعود الخراب للعالم. ودون ذلك تفاصيل هامشية لا تضرّ مسار الرواية الأصلية، بل استثناءاتٌ تؤكد القاعدة، ومن يخوض في هذه المسلمات أو يطرح رؤية أخرى يتهم بالعمالة والخيانة والعلمنة والرضوخ للغزو الفكري.
وبدهيٌ أن من يغيّب التفكير العلمي في تحليل القضايا الكبرى لن يتوانى عن تغييبه في القضايا الصغرى أيضًا. فمن يتخيلِ مؤامرة كونية لإسقاط الخلافة العثمانية المثالية الرشيدة، يتخيل أيضًا مؤامرةً لغسل أدمغة شبابنا عن طريق لعبة “البوكيمون ” عندما أفتى مجموعة علماء مسلمين أهمهم الشيخ يوسف القرضاوي بتحريم المسلسل الكرتوني “بوكيمون” وما بني عليه من ألعاب وأفلام حيث حدد القرضاوي خمسة أسباب قادته لتحريم اللعبة بعد رجوعه لأهل الخبرة كما ادعى، أهم هذه الأسباب أن المسلسل يروج “للأفكار الدارونية” !!
ولنا في الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل خير مثال. فحينما سأله المخرج المعروف محمد دياب في لقاءٍ تلفزيوني على قناة CBC المصرية زمن ترشحه للانتخابات الرئاسية المصرية ٢٠١٢ – الذي كان من المتوقع فوزه بها لولا منعه من الترشح لاحقًا- عن تصريح سابقٍ له يقوم فيه بكشف مؤامرة مشروب “Pepsi” التي يدّعي أبو إسماعيل أنها اختصار جملة “ادفعوا كل بنس لإنقاذ إسرائيل” ، تمنى محمد دياب من الشيخ أبو إسماعيل الاعتذار عن هذا التصريح الذي يسيء له مستدلا بأن تأسيس شركة بيبسي سبق تأسيس إسرائيل بـ٤٦ سنة، ولكن الغريب أن أبو اسماعيل تمسك بهذا التصريح! ودافع عنه وعرض حججا إضافية تكشف هذه المؤامرة!
يقتل التبسيط شغفَ المعرفة برسمه صورةٍ ذات بُعد واحد لأي قضية، ويهمل التفاصيل المهمة التي من دورها أن توسع مدارك المتلقي وتوضّح له الصورة بمصداقية أكثر. وحذراً من أن أقع في فخ التبسيط فإني لا أدّعي بأن هذا الخطاب علامة مسجلة لبعض التيارات الإسلامية دون غيرها ولا أعني التعميم عليها أيضا. فهناك من رحم ربي من المفكرين المحسوبين على التيار الإسلامي مِمَّن يقدّرون الحقائق الموضوعية وهم على وعيٍ تامٍّ بأهمية الدور التاريخي المحمّل على عاتقهم. وفي الجانب الآخر هناك من يدعي التقدمية ومحاربة التفكير الغيبي والأسطوري في خطاب ويضرب بذلك كله عُرض الحائط في خطابٍ آخر، ولكن العدل أن يزيد حجم النقد للفصيل الأكثر انتشارًا وتأثيرًا، الفصيل الذي رهنّا مستقبلنا بين يديه في أهم فترة تاريخية في عمر تاريخنا السياسي الحديث، فقبول كثيرين هذا الخطاب اليوم كان نتيجة عقودٍ من الحشد والتعبئة، إذ إن هيمنة الخطاب التبسيطي في مجتمعٍ ما تقتل فيه ثقافة البحث والتشكك والاختلاف والتفكير النقدي، وهي أدواتٌ لا غنى عنها لبناء مجتمع يحتفي بالمعرفة التي تولد من رحمها النهضة المنتظرة.
كلامك سليم ١٠٠٪، لكن القطعة المفقوده في هذه الاحجية هي: لماذا تنقاد الشعوب -بشرائحها الواعية وغير الواعية- خلف الشعارات الـ”تبسيطية” والخطب الرنانه؟ لان هذه المدارس التبسيطية لا تخرج للعامه سوى في حالات الفوضى، فتركض الشعوب لأي فكرة بسيطة فقط لانها في الظاهر تحمل عناوين دافئة وشعارات مريحة…