“القناع الأردأ والأخطر الذي اتخذه المطلق في الميدان السياسي، هو قناع الأمة”
حنا أرندت، في الثورة.
شهد العالم حرباً سريعة وصادمة أعلنتها روسيا على جارتها أوكرانيا، ففي فجر الرابع والعشرين من فبراير الماضي، أعلن رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين بدء ما أسماه “العملية العسكرية” على أوكرانيا، والتي قُتل فيها حتى الآن ألفا مدني، وبلغ عدد النازحين داخل أوكرانيا حوالي ٨ ملايين ، وتجاوز إجمالي المهاجرين منها ٦.٥ مليون حسب احصاءات الأمم المتحدة.
بطبيعة الحال، حدث كبير مثل هذا ولّد نقاشات في كل مكان، وكان الفضاء العربي أحد ساحاته. في هذه المقالة، ركزتُ على موقف انتشر في هذا الفضاء تبنته جماعات كثيرة منتمية للتيار اليساري والشيوعي، واستخدمتُ للنقاش نموذجاً كويتياً ينتمي إلى الأيديولوجيا الشيوعية وهو الحركة التقدمية، عارضاً الموقف الذي قدمته هذه الحركة ومن ثم طارحاً الإشكالات على النتيجة التي انتهت إليها، حيث اتخذتْ موقفاً سلبياً تجاه الحرب بدفاعها عن المعتدي وتأييدها اعتداءَه، وأدّعي أن العلاقة السببية التي تقيمها الحركات اليسارية العربية عموما والحركة التقدمية خصوصا بين بوتين والشيوعية علاقة زائفة وأن نقيضها هو الصحيح، فبوتين لا ينتمي للتيار اليساري في صيغته الشيوعية وإنما إلى النقيض وهو التيار المحافظ في صيغته القومية، وأشرع في تحديد موقفه مستعيناً بخطابه في ٢١ فبراير ٢٠٢٢ مجيباً عن السؤال: هل الرئيس الروسي شيوعيٌ بأي شكلٍ حتى يدافع عنه الشيوعيين العرب عموماً والتيار التقدمي الكويتي على الخصوص أو أنه قومي يرفض الإرث الشيوعي ويرى بأن امتداده يصب في صلب تاريخ الإمبراطورية الروسية كما ادعي؟
مواقف مخالفة للموقف الرسمي للحكومة
مع أن السياسة الخارجية للدولة دائما ما كانت بعيدة عن النقاش السياسي المحلي ومجمع عليها -شفهياً- باعتبارها أقل الوزارات استجواباً في تاريخ الكويت المعاصر فلم تتجاوز الاستجوابين في تاريخ البرلمان فقط ومع أن الكويت واحدة من ثلاث دولٍ عربية رافضة بشكل صريح للهجوم العسكري الروسي إلا أن الحركة التقدمية وبعد أيام قليلة من الغزو الروسي لأوكرانيا اعترضت على موقف الدولة مطالبةً وزارة الخارجية بـ “إعادة النظر الجذري في السياسة القائمة” تجاه الولايات المتحدة الامريكية والغرب عموماً. دفع الحركة لاختيار هذا الموقف حسب البيان الذي أصدرته عقب انطلاق الحرب كونه موقفاً غير مهادن ولا مجامل للموقف الرسمي للحكومة الكويتية، وبالتالي فهو ليس امتداداً أو تبريراً أو مناصرةً للموقف الرسمي.
بوتين وأوكرانيا
تتبين أهمية الخطاب السياسي في كونه كاشفاً للأيدلوجيا التي ينطلق منها صاحبه، فعندما نسمع أو نقرأ خطابا سياسياً فنحن لا نبحث عن خفايا غائبة بقدر ما نحاول استيضاح ما يقوله المتكلم الذي يكشف دلالات في خطابه تتعلق بنظرته للعالم ونظرته لجماعته وللآخر، وموقعه في الحاضر وموقفه من الماضي ورؤيته للمستقبل. ففي المجال السياسي لا يوجد لدينا سوى الكلمات للتعبير والتواصل، والذي عبرت عنه حنا أرندت بالشكل التالي: ” لأن الفكر السياسي لا يتبع إلا صياغات الظواهر السياسية ذاتها، وهو يظل محدودا بما يظهر في مجال الشؤون الإنسانية، وهذه المظاهر، بعكس المسائل الفيزيائية، تحتاج إلى كلام وصياغة. أي إلى شيء يتعدى مجرد الرؤية الفيزيائية والسماع المحض، لكي تتجلى” وعليه فإننا اخترنا تحليل الخطاب من هذا المنطلق تحديداً.
ألقى بوتين خطاباً تلفزيونياً في ٢١ فبراير ٢٠٢٢ وجه فيه رسالةً إلى الشعب الروسي مبيناً أسباب الحرب وضرورتها وتبريراتها، وهذا الخطاب مهم، لأنه يكشف بوضوح الإطار الأيديولوجي الذي ينطلق منه بوتين في نظرته لأوكرانيا والعالم كله، وفيه قدّم جملة من الأسباب يمكن تقسيمها لقسمين: أسباب هجومية متعلقة بنظرته لأوكرانيا التاريخية ونظامها السياسي، وأسباب دفاعية متعلقة بأمن روسيا القومي.
أعلن بوتين في خطابه خصومته للإرث السوفيتي بشكل واضح، حيث افتتحه متناولاً التاريخ السوفيتي وفق قراءة نقدية صريحة، وانتقد مؤسس الاتحاد السوفيتي ورمزه الأكبر فلاديمير لينين وطريقته في التعاطي مع المسألة القومية عموماً وأوكرانيا خصوصاً بصراحة دون “تحفظات أو إيحاءاتٍ سياسية” فذكر بأن المشكلة بدأت حين ” عمل لينين وأصدقاؤه بشكلٍ فجّ ضد مصالح روسيا” مشيراً إلى ” أن أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا، حتى من قبل روسيا البلشفية الشيوعية” إن في هذه النظرة قراءة مغرقة في الجوهرية، فهو يرى أن الجوهر هو روسيا القيصرية وما قبلها وبعدها كالاتحاد السوفيتي لا يتعدى كونه طارئاً شوّه الحقيقة، التي بحسب قوله ضاعت ” من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخية وتمزيقها إرباً.”
يكمل بوتين واصفاً الكارثة الثانية التي حدثت عند قيام جوزيف ستالين بـ “نقل ملكية بعض الأراضي التي كانت في السابق تابعة لبولندا ورومانيا والمجر إلى أوكرانيا.” مستذكراً خطأ لينين التاريخي في منح الشعوب حق تقرير المصير ثم يطرح تساؤلاً “لماذا كان من الضروري إشباع الطموحات المتزايدة للقوميين؟” ثم يضيف ” لماذا أُعطيت جمهوريات الاتحاد والوحدات الإدارية التي أعيد تأسيسها والتي غالباً ما أُنشئت بشكل تعسفي تلك المناطق الشاسعة من روسيا التاريخية؟”. نرى من هذه الفقرة القصيرة كيف يتحامل على هذا الإرث الذي قسّم أراضي “روسيا التاريخية” معلناً بذلك موقفه السلبي منه.
حين يستذكر رئيس روسيا الماضي التاريخي لبلده يغيّب -بوعيٍ أو دونه- حقيقة أن كل هذا حدث في عالم ما قبل القوميات، عالم الأنظمة الإمبراطورية والسلالات الحاكمة وليس عالم القوميات الحديثة “وأصبح يتصور روسيا القيصرية كأنها دولة مركزية قومية.” . فالإمبراطورية الروسية والمجرية والعثمانية كانت تحوي داخلها قوميات متعددة، منها القومية الأوكرانية التي أعلنت ولادتها في ٢٩ أبريل ١٩١٨ قبل أن يقضي على كيانهم الحديث البلاشفةُ الذين كانوا أول خصوم نشأة هذه الدولة وأعلنوا فيما بعد تقسيمها وضمها في الاتحاد السوفيتي، وبوتين لا يرى حقَّ هذه القوميات المتساوي بإعلان دولها وتقرير مصيرها بل يريد إعلاء قومية على البقية، فلم يكفه سحق الدولة الأوكرانية على يد البلاشفة بل رام أبعد من ذلك وهو ما حاول تحقيقه بنفسه في هذه الحرب العدوانية. إن هذا تعبير صارخ لنظرة فاشية لا ترى حق الشعوب الأخرى في إعلان الاستقلال وتقرير المصير وهو ما أثبته مرارا في حروبه الستة منذ توليه الحكم. “. فقد اعتبر أن جلّ ما يقوم به هو ممارسة حق روسيا التاريخي باستعادة أراضيها مستنداً إلى العصر الامبراطوري “حان الوقت لاستعادة أراضينا مجدداً”.
أسباب الحرب حسب بوتين:
لنبدأ بالأسباب الهجومية للحرب، وأولها ينطلق من فكرة وجود دولة أوكرانيا ذاتها معتبراً إياه مستحدثا: ” أن أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا ” متجاهلاً تاريخ النضال الأوكراني من أجل حق تقرير المصير الذي سُحق خلال تعاقب فترتي الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفيتي ١٧٠٩ – ١٩٩١. ثم يُنَصّبُ بوتين نفسه قيصراً تقع على عاتقه مسؤولية “حماية السكان الذين تعرضوا للتنمر والإبادة الجماعية من نظام كييف”. وقد حدد هدفاً رئيساً لهذه الحرب وهو “نزع السلاح الأوكراني” وأنه لا يحق لأوكرانيا امتلاك أسلحة ما دامت مجاورة لروسيا وترفض الانصياع لها، ثم اختتم أسبابه الهجومية بتوسل ميثاق الأمم المتحدة حين قال: “تعتمد سياساتنا على الحرية وحرية الاختيار لكل فرد ليقرر بشكل مستقل مستقبله ومستقبل أطفاله.” ونعرف ما هو معنى الحرية بالنسبة لبوتين، وهي حرية إبادة المجتمعات وقسرها وتعنيفها دون تدخل من الغرب ومنظمات حقوق الإنسان والصحافة العالمية، ونزع السلاح من خلال العنف عن الدول المحيطة.
بعد أن بيّن أسبابه الهجومية قدم أسبابه الدفاعية للحرب مرتكزاً على أن الأمن القومي الروسي أولوية لا تقبل الجدال، فقد أكد على أن “المسائل الرئيسة هي المتعلقة بضمان أمن روسيا نفسها” أي أنه يرى أن ما يحدث وسيحدث من خلال هذه العملية العسكرية لا يتعدى كونه أمراً داخل دائرة الأمن القومي.
على هذا فإننا نستطيع القول إنه يرى العالم من منطلق قومي تكون الدولة القومية الوحدة الأساسية فيه، وأن الأمن القومي محدد رئيس من محددات الحرب والسلام، وأكّد هذه البنية الأمنية في الفقرة اللاحقة من الخطاب “حول تلك التهديدات الأساسية” قاصدا بذلك “توسع كتلة الناتو شرقاً، وتقريب بنيتها التحتية العسكرية من الحدود الروسية” مما ينفي وجود أي غاية أخلاقية وراء الحرب.
الحركة التقدمية: الواقعية والنقيض الماركسي في النظرية الدولية
قدم التيار التقدمي محاجته حول الأسباب التي دفعتهم إلى التضامن مع روسيا في عدوانها على أوكرانيا، ومع تبني التيار للنظرية الماركسية في قراءته للواقع الإنساني إلا أنني سأوضح كيف وقعت الحركة في تناقض مع النموذج الماركسي النظري وأسباب ذلك. هذا النقد محاولة للنظر في الموقف الشيوعي المتضامن مع حروب بوتين الاستعمارية، فإذا كان الفكر الشيوعي الذي يقدم نفسه متجاوزاً للقومية، فلماذا إذاً تقف الحركات الشيوعية العربية والكويتية خاصةً موقفاً متضامناً معها؟
يجادل التيار التقدمي في بيانه أن النظرية الواقعية في العلاقات الدولية هي النظرية السليمة لرؤية الواقع السياسي؛ فيقول: “الحروب لا تخضع لقاعدة جامدة من حيث الأسباب والدوافع والأبعاد والتداعيات، وهي مسائل لا يحددها في الجوهر ما يسمى (مبادئ القانون الدولي) ونصوصه الجامدة، وإنما يحددها الواقع وصراعاته وتناقضاته من حيث الطبيعة الطبقية للأنظمة السياسية المشاركة في الحروب وتوجهاتها وتحالفاتها وأهدافها” وقد برر التيار الحرب كونها نتيجة لمخاوف أمنية وجيوسياسية تثيرها “استفزازات إمبريالية غربية موجهة ضد روسيا قامت بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو استهدفت تهديد أمن روسيا واستنزافها وإضعافها” إن هذه القراءة النظرية تستمد أساسها من النظرية الواقعية البنيوية.
تدعي النظرية الواقعية البنيوية أنه ” في نظام يفتقر إلى وجود سلطة عليا تشرف على الدول العظمى” فمن المبرر أن تسعى الدولة نحو تحقيق الهيمنة عن طريق القوة. وذلك بحكم المنظومة الفوضوية التي تعزز سباق التنافس والهيمنة. يبرر هذا التفسير العدوان من الدول الأكبر على الدول الأصغر. فالهيمنة هي الغاية وتحقيقها واجب بحكم النظام، بيد أن ذلك يلغي حق الدول الأصغر في تكوين علاقتها الخارجية وتمسكها بحق السيادة، ففي منظور الواقعية السياسية فالعلاقات الدولية بمنظومتها القائمة هي عالم يتكون من غالب ومغلوب.
وحسب ما تتبناه الحركة التقدمية من نظرة ماركسية شيوعية للعالم فإن النظرية الماركسية تأتي على العكس تماماً من النظرية الواقعية البنيوية، فالدولة بالنسبة للقراءة الماركسية ليست بريئة من الواقع السياسي، بل هي أحد منتجيه. في المقاربة الماركسية الجديدة نرى أن الحرب هي إحدى تمظهرات الصراع الطبقي داخل الدولة وينعكس هذا الصراع بحسب هانز لاتشر على الواقع الدولي “فبينما تقف الدولة محلياً منفصلة عن المنافسة بين رؤوس الأموال الفردية، وتسعى إلى تنظيم الاقتصاد من خلال أشكال الحوكمة العالمة مثل حكم القانون والمال، فإن الدولة في المجال الدولي هي منافسة، أو بإمكانها أن تكون منافسة، وتسعى إلى تعزيز فوائد رأسمالها من خلال وسائل سياسية واقتصادية”. إذاً ففهم الحرب على أنها تمظهر للصراع الطبقي كما تقول الماركسية بدلاً عن فهمها نتيجة للإخلال بمبدأ توازن القوى كما تقول الواقعية البنيوية يحتم على القوى الماركسية الاصطفاف ضد الحروب الدولية التي تخدم مصالح الطبقات الحاكمة، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة روسيا وأوكرانيا حيث الحكم الأوليغارشي أحد أهم أسباب تدهور النظام السياسي الداخلي وانعكاساته الخارجية.
في الفقرة الثانية من البيان حاولت الحركة توضيح موقعها من خلال رفض الاصطفاف الثنائي “لسنا هنا في موقف الدفاع عن روسيا” مطالبة الأخذ بالاعتبار الاصطفافات الدولية عاملاً أساسياً لتحديد الموقف من هذه الحرب بدلاً عن الالتزام بالتحليل الطبقي والاجتماعي لها، وهذا أمر يعد انقلاباً على النظرية الماركسية، التي تتبنى تحليلها من الأسفل إلى الأعلى، أيّ عبر تفسير فعل الدولة من خلال النظر في الواقع الاجتماعي-الاقتصادي لها دون النظر في التحالفات الدولية وعلاقتها بل عبر النظر في الواقع الطبقي. فقد انتقد روبرت كوكس المتأثر بالنظرية النقدية أسلوب التحليل التي تقدمه النظرية الواقعية البنيوية “إذا أعدنا صوغ أفكار كارل ماركس، ففي إمكاننا أن نصف النظرية الواقعية الجديدة بأنها وثنية القوة” ورفض كوكس التعاطي مع الدولة بشكل مسلمٍ به، بل دعا إلى النظر “في العلاقات الاجتماعية التي يتم من خلالها إنتاج هذه القوة”. فيما قدم ريتشارد آشلي نقداً قوياً للواقعية البنيوية متهماً إيّاها بتجريد الطابع السياسي للعلاقات الدولية باختزاله في منطق اقتصادي حيث “تتعاطى مع العالم الذي يواجهها بوصفه إحدى المسلمات، ولا تبحث إلا فيما يتعلق بـ “بالإنجاز الكفؤ لأي أهداف مطروحة أمام الفاعل السياسي”.
وحذرت الحركة التقدمية في بيانها من الوقوع فيما أسمته “المخططات الإمبريالية والصورة التي رسمتها الدعايات الإعلامية الغربية” التي تدعونا لاتخاذ موقف ثنائي بين روسيا والغرب. داعيةً إلى النظر في الحرب مع الاخذ في الاعتبار ” جميع العوامل والتناقضات..” ولكنها سرعان ما تتخلى عن هذا الحياد وتعود لإعادة الأسطوانة الروسية تجاه الغرب وتحذرنا من “الصورة التي رسمتها الدعايات الإعلامية الغربية..”. نلاحظ هنا أن الحركة تحذرنا من الاصطفاف مع أحد الأطراف، ولكنها تدعونا الى مخاصمة الغرب الذي يريد ضم أوكرانيا ويهدد الأمن الروسي. في المحصلة نجد أن هذه الطريقة المرتبكة بين محاولة الادعاء أنها ليست مع روسيا، ولكنها في نفس الوقت ضد الغرب مخلة. لأنها أولا تلغي حق أوكرانيا نفسها، بل تستنقص من أهلية الشعب الأوكراني ونخبته السياسية عندما تصوّر الرغبة الأوكرانية في الانضمام إلى حلف الناتو بأنها خيار غربي “قامت به الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وحلف الناتو” فيصبح التقارب مع الغرب خديعة غربية أما التقارب مع الروس فهو حق مشروع واختيار عقلاني.
أكدت الحركة في الفقرة الرابعة عدم أهمية النظام السياسي في الصراع بين دولتين رافضة ” تصوير الأمر على أنه عدوان قامت به دولة ديكتاتورية ضد دولة ديمقراطية مسالمة.” وهكذا تصبح أسس النظرية الواقعية البنيوية مكتملة الأركان في تحليل الحركة للواقع السياسي، فالواقعية البنيوية تؤسس نظريتها على أساس رفض الفروق الثقافية والاختلافات في أنواع أنظمة الحكم سواء أكانت ديمقراطية أم أوتوقراطية استبدادية وكذلك النخب الحاكمة والشخصيات الفاعلة ومبدأ القوة هو التمييز الوحيد الذي تقييمه بين الدول. وبعد النظر في أسس التفكير السياسي للحركة من خلال بيانها، نجد أنها تمتثل لأطروحة المدرسة الواقعية الجديدة بشكل كامل ولا يتبقى من ارتباطها بالفكر الماركسي سوى الشعارات والعبارات الخاوية.
إن النظر للمواقف السياسية باعتبارها مشينة عندما ترتبط بالغرب وصحيحة عندما ترتبط بغيره يقودنا إلى مواقف متناقضة مع مبادئ العدالة والمساواة والحرية. فلو طبقنا هذه الطريقة التحليلية على أمثلة بسيطة من تاريخنا العربي المعاصر كالغزو العراقي للكويت لاتخذنا موقفا دفاعياً عن الغزو الغاشم. إن هذه المقدمة المنطقية تعمل بشكل بسيط وهي معاكسة لمقولة عدو عدوّى صديقي، بل على العكس ففيها يكون صديق عدوّي هو عدوّي. وهذا يفسر الانحياز الدوغمائي لكل الأنظمة مهما تنوعت وتسلطت وأفسدت طالما أنها معادية للولايات المتحدة الامريكية. وإذا استمرينا على هذا المنطق فسيقودنا إلى الانحياز للنظام البعثي في حربه على الكويت ، فأمريكا – العدو – هي من قادت مهمة استرجاع الكويت وطرد المحتل، وهذا ما توصلت إليه كثير من قوى اليسار العربي في حرب الخليج الثانية، وقد توافق كثير من الإسلاميين واليساريين على موقف مؤيدٍ للغزو العراقي على الكويت من ذات المنطلقات. فقد عبر الإخوان المسلمين في الأردن عن هذا بشكل واضح “قدمٌ عراقية في أرض الكويت خير من قدمٍ أمريكية” وهو ما عبرت عنه زعامات القوى اليسارية كجورج حبش حين “أعلن تأييده غزو الكويت، بل حتى ضمها إلى العراق” .
تكمن أزمة اليسار العربي في إلغاء قضايا الشعوب بسبب قراءتها القاصرة للقضايا العالمية بشكلها الدولي لا الطبقي والاجتماعي والأخلاقي. إن هذه المواقف تتكرر كلما صارت الولايات المتحدة الامريكية طرفا في صراع. فقد وقفت الحركات اليسارية موقفاً معادياً للثورة السورية على الرغم من التزامهم النظري بمسائل الحرية والعدالة والمساواة إلا أنهم ناصروا النظام الأسدي بذات الطريقة البسيطة على حساب الجماهير المقهورة. فبالنسبة لهم يكمن الموقف بالتناقض مع الولايات المتحدة الامريكية، وبما أنها اتخذت موقفاً ضد النظام السوري فإن الوقوف مع نظام الأسد والاحتلال الإيراني-الروسي لا بأس به، ويكون هذا مجرد أعراض جانبية وتضحية واجبة لتحرير فلسطين وإسقاط الغرب. فالاستعمار لا ينطبق سوى على القوى الغربية وقد عبر عن ذلك صراحة رأس المقاومة السيد حسن نصر الله الذي بذل كل ما يملك للدفاع عن النظام السوري، وكذلك عبر عنها الكاتب الأكاديمي جوزيف مسعد في مقالة طويلة يحث فيها على الاختيار بين عدوين لا يمكن الجمع بينهما لأسباب لا نفهمها.
إن مصدر هذا الموقف المتناقض الذي تجد الحركة التقدمية نفسها فيه هو قراءة العالم والسياسات الدولية من خلال معاداة الولايات المتحدة الأمريكية وليس من خلال استنباط تحليلات ومواقف من النظرية الشيوعية الغنية. إن الموقف من الإمبريالية مضلل عندما تحصره بالغرب والولايات المتحدة الأمريكية فقط. الإمبريالية هي التعدي على سيادة الدول وطمس حق الشعوب بتقرير مصيرها وإرهابهم بالقوة والقسر، وبهذا التعريف للإمبريالية فروسيا في موقفها العدواني على أوكرانيا وموقفها المعادي للشعب السوري هو نموذج للسياسات الإمبريالية التي تعلي مصالحها القومية على مصالح القوميات الأخرى. إن من السهل جداً اتخاذ موقف واضح وصريح أمام كل أنواع السياسات الإمبريالية روسية كانت أو أمريكية، فالمعادي للإمبريالية ومنطق الاحتلالات يقف معارضاً لاحتلال أفغانستان في الحالتين السوفيتية والامريكية، ويرفض الغزو الأمريكي للعراق والغزو العراقي للكويت. ناهيك عن موقف أكثر قرباً زمانياً ومكانياً كالعدوان الإيراني-الروسي على الثورة السورية، وأخيرا العدوان الروسي على أوكرانيا. وقد اتخذ مفكرون وسياسيون شيوعيون كثر مواقف متوازنة كسلافوي جيجك الذي انتقد وبشدة الموقفين الروسي والأمريكي. إن بناء قراءات تحليلية ونقدية على طريق المعاداة الأبدية كمثال الحركة التقدمية ونظرتها المعادية للولايات المتحدة الأمريكية قد يضعنا في سلة واحدة مع مجرمين كبوتين وبشار الأسد.
خاتمة
في هذه المقالة حاولت توضيح إشكال أساسي في خطاب بوتين وهو أنه يتخيل روسيا ممتدة منذ الأمد وإلى الأبد. وأن ما قد طرأ عليها كالاتحاد السوفيتي ليس سوى عارض، وأن الماضي والحاضر والمستقبل كلها تؤكد على حقيقة روسيا الواضحة، لذا فإن نشأة أوكرانيا ومحاولة الأوكرانيين -مثل غيرهم- بناء دولة وتقرير مصيرهم فيها ليس سوى خطيئة قام بها الشيوعيون سابقاً أو خديعة من “إمبراطورية الأكاذيب” الغربية وعليه تقع مهمة تصحيح التاريخ ليعود إلى مساره الطبيعي أو دحض الكذبة، وكلاهما بالقوة والعنف. من جهة أخرى بينت مأزق اليسار حين اختار معاداة الولايات المتحدة الامريكية بوصلةً للتحليل السياسي، وكيف أدى هذا دوراً في تدمير اليسار وانزلاقه نحو تبرير الوحشية ومناهضة تطلعات الشعوب للتحرر وتقرير المصير.
إن الوجود متعدد ومتناقض ومع حاجتنا الماسة للمبادئ والمقاييس لفهم الواقع وتحديد موقفنا من هذا العالم الدنيوي إلا أن الميدان السياسي يحتاج إلى درجة أكثر من التفحص والنقد والمراجعة، فقد يظهر لنا موقفٌ ما واضحاً ومتسقاً ظاهرياً إلا أننا بتفحصه قد نجده متناقضاً بل مخالفاً لما أردنا السعي إلى تحقيقه، واتضح لنا أن الالتزام بالعداء لطرف ما في كل حال قد يعمي بصرنا عن إدراك حقائق جمة، بل قد يضعنا في سلة واحدة مع المجرمين والمستبدين. إن الأيديولوجيا خطر في الفكر السياسي ولا حل لنا سوى بالانفتاح والنقاش ومتابعة النقد للتخلص من شرها أو رد بعضها.