كان للجيوش العربية دور بارز في رسم مسارات ومصائر الانتفاضات الشعبية، حيث شكلت قرارت قادة الجيش دورا مهماً في السقوط السريع و غير العنيف للأنظمة السلطوية في مصر وتونس، وعلى العكس، كان موقف الجيش في ليبيا وسوريا عاملاً أساسياً لتحول الانتقاضات الشعبية إلى حروب أهلية استدعت التدخل الأجنبي. والسؤال هنا، لماذا تباينت مواقف الجيوش العربية الثورات؟ وبشكل أكثر تحديداً، لماذا رفض قادة الجيش في مصر وتونس قمع المتظاهرين ودعم الحكومات السلطوية؟ ولماذا ساند الجيش -أو غالبية أفراده- النظام الحاكم في وسوريا، وانقسم الجيش في ليبيا واليمن بين دعم النظام والوقوف مع الثورة؟ وكيف نفهم تباين مواقف الجيش من الأنظمة الجديدة، كتدخل الجيش المصري لإزالة الرئيس محمد مرسي، وتجنب الجيش التونسي للمعترك السياسي في المرحلة التي تلت سقوط بن علي؟
تستعرض هذه التدوينة أبرز المحاولات النظرية لفهم طبيعة دور الجيش في النظام السياسي، وتسعى لتقدم للقارئ أبرز المفاهيم والأدوات التحليلية التي تساعد في فهم التباين في سلوك الجيش واستجابته للانتفاضات الشعبية والأنظمة الجديدة التي أوجدتها. حظي دور المؤسسة العسكرية باهتمام كبير في دوائر العلوم الاجتماعية، حيث تطور حقل نظري تحت اسم العلاقات المدنية العسكرية (Civil-Military Relations)، يعنى بدارسة أنماط العلاقة بين الجيش كمنظمة مسلحة، والإدارة السياسية للدولة، والمجتمع ككل. كما يسعى عدد من الباحثين في هذا الحقل لفهم السياسات والبنى المؤسسية التي تضمن عدم تغول الجيش واستيلاءه على الحياة المدنية، وترسيخ سلطة القادة المدنيين على القوات المسلحة.
بداية، يشير العديد من الباحثين إلى مستوى احترافية الجيش (Military Professionalism) كعامل أساسي في تحديد الدور السياسي الذي يقوم به. يشير صامويل هنتنجتون، والذي يعد من أوائل من نظر لمفهوم الاحترافية، أن وظيفة الجيش محددة ودقيقة تتمثل في إدارة العنف في المجتمع. تنبع الاحترافية من خصوصية هذه الوظيفة وتطلّبها لمهارات ومعارف محددة تضمن الجاهزية القتالية للجيش وانتصاره في المعارك، الأمر الذي يمنع أفراد الجيش من التدخل في الشؤون السياسية كونها تقع خارج نطاق تخصصهم. بناءً على هذا الرأي، فإن زيادة احترافية أفراد الجيش (أي معارفهم ومهاراتهم العسكرية، والتنظيمات والمؤسسات اللازمة لتعزيز هذه المعارف والمهارات)، تقود بالضرورة إلى تقليص النفوذ السياسي للجيش. بالمقابل، فإن الجيش الذي يقوم بأدوار سياسية هو جيش غير محترف بالضرورة. وإذا سلمنا بصحة رأي هنتنجتون، فستكون النتيجة أن جيشي مصر وتونس يتمتعان بمستوى عالي من الاحترافية الأمر الذي منعهم من التصرف كأداة في يد الأنظمة المستبدة لقمع الشعوب. وبالمقابل، فإن تدني احترافية الجيوش في اليمن وليبيا واليمن أدى إلى تفككها ومساندة بعض أفرادها للأنظمة السلطوية، وانشقاق البعض الاخر وانضمامه للمتظاهرين.
تعرض هذا الرأي للكثير من النقد من قبل باحثين آخرين، حيث أشار ستيفان في دراسته للمؤسسة العسكرية في البرازيل أن احترافية الجيش قد تقود لتزايد دوره السياسي. فالاحترافية العالية للجيش البرازيلي لم تمنعه من الانقلاب على السلطة المدنية في عام ١٩٦٤م. يفسر ستيفان ذلك بتحول مفهوم الاحترافية لدى الجيش في السنوات التي سبقت الانقلاب العسكري. فمن خلال دراسته لمناهج الكليات العسكرية في البرازيل، وجد ستيفان أن وظيفة الجيش الأساسية وهي الدفاع عن الدولة تم ربطها بشكل كبير بالتنمية، مما أدى لخلق مفهوم جديد لاحترافية الجيش يمتزج فيه الدور الدفاعي مع أدوار أخرى تنموية وسياسية، الأمر الذي برر تولي الجيش لأدوار سياسية متزايدة. ويجادل ستيفان أن مستوى الاحترافية لا يحدد نفوذ الجيش السياسي، بل يعتمد ذلك على عوامل تاريخية واقتصادية عديدة.
وفي دراسة أخرى، يوظف كمرافا مفهوم هنتنغتون للاحترافية العسكرية لفهم طبيعة الجيوش العربية. ويجادل بأن مفهوم الاحترافية يحمل معاني و تأثيرات مختلفة في السياق الشرق أوسطي عما اقترحه هنتغنتون. يرى كمرافا أن الاحترافية العسكرية في العالم العربي تعني تزويد الجيش بأسلحة ومعدات حديثة ومتطورة، وتنظيم عملية التجنيد والتعيين والترقية داخل الجيش لتكون مبنية على الكفاءة. هذا النوع من التحديث غالباً نتج عنه تنامي شعور بالاستقلال والهوية الجمعية، مما يؤدي لتزايد ميل الجيش للتدخل والتأثير في السياسة. لا يرى كمرافا تعارضاً بين هذا النوع من الاحترافية العسكرية والأدوار السياسية المتزايدة للجيش، ويشير إلى أن الدور المركزي الذي لعبته العديد من الجيوش العربية في مرحلة بناء الدولة جعل تدخل الجيش في الشؤون السياسية أمراً غير مستهجن، بل وفي بعض الأحيان مرغوب من قبل قطاعات واسعة من المجتمع. أدى هذا الدور الاستثنائي للجيش إلى ظهور أنماط عديدة من العلاقات المدنية العسكرية لا تسعى بالضرورة لترسيخ سيطرة السلطة السياسية المدنية على الجيش، بل تقتصر على إيجاد آليات تقلل احتمالية حدوث انقلابات عسكرية. تتمثل أحد أهم هذه الآليات في إنشاء وتوسعة أجهزة أمنية وعسكرية موازية للجيش تقوم بخلق نوع من توازن القوى أمام الجيش، وبناء هذه الأجهزة الأمنية على تحالفات قبلية أو طائفية موالية للسلطة الحاكمة.
في سياق الربيع العربي، يسعى ديريك ليتربيك لفهم أسباب التباين في سلوك الجيوش العربية خلال الثورات. حيث يرى أن عاملين اثنين يفسران هذا التباين: ١)درجة مؤسسية القوات المسلحة، المشيرة إلى وجود قواعد عامة تحكم التعيين والترقية وكون هذه القواعد مبنية على أداء وكفاءة ضباط الجيش وليس على اعتبارات شخصية كالانتمائات الدينية والقبلية، أو التوجهات السياسية ٢)طبيعة ارتباط الجيش بالمجتمع ككل من حيث الخلفية الاجتماعية لأفراده. يرى ليتربيك أن المؤسسية العالية للجيش تؤدي إلى تكون هوية مستقلة للجيش عن النظام الحاكم، مما يسهل تخلي الجيش عن السلطة أمام الضغط الشعبي. كما أن الصلات الوثيقة بين أفراد الجيش والمجتمع تجعل قمع المتظاهرين مسألة في غاية الصعوبة لدى الجيش وقد تؤدي لعصيان الجنود وتفكك الجيش . وبناءً على ذلك، يرى الكاتب أن الجيشين التونسي والمصري يتمتعان بدرجة عالية من المؤسسية ووصلات وثيقة بالمجتمع، وهذا مايفسر رفضهم لقمع المتظاهرين وتخليهم عن رأس النظام. بالمقال، فإن الجيوش الأخرى والتي تفتقر للمؤسسية، كالجيش الليبي واليمني، أو تلك التي بنيت على أسس طائفية أو قبلية، كالجيش السوري واليمني، ساهمت في قمع المتظاهرين أو كان مصيرها التفكك والانقسام.
إذا سلمنا جدلاً بصحة الافتراض عن المؤسسية العالية للجيش المصري، فإن تدخل الجيش في العملية السياسية وإزاحته للرئيس محمد مرسي، واستخدام العنف المفرط ضد المدنيين في أحداث رابعة وغيرها تشكك في صحة هذا الرأي. إضافة لذلك، فبالرغم من تمتع الجيش المصري بقدر من المؤسسية، فإنه من الصعب الحكم بأن الجيش المصري يملك هوية جمعية مستقلة عن النظام الحاكم. في هذا الصدد، يوضح يزيد صايغ في دراسته المهمة عن القوات المسلحة المصرية “جمهورية الضباط” مدى توغل ضباط الجيش ذوي الرتب العالية في جميع مؤسسات الدولة المصرية، وكيف سعى نظام مبارك لضمان ولاء أفراد القوات المسلحة عبر منحهم مناصب قيادية في الشركات المملوكة للدولة. هذا النفوذ السياسي والاقتصادي قلص من استقلالية الجيش عن النظام الحاكم، وربما يفسر تخوف قادة الجيش المصري -رغم تخليهم عن مبارك- من تحول ديمقراطي كامل للنظام السياسي المصري. بالمقابل فإن الجيش التونسي، ومنذ عهد الرئيس بورقيبة، تم تهميشه والحد من توسعه العددي خوفاً من حدوث انقلابات سياسية. بالمقابل اعتمد النظام الحاكم، وخصوصاً في عهد بن علي، على توسيع الأجهزة الأمنية المدنية كالشرطة والمخابرات والاعتماد عليها في حماية النظام وقمع الحركات المعارضة. ولذلك، يمكن القول أن انفصال الجيش التونسي عن النخبة الحاكمة ساهم في تخليه عن نظام بن علي ودعمه للانتفاضة الشعبية.
يقدم هنتنجتون في دراسة لاحقة تشخيصاً مهماً لمشكلة النفوذ المتزايد للجيش في الكثير من الدول النامية، حيث يرى أن السبب لايكمن في طبيعة الجيش البنيوية أو الخلفيات الاجتماعية لأفراده، إنما في ضعف وعدم فاعلية المؤسسات السياسية، كأجهزة الدولة والأحزاب السياسية، والتي يفترض بها توفير قنوات مؤسسية تنظم التنافس والصراع بين مختلف مكونات المجتمع. وفي غياب هذا الدور، يبرز الجيش كأحد أقوى مكونات المجتمع، نظراً لامتلاكه وسائل القوة التي تمكنه من فرض سيطرته على بقية المكونات بما فيها السلطة المدنية الحاكمة. وبالمقابل، فإن قوة وفعالية المؤسسات السياسية المدنية وقدرتها على تنظيم وامتصاص الصراعات المجتمعية تضمن عدم تغول الجيش، أو أي جماعة أخرى كالجماعات الدينية أو العرقية، على إدارة الشؤون السياسية. بناءاً على هذا الرأي، فإن عدم قدرة الحكومات السلطوية على امتصاص وتلبية المطالب الشعبية ساهم في دخول الجيش للمعترك السياسي، إما بدعم النظام أو المتظاهرين. يكتسب هذا الرأي أهمية شديدة في الحالة المصرية، وتحديداً خلال الفترة التي تلت سقوط مبارك. فقد أدى فشل النخبة السياسية ومؤسساتها -الحاكمة والمعارضة- في التوصل لحد أدنى من التوافق السياسي إلى الاستقواء بالجيش لحسم الصراع السياسي وإزالة مرسي.
هذا الاستعراض السريع للأدبيات الأكاديمية يشير إلى أن فهم سلوك الجيش ودوره في النظام السياسي لا يمكن أن يتحقق بشكل ملائم إذا اختزلنا النظر إلى عامل واحد فقط كمستوى الاحترافية أو المؤسسية، أو درجة استقلاليته عن الحكومة. إن إدراك السياقات التاريخية لعملية بناء الدولة -والتي تتضمن تشكيل جيش وطني- متطلب ضروري لفهم سلوك الجيش. فجيوش الدول التي خاضت حروباً تحررية ضد الاستعمار الأوروبي أو اسرائيل تتميز عن غيرها في جوانب عدة. بالإضافة لذلك، فإن إدراك موقع الجيش داخل النظام السياسي، وعلاقته ببقية مؤسسات الدولة، ومدى كفاءة وفعالية هذه المؤسسات يساعد في فهم سلوك الجيش ودرجة نفوذه السياسي.