الاستثناء العُماني في الحرب على الإرهاب

علوي المشهور

كاتب المقالة

علوي المشهور

كاتب من سلطنة عمان.

خلفت الحرب العالمية التي أعلنتها الولايات المتحدة الأمريكية على الإرهاب حالة من الفوضى وانتشار العنف وغياب الدولة في معظم دول المنطقة، فمن احتلال أفغانستان والعراق، مروراً بالحروب الأهلية في سوريا وليبيا واليمن، وهجمات الحركات المسلحة في بقية المنطقة بما في ذلك أكبر دولها مثل السعودية وتركيا ومصر وإيران. لم تسلم أي دولة في الشرق الأوسط من هذه الآثار غير عمان وقطر والإمارات. هذه الدول الثلاث اشتركت في خلوها من العمليات الإرهابية لسنين طويلة حسب مؤشر Global Terrorism Index وعُرِفت باستقرارها الداخلي، إلا أنها اختلفت في التوجهات والمعالجات التي تبنتها حيال هذا الملف الشائك. بطبيعة الحال كان التعامل مع حركات الإسلام السياسي جزءاً من تعقيد هذه العملية، والموقف منها كان يتفاوت بين محاولة الاحتواء والتوظيف السياسي لها، أو العداء التام معها والتوسع في قوائم الإرهاب واستغلال الحدث للقضاء على الخصوم السياسيين في الداخل والخارج.

النماذج السائدة في التعامل مع حركات الإسلام السياسي في المنطقة

قطر مثلاً تبنت سياسة خارجية أكثر تصالحاً مع جماعات الإسلام السياسي، وخصوصا الإخوان المسلمين لتتداخل مصالح الطرفين وتتلاقى المشاريع والتصورات لتصل لذروتها مع ثورات الربيع العربي، وهي على تواصل مع بعض الحركات الجهادية مثل طالبان التي تستضيف مجموعة من قادة حركتها في العاصمة القطرية منذ 2010 لتفتح مكتباً سياسياً رسمياً في 2013، وقد تبنت الدوحة سياسة خارجية داعمة للثورات، والتي أنتجت قيادات إسلامية في مصر وتونس والمغرب، وكان لهم حضورًا واضحًا في اليمن وليبيا. لم تخفِ قطر مواقفها، فقد كانت علنية وعلى منبرها الإعلامي الأبرز -الجزيرة- في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة دفعتها في نهاية المطاف لصدام حتمي مع القوى التقليدية في العالم العربي، وفي مقدمتها السعودية ومصر والإمارات. ليتصاعد كل هذا لحصار وقطيعة دبلوماسية كانت لها تكلفة اقتصادية كبيرة تصل لأكثر من 43 مليار دولار، هذا بدون احتساب التكاليف غير المباشرة.

على الجانب الآخر، اتجهت الإمارات لتبني سياسات مناقضة تماما؛ لتصنف الإخوان المسلمين جماعة إرهابية في 2014 وتتخذ موقفا صارما من حركات الإسلام السياسي في الداخل والخارج. كانت قطر والإمارات كفرسي رهان، يحملان رؤى ومشاريع تتنافس على تشكيل المنطقة وتحديد مصيرها بعد لحظة التزعزع الكبرى المصاحبة لثورات الربيع العربي، ويمكن القول إن الإمارات إلى جانب السعودية يمثلان Status quo states بمعنى أنها تريد الإبقاء على توازنات القوى على حالها، وتخشى من النتائج المترتبة عن حالة التزعزع التي أصابت المنطقة. لذلك اتخذت الإمارات سياسات حاسمة في دعم ما يمكن تسميته بالثورات المضادة في مصر وليبيا وتونس، وانخرطت مباشرة في حرب اليمن ضد جماعة الحوثي، وزاد إنفاقها العسكري بشكل مطرد لتصبح سابع أكبر مشترٍ للسلاح في العالم في الفترة الممتدة بين 2014 – 2018 وليصل إجمالي إنفاقها العسكري هذه السنة إلى 25.2 مليار دولار. إضافة لذلك تعرضت الإمارات لتهديدات وغارات جوية من قبل جماعة أنصار الله اليمنية، واستهدفت مواقع مهمة مما قد يؤثر على صورتها العالمية وجهة آمنة للاستثمارات الخارجية ومركز اقتصادي للمنطقة.

هنا يتبين أن النموذجين يشتركان في عنصر الفاعلية السياسية والتدخلات الخارجية والتطلع للعب دور إقليمي بارز يتجاوز حجمهما الجغرافي والسكاني وتاريخهما السياسي، لكنهما يختلفان في تعريف الإرهاب والموقف من التغيير والثورات، وطريقة التعامل مع جماعات الإسلام السياسي. قطر اتجهت للتقارب معها محاولة توظيفها سياسيا للعب دور إقليمي مهم عن طريقها، والإمارات اعتبرتها خطراً ومهدداً لها؛ ولذلك تبنت الثورات المضادة، وكانت في عداء مع الإخوان المسلمين، وتوسعت في تعريفها للإرهاب ليشمل 84 تنظيماً وجماعة. بعد كل هذا حقق الطرفان مكاسب متفاوتة من حيث الصعود قوى إقليمية واعدة، ولكنهم تحملوا تكاليف كبيرة لهذه التدخلات الخارجية. هذه النماذج في الواقع ليست حديثة، فقد كانت الدول العربية منذ مرحلة الاستقلال تتبنى إما التقارب مع الجماعات الإسلامية ومحاولة توظيفها مثلما حصل تاريخيا مع السعودية وباكستان في نشأتهم وخطابهم السياسي ودعمهم للمجاهدين في أفغانستان، أو الدخول في عداء معها وتبني نموذج مغاير تماما لها مثل أتاتورك في تركيا وبورقيبة في تونس. والمشترك هنا أنها نماذج حدّية ليس فيها خيار وسط، تتصف بالعنف في الحالين، وتفرض الدولة فيهما تصورا واحدا على الجميع بدون ترك مساحة آمنة تحترم خيارات المواطنين وقناعاتهم.

تبرز سلطنة عمان وسط هذه المنطقة المشتعلة بالإرهاب والحروب الأهلية والتدخلات الخارجية نموذجاً بديلاً في التعامل مع حركات الإسلام السياسي، وهذا ما يثير الأسئلة حول أسباب قدرة هذا البلد على البقاء خاليا من العمليات الإرهابية وبعيدا عن الصراعات، علماً بأن عمان ليست بمنأى عن الأفكار المتطرفة أو الحركات السياسية التي تؤمن بالعنف وسيلة لإحداث التغيير. إذاً كيف استطاعت الخروج من العشر سنوات الأولى من الحرب العالمية على الإرهاب (٢٠٠١-٢٠١١) دون أن يتم استهدافها؟ أطرح في هذا المقال تصوراً مختلفا للتعاطي مع الإرهاب، وأجادل بأن الحرب على الإرهاب أدت لنتائج عكسية وهي تزايد الهجمات والتفجيرات، وشعور العامة بأن الإسلام مهدد؛ وهو ما أكسب هذه الجماعات شعبية أكبر، وجعل نسبة من الشعوب تتعاطف معها، وأعرض هنا نموذجاً مغايراً للتعامل مع جماعات الإسلام السياسي ومكافحة الإرهاب بدون حرب عسكرية مباشرة، من خلال تحليل التجربة العُمانية، والتي ركزت على عدم استعداء الجماعات المتطرفة على المستوى الدولي، وفي الوقت نفسه تبنت سياسات محايدة في العلاقات الخارجية. ومحلياً لم تكتفِ بالرقابة والمعالجات الأمنية، وإنما عملت على منهجية بنائية “Constructivist Approach” في النظر للإرهاب واستئصاله من جذوره الفكرية والاجتماعية. تحاول هذه المقالة كذلك استرجاع تجارب بعض الحركات الإسلامية بمختلف مذاهبها (الإباضية والسنية والشيعية) وتحليل المنهجية التي تعاطت بها الحكومة العمانية معها، وكيف تمكنت من إضعافها وتفكيكها، ومن ثم إصلاح العلاقة مع البيئات الحاضنة لها اجتماعيا وثقافيا بحيث لا تصبح نقطة انطلاق لأي عمل سياسي -سلمي أو عسكري- ضد السلطة مستقبلا.

من نهاية ثورة ظفار وحتى أحداث الحادي عشر من سبتمبر (1975-2001)

تبدو عمان وكأنها دولة بلا تحديات سياسية أو جماعات مناوئة للحكومة تنازعها في سلطتها، بينما واقعياً شهدت السلطنة صراعات كبرى قد تكون الأكثر حِدةً مقارنة بشقيقاتها في الخليج؛ فهنالك ثورات وحركات تمرد مسلحة في منتصف القرن الماضي سواءً في شمال عمان “ثورة الجبل الأخضر 1954-1959” أو في جنوبها “ثورة ظفار 1965-1975″، وتصورات سياسية دينية لا تقبل بشرعية النظام السياسي إلى اليوم، وجماعات إسلامية مختلفة سعت لأن تغير شكل المعادلة بتنظيمات سرية كانت مؤثرة إلى أن تعرضت لحملات اعتقالات استباقية مثل الحركة الشيرازية الشيعية في 1987، وتنظيم الإخوان المسلمين في 1994، ومع هذا ظلت عمان ظاهرياً مستقرة بالنسبة لمن يراها من الخارج، بل إن العمانيين أنفسهم قد لا يعرف معظمهم حجم التدافع والصراع السياسي والديني القديم/المتجدد مع النظام. قد يكون أحد أسباب الاستقرار أن الحكومة كانت حذرة في تعاملها مع جماعات الإسلام السياسي، فهي تحاول وضع مسافة أمان فلا هي تريد معاداتها ولا توظيفها سياسيا. إضافة لذلك فسياساتها لم تتغير كثيراً مقارنة ببقية دول المنطقة، فقد ظلت تحافظ على حيادها خارجيا، ونموذجها الداخلي الذي يميل إلى التوفيق بين الحداثة والبُنى التقليدية للمجتمع والدولة بتدرج.

عندما نعود لتحليل صعود الهجمات الإرهابية -ذات الطابع المؤمن باستخدام العنف لتغيير الواقع- فسنجد أنها تزايدت في المنطقة بعد عودة من وصفوا بـ”المجاهدين العرب” من أفغانستان، وذلك تزامنا مع تزايد الوجود الأمريكي العسكري في المنطقة بعد الغزو العراقي للكويت. إبان الحرب الباردة ضغطت أمريكا على حلفائها في العالم الإسلامي وخصوصا السعودية ومصر وباكستان لإصدار فتاوى تحرض على الجهاد ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان، لتتجاوب معها هيئة كبار العلماء في السعودية والأزهر الشريف ورابطة العالم الإسلامي ومجموعة من أهم الشخصيات الدينية في العالم العربي، ولتحصل على دعم مادي ولوجستي وعسكري من معظم الدول الإسلامية، وكل ذلك برعاية أمريكية وغربية علنية. وكانت الهدف إدخال الاتحاد السوفيتي في حرب استنزاف مع مجاهدين عقائديين مستعدين للتضحية من أجل المبدأ.

في هذه الأثناء كانت سلطنة عُمان حذرة جدا في التعامل مع هذا الملف، فهي تدرك خطورة الحركات الدينية المسلحة وأنها قد تخرج عن السيطرة بسهولة؛ لذلك تجنبت إصدار فتاوى تحث على الجهاد في أفغانستان، ولم تدعم أو تُيَسِر الطريق لمن أراد المشاركة من العمانيين، بل كانت تراقبهم وتتبع تحركاتهم. على الجانب الآخر؛ انتقدت الخارجية العمانية بشدة الغزو السوفيتي لأفغانستان في كانون الأول 1979، ودعت لانسحابها من الأراضي الأفغانية أمام الأمم المتحدة، ومع كثرة الخلافات بين عمان والاتحاد السوفييتي الذي كان داعما لثورة ظفار إلا أن الحكومة أقامت علاقات دبلوماسية رسمية مع الاتحاد السوفيتي في أوج فترة الحرب بين السوفييت والأفغان 1985، ليكتمل ذلك بتبادل السفراء مع نهاية 1986 وهو ما يعبر عن التوجه الواقعي والبراغماتي في السياسة الخارجية العمانية. 

لفهم هذا السلوك السياسي لا بد من العودة للمنهجية التي تبناها السلطان قابوس ومستشاريه البريطانيين في مواجهة ثورة ظفار بعد تحولها للماركسية اللينينية الماوية -في مؤتمرها الثاني الذي عقدته في حمرين سبتمبر 1968 قبل تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم – لم يتجه السلطان قابوس عند وصوله للسلطة لإنشاء ميليشيات عقائدية ضدها -مع استخدامه لبروبوغاندا تصورهم ملاحدة وبأن الحكومة هي يد الله التي تحارب الشيوعية- وإنما أسس قوات قبلية مناطقية محافظة وتقليدية وليست ذات حُمولة عقائدية. عُرفت هذه الكتائب بقوات الفرق الوطنية وهي مُشَكَلَةٌ من أبناء المنطقة وخصوصا في الجبال التي كان يحتمي بها الثوار، وكان لبعضها تسميات مرتبطة برموز وشخصيات عسكرية من التاريخ الإسلامي مثل فرقة صلاح الدين وفرقة خالد ابن الوليد ولكنها اتصفت بالطابع المحافظ والقبلي التقليدي في مواجهة الشيوعية والأفكار التي تحملها، وهي عادةً تتكون من أبناء قبيلة واحدة أو مجموعة قبائل في منطقة محددة، وبهذا تكون الأبعاد القبلية والمناطقية أكثر أهمية في تشكيل القوات -وليس العقيدة الدينية- وكأنها حاضنة بديلة للانتماء بعيدا عن الأفكار اليسارية والقومية والشيوعية. هنا رهان الحكومة كان على الثقافة المحافظة القبلية والتقليدية وليس التنظيمات العقائدية الراديكالية، فالمكونات القبلية يمكن السيطرة عليها بإرضاء واحتواء شيوخ القبائل والوجهاء والأعيان وتوفير بعض المنافع والمصالح الاقتصادية لرعاياهم، بينما الجماعات العقائدية والدينية أكثر ارتباطا بالتصورات لا الأشخاص، وهي ذات طابع لا يقبل التسويات السياسية، ولذلك هي خارج السيطرة. 

بناء على هذا يمكن فهم موقف السلطنة الحذر منذ بداية حركات الجهاد المسلحة ضد السوفييت، فهي تدرك أن هؤلاء المجاهدين بعد عودتهم سيكتسبون الخبرة التنظيمية في العمل العسكري ولن يكونوا على وفاق مع أنظمة الحكم مما سيدفعهم للعمل الجهادي المسلح في أوطانهم مثلما حصل في السعودية ومصر وباكستان وغيرها من الدول التي دعمت وشاركت بقوة في تشجيع هذه الجماعات لتخرج بعد ذلك عن سيطرتها وتنقلب عليها وتستهدف الدول التي كانت تدعمها.

سلطنة عمان وعشرية الحرب على الإرهاب (٢٠٠١-٢٠١١)

كانت عمان أكثر اتساقا مع سياساتها السابقة ولم تحصل تحولات كبرى في السياسات الخارجية أو الداخلية، بخلاف كثير من الدول التي تحولت مواقفها وسياساتها بعد أحداث 11 سبتمبر. صحيح أن هنالك تجاوباً مع بعض الضغوطات الأمريكية مثل تغيير مادة التربية الإسلامية إلى مادة الثقافة الإسلامية -رُجع عنه بعد 2011-، أو تغيير مسمى وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية إلى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، إلا أن ذلك حصل قبل أحداث 2001 بأربع سنوات في 1997، مما يعبر عن كون السياسة متسقة مع توجه الدولة المتدرج نحو الانفتاح أكثر من كونها ردة فعل للضغوطات. 

قد يكون الحدث الأبرز ما أعلنته الحكومة عن ضبط أسلحة لدى معتقلي 2005 المرتبطين بتنظيم الإمامة الإباضي، إلا أنه لم ينتج أي عمل إرهابي على أرض الواقع من هذه الجماعة. وكان الحكم الصادر من المحكمة على 30 متهما من أصل 31 “بالتحضير لقلب نظام الحكم القائم في البلاد بقوة السلاح بقصد إقامة حكم الإمامة بدلا منه”. ويشكك كثير من المنتسبين للحركة بالتهم والأحكام ويعتبرونها مبالغة فلا نية لتبديل نظام الحكم وإنما إصلاحه وجعله أكثر تماهياً مع الشريعة الإسلامية -حسب رأي كثير منهم-. بشكل عام ينتشر السلاح بين العمانيين ويُنظر له بتقبل في الأوساط الاجتماعية ويُلبس في الاحتفالات والمناسبات، ولذلك ضبط أسلحة لا يعني بالضرورة وجود نية القيام بأعمال إرهابية ضد السلطة، ولو كانت النية متوفرة لما كان لشيء أن يمنعها؛ فالأسلحة متداولة بين العمانيين على نطاق واسع. ومما يثبت هذا التفسير اللقاء الصحفي الذي أجرته صحيفة الوطن القطرية في 2005 مع الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية -سابقا- يوسف بن علوي حيث صرح أن “القضية لا علاقة لها بالسياسة والإرهاب، والتنظيم السري لا يهدف إلى الإطاحة بنظام الحكم، وأن المعتقلين حلوا تنظيمهم قبل الاعتقالات بفترة”. وأكد بأنه” لولا السرية فإن ما قاموا به ليس فيه مخالفة للقانون، وأن وجهة نظرهم دينية وليست سياسية” 

الحكومة العُمانية -مقارنة بكثير من دول المنطقة- ظلت تحاول تجنب استخدام العنف كي لا تكون هنالك ثارات تسقي الصراع بالدماء وتجعل عمره أطول، لذلك حتى في حالات الاعتقال والمحاكمات، كانت السلطة تلجأ للعفو وتخفيف الأحكام -التي تكون طويلة أو مؤبدة في البداية- والإفراج المبكر عن السجناء مثلما حصل مع التنظيم الإباضي 2005 وجماعة الإخوان المسلمين في منتصف التسعينيات؛ إذ تراوحت الأحكام بين الإعدام للعسكريين منهم، والمؤبد والسجن للمدنيين من 3 إلى 20 سنة ليحصلوا على العفو بعد قضاء مدة قصيرة من العقوبة، وهذا خلق ردة فعل إيجابية تجاه السلطة ورضىً شعبياً يشمل البيئات الاجتماعية والفكرية الحاضنة للمعارضين، مما أضعف الخصوم، وفي الوقت نفسه قرّب الحكومة من المجتمع وجعلها في موقع الدولة الأبوية الراعية للمواطنين بمختلف مذاهبهم ومناطقهم وقبائلهم، وبهذا فرضت الحكومة هيبتها وبينت قدرتها على توجيه الضربات الاستباقية وإصدار الأحكام والخروج بمظهر المنتصر والرحيم الذي يعفو ويصفح في نهاية المطاف، وهذا يجعل الطرف الآخر منهزماً مرتين؛ فمن جهة لم يتمكن من فرض تصوره ونموذجه لشكل الدولة والمجتمع، ومن جهة أخرى خرج من السجن ليس بطلاً له رمزية، وإنما كأنه ابنٌ ضال عفت وتجاوزت عنه الحكومة الأبوية، وهُنا تفقد الحركات السياسية رصيدها المعنوي، الذي غالبا لا يعيش إلا بالتضحيات. وبهذا تحرمها السلطة من بطاقة المظلومية Victim Card وتجعلها بلا رمزية، وهذا التعامل في ظني أكثر تدميرا للحركات السياسية من الإعدامات والعقوبات القاسية التي تجعل الناس يكرهون السلطة ويتعاطفون مع الضحية مثلما حصل مع سيد قطب في مصر وغيره الكثير في العالم العربي. 

هل عمان كانت بعيدة عن الهجمات الرافضة للوجود العسكري الغربي في الخليج؟

لقد تزايد الوجود الغربي (الأمريكي والبريطاني والفرنسي) على شكل اتفاقيات دفاعية وأمنية وصفقات سلاح وقواعد عسكرية علنية في الخليج بعد غزو العراق للكويت وما تلاها من عمليات عاصفة الصحراء. على سبيل المثال لا الحصر: قاعدة العديد في قطر، والمنهاد والظفرة في الإمارات، والجفير في البحرين، وعريفجان وفي الكويت، وثمريت والمصنعة في سلطنة عمان وقاعدة الأمير سلطان الجوية في السعودية -انتهى الوجود الأمريكي الرسمي فيها عام 2003- أدى هذا لخلق حالة من الاستفزاز والشعور بغياب السيادة خصوصا لارتباط بريطانيا وفرنسا بفترة الاحتلال والاستعمار، وكأنها دول ما زالت تعيش تحت الحماية أو الانتداب، وبالنسبة لأمريكا فقد كانت الداعم الأكبر لاحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، مما جعل شعبيتها تتراجع في المنطقة. من شواهد ذلك استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة غالوب بين عامي 2006 – 2008 والذي كانت نتيجته أن “الأغلبية من المسلمين يرفضون وجود القواعد الأمريكية، ووافق 52% من السعوديين بأن إزالة القواعد الأمريكية في البلاد يُحسن الحالة الأمنية”. ونتيجة لهذا الشعور بالعجز وعدم تجاوب السلطات في التسعينيات مع مطالب الشعوب في رفض الوجود الغربي المسلح على أراضيهم شهدت المنطقة موجة من العمليات العسكرية كالتفجيرات والهجمات المسلحة على مقرات عسكرية ومناطق سكن الجنود الأجانب ووسائل النقل التي يستخدمونها وبعض المنشآت الحكومية خصوصا في السعودية، والتي يُنظر لأراضيها على أنها مقدسة؛ فهي مهد الإسلام وبها قبلة المسلمين والحرمين الشريفين.

اللافت للنظر هنا أن دولة مثل عمان لم تشهد أي عمليات من هذا النوع في التسعينيات وبداية الألفية، مع الحراك والنشاط السياسي لدى مختلف المذاهب الإسلامية، علماً بأن السلطنة بها قواعد بريطانية وأمريكية منذ فترة مبكرة. قد يكون السبب خلف غياب مقاومة الوجود العسكري في الفترات الأخيرة أن هذه المحاولات كانت موجودة بشكل مبكر في بدايات القرن الماضي إلى منتصف السبعينيات، بل قد يُعتبر الوجود البريطاني أحد أهم أسباب الثورة والتمرد على الحكومة في شمال عمان وجنوبها، فبداية ثورة ظفار كانت بالاعتداء على قواعد السلاح الجوي البريطاني في 1962؛ ثم استهداف فرق تنقيب النفط الأجنبية في 1963، وبرز هذا بشكل واضح في البيان الأول لجبهة تحرير ظفار في 1965 حيث أشار بشكل جلي ومباشر إلى “ضرورة إنهاء الوجود البريطاني وتحقيق السيادة الوطنية”.

بالمثل في كل محاولات إقامة دولة الإمامة الأخيرة سواءً في عهد الإمام سالم بن راشد الخروصي في 1913، أو الإمام محمد ابن عبد الله الخليلي في 1919، ومن أهم إنجازاته عقد اتفاقية السيب في 1920 التي جرى توقيعها بسبب “تزايد نفوذ البريطانيين في البلاد وقيام الإنجليز بتحريم تجارة الرقيق وحظر تجارة الأسلحة وتدخلهم في كل الشؤون الداخلية العمانية” والمحاولة التي أعقبتها مع الإمام غالب في 1954 وما نتج عنها من ثورة في الجبل الأخضر 1957، فقد كان دافعها الرئيس مقاومة البريطانيين وحلفائهم والحفاظ على ثروات البلد ومقدراته، وقد ودفعوا ثمن ذلك غاليا.

الذاكرة التاريخية ونبذ العنف

إن ما تعيشه عمان اليوم من استقرار وأمن وبُعد عن الإرهاب يعود لتجارب وخبرات تراكمية شهدها المجتمع والدولة في تاريخه القديم والمعاصر، فالشعب لم يتجاوز بعد آلام الثورات وحركات التمرد التي صاحبها استخدام للعنف -سواءً من الحكومة أو خصومها- حيث أدت هذه النزاعات لحروب أهلية بين الأهل وأبناء الوطن الواحد، مما أضعف البلد وجَعَلَهُ عُرضةً للتدخلات الخارجية والحروب بالوكالة. هذه الأحداث ما زالت حية وحاضرة في الذاكرة العمانية؛ فيكاد لا يخلو بيت من ثائر أو شهيد أو مُهَاجِر، ودائما ما تُكرر على مسامع الأجيال الجديدة المآسي وقصص الصراع والفقر والجوع والجهل التي مروا بها خصوصا أنها استمرت لفترة قريبة نسبيا إذ إن الأحوال لم تستقر وتتحسن إلا في منتصف السبعينيات أي أن كثيراً ممن عاشوا الأحداث ما زالوا على قيد الحياة.

إن السلوك البشري عندما يصبح شائعا وسائداً في إطار جمعي يتحول ليكون ثقافة قد يُوصف بها بلد أو شعب، وهذه الثقافة تتشكل نتيجة ظروف وسياق معين، فالبشر أنفسهم يتشابهون ولكن الظروف هي التي تجعلهم يختلفون، ولذلك يولد الإنسان العماني الجديد وهو يعيش حالة من النظرة المأساوية للماضي ترتبط بالدماء والثارات والحروب، وهو ما يدفعه للتمسك بالواقع الراهن، مع كل عِلّاته وتحفظاته عليه.

تدرك الحكومة والحركات السياسية المعاصرة التي عارضتها أن استخدام العنف لن يقودها للحل، فتجارب السلطة تقول إن المعالجات الأمنية الوحشية القائمة على منطق القوة كانت تؤدي غالبا لنتائج عكسية ولا تحقق الهدف من تعزيز هيمنة السلطة على صنع القرار في البلد، خصوصا في مجتمع لا يُنظَر فيه للإنسان على أنه مجرد فرد، وإنما جزء من جماعة قبلية أو مذهبية أو مناطقية، وهذا الأمر تضعه الحكومة في الاعتبار فهي لا تريد الصدام مع البُنى الاجتماعية المتماسكة في عمان؛ وإنما تحاول أن تُشرِكها في السلطة حتى تضمن بقاء تحالف وطيف واسع حولها يؤسس لاستقرار مستدام. 

عُمان والمنهجية البنائية “Constructivist Approach” في مكافحة الإرهاب

لفترة طويلة ظل الإرهاب يُدرس في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية من المنظور الواقعي والليبرالي Realist and Liberal Approaches، وهو ما أعطى فهماً قاصراً عن طبيعة الأسباب التي قد تدفع للقيام بأعمال العنف؛ مما أثر بشكل واضح على قدرة الحكومات في وضع سياسات وقائية وعمليات إعادة تأهيل لمنع وقوع الهجمات الإرهابية. كانت النقطة الفاصلة في عجز التصورات السائدة عن توقع أو حتى تفسير أحداث 11 سبتمبر وكل العمليات التي تلتها والتي ترتبط بالأفكار والهويات الدينية وخصوصا الإسلامية. وذلك لأن المنهجيات التقليدية تركز على محاربة “الفعل” الإرهابي من خلال التقنيات الأمنية والعسكرية لمنع حصول العمليات، وكأنها مسألة مادية مرتبطة بكيفية توزع القوة العسكرية والاقتصادية بمعزل عن الأفكار والهويات والثقافات. على الجانب الآخر، تتجه المنهجية البنائية “Constructivist Approach” لمحاولة فهم الأسباب والجذور التي أدت للقيام بالفعل، وتميل للتركيز على “الثقافة والأفكار والهويات والبُنى الاجتماعية” التي وفرت بيئة حاضنة له. حسب الفهم البنائي لا يُعتبر الإرهاب مُعطى أو فعلاً فردياً عابراً، بل نتيجة تصور صنعه الإنسان لأسباب أكثر تعقيداً وهي متعلقة بتفاعل الأفكار مع الهويات الثقافية والبُنى الاجتماعية والسياق السياسي الذي يمر به المجتمع.

البنائيون يرفضون التفسير المادي المحض للإرهاب فالعالم بالنسبة لهم مُكوَن اجتماعي في المقام الأول. يُعتبر ألكسندر ويندت – Alexander Wendt أهم من أسهم في تطوير المنظور البنائي، وضرب مثالا مُعبِراً حين قال “إن التهديد الناتج عن 500 سلاح نووي بريطاني بالنسبة لأمريكا هو أقل من التهديد الناتج عن 5 أسلحة نووية لكوريا الشمالية، لأنّ التهديد ليس ناتجاً عن الأسلحة النووية بحدّ ذاتها (البنية المادية)، بل عن المعنى الممنوح لهذه البنية المادية (أي البنية الفكرية)؛ بالتالي فإنّ الأسلحة النووية ليس لها أي معنى إلا حينما نضعها بالإطار الاجتماعي الذي يحدّد العلاقة القائمة بين مختلف الأطراف”

عودةً لعمان؛ فهي قد تبنت عدة منهجيات في التعامل مع الإرهاب وكانت سبّاقة في الاستفادة من التصورات البنائية لفهم الأسباب والجذور التي تؤدي للعنف -حتى قبل أحداث 11 سبتمبر وقد ظهر ذلك منذ بداية حكم السلطان قابوس- فقد حاولت الحكومة أن تدمج بين المعالجات الأمنية الواقعية الدفاعية لمكافحة الجانب المادي من الإرهاب، والإصلاحات الثقافية والدينية وسياسات التسامح والتعايش بين الطوائف لتجنب خلق مجتمع يقوم على الكراهية والطائفية والتشدد مما قد يوفر بيئة مناسبة للإرهاب، لذلك تبنت السلطنة سياسات مبكرة تدين خطاب الكراهية، وأسست لفكرة المساواة بين الطوائف والمذاهب الدينية في عمان؛ فكلهم سواسية أمام القانون، ومع كون المفتي العام للسلطنة من المذهب الإباضي، إلا أنه فعليا لا يوجد مذهب رسمي للدولة، والحكومة كانت تحاول أن تبقى على مسافة واحدة من المذاهب كلها، وللمكونات جميعها تمثيل متساوٍ تقريبا في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية والخدمية، وبينما كانت دول المنطقة في معظمها تقوم على رؤية إما مذهبية أو قبلية أو مناطقية، وتقسم المواطنين لدرجات حسب هوياتهم أو مذاهبهم أو حتى فترة حصولهم على الجنسية، كانت عمان منذ البداية تقوم على أساس شراكة كل المكونات في الشأن السياسي، مع حصولهم جميعا على فرص اقتصادية ومنافع متقاربة، وكذلك حق كل الأطراف في الحقوق والحريات الدينية.

هذا النهج البنائي انعكس كذلك في التعامل مع الأفراد الذين ينتمون لجماعات متطرفة أو لديهم مشاركات جهادية في الخارج، فالحكومة تبنت سياسة الباب المفتوح التي تتيح خط رجعة للمُغرَر بهم واحتواءهم بعد عودتهم، مع استخدام الحد الأدنى من العنف -للضرورة القصوى فقط- بحيث لا تخلق ثارات أو ضغائن معهم أو مع البيئات التي يأتون منها، بل على العكس تحاول أن تكون قريبة منهم ومن عوائلهم وتميل لتوفير فرص عمل لهم بعيدا عن الجوانب ذات الطابع الدعوي؛ وهي محاولة لإعادة تأهيل هؤلاء الأفراد ودمجهم في المجتمع مرة أخرى، مع إبقاء خط التواصل المباشر مع العوائل، وبهذا الشكل تبين الحكومة حسن نواياها، فهي لم تتجه لخيار العقوبة ولم تتشدد في الأحكام، وإن حصل فعادةً يأتي العفو بعد مدة قصيرة، وهي تستفيد من الأسر والمكونات الاجتماعية بدلا من أن يكونوا أعداء لها، وبهذا يصبحوا هم أداة رقابة معها لوجود ثقة عالية في الحكومة ولأنهم يدركون من تجارب كثيرة أنها لن تسعى لإيذائهم، وكان عنصر الثقة عاملاً أساسياً في نجاح العملية، وما كان ليتحقق لولا البُعد البنائي في المنهجية الأمنية العمانية والتي تولي اهتماما كبيرا للهويات والأفكار والثقافة والبنى الاجتماعية.

وقد ثبت وجود حالات عمانية شاركت -وبعضهم كان يُحرض ويدعو للجهاد- مع بعض التنظيمات الإرهابية مثل داعش ولكن السلطات تتعامل معها بسرية عالية حتى لا تؤثر على الأفراد وأسرهم، وكي لا ينتشر خبر وجود مجاهدين من تلك البيئات مما قد يساهم في التأثير على الآخرين وجعل الفكرة جاذبة أو ممكنة. إن ما تحاول الحكومة فعله أن تجعل فكرة الجهاد غير موجودة أو واردة حتى في المخيلة، فهذه حرب ليست مع الأفكار فقط؛ بل إنها تتجاوز ذلك لتشمل الخيال، ولذلك تروج الحكومة صورة أن العماني له خصوصية وهو متصف بالسلم والهدوء والسكينة وبعيد عن الانفعال ولا يتدخل فيما لا يعنيه، وهذه المبادئ تحاول غرسها في نفوس وعقول الأطفال منذ الصغر من خلال المدارس، وبعد ذلك يستمر الإعلام الرسمي والخاص وخطب الجمعة والجامعات والكليات وكل المؤسسات التي قد تؤثر على وعي الإنسان في تمرير نفس الرسائل والمبادئ، ومع كل ما يعتري ذلك من عمليات تدجين وتنميط واحتكار للخطاب وتضييق على الحريات إلا أنه ساهم بخلق إنسان عماني مسالم مع كونه يُضمِر أكثر مما يُظهر ويتردد في التعبير عن رأيه ويخشى الانضمام لأي نشاط بطابع سياسي. قد تكون هنالك نتائج إيجابية لهذه السياسة ولكن لا يمكن إنكار تأثيرها السلبي على قدرة المجتمع على تنظيم نفسه أو تأسيس مجتمع مدني أو التعبير عن الرأي بحرية. نعم هنالك سلام وتعايش وتسامح ولكنه يقوم على التجاوز والهروب من التاريخ والمضي قدما دون الالتفات للخلف أو الحوار والنقاش فيما حصل. هي عملية هروب للأمام وقد لا تدوم.

إظهار القوة والرحمة وكسب الرأي العام في آن واحد!

تطرق المفكر الفرنسي ميشيل فوكو لهذه الفكرة بشكل مفصل في كتابه “المراقبة والعقاب.. ولادة السجن”؛ فالدولة الحديثة تتجنب استخدام العنف المباشر حفاظا على صورتها ولئلّا يثور الناس عليها، وقد حلل في كتابه طبيعة العقاب الممنهج والحذر لدى الحكومات من أن تبدو قاسية أمام العامة، فهي تتجنب العقاب الجسدي الوحشي المباشر، لتركز على العقاب النفسي من خلال السجن، وهذا يجعلها تظهر وكأنها رحيمة وتركز على إصلاح الإنسان لا معاقبته، بينما هي واقعيا تدمره نفسيا وتسرق منه أهم ما لديه وهو الوقت، وفي حين كان الناس سابقا يتعاطفون مع الضحية -خصوصا السياسيين- وقد يثورون نتيجة ما يرونه من مشاهد التعذيب والإعدامات العلنية فيما سمَاه ب “انفعالات المشنقة”، فإنهم مع الدولة الحديثة لا يشاهدون أي أذى مباشر يقع على الضحايا وهو ما يعطي انطباعا بأن هنالك “رصانة عقابية” فالسجناء في أيدٍ أمينة ولا شيء يستدعي التعاطف أو التضامن معهم، بهذا تضمن السلطات أن مظاهر القمع التي تمارسها تنال رضى الناس ولن تدفعهم للثورة عليها وتحافظ على تحقيق مُرادها من العقاب بفاعلية مثل فرض هيمنتها على المجتمع وإضعاف المعارضين لها وتعميق قبول الناس بها.

يمكن إسقاط هذا التحليل على الحكومة في عُمان، فهي ناجحة في تجنب استخدام العنف والعقوبات الوحشية مثل عمليات الاغتيال والإعدامات والتعذيب الجسدي، وهذا ما يجعل جزءا كبيرا من الشعب ينظر لها باحترام وتقدير وقبول لما تقوم به من ممارسات أخرى، بل قد نجد أن أهالي المعارضين أنفسهم يكررون عبارة أن السجناء من أهلهم في أيادٍ أمينة. إن خيار الشعوب والأفراد في الاتجاه للعنف أو ما قد يسميه البعض بالإرهاب -حسب السياق وأطراف المعركة- في معظم الحالات يكون ردات فعل لوحشية مؤسسات الدولة وإرهابها وهذا لا يلغي حقيقة وجود أفكار متطرفة أحيانا مثلما حصل مع الجماعة الإسلامية في مصر بعد اغتيال سيد قطب، وما نتج عن استخدام النظام السوري للعنف المفرط في وجه الثوار، وكذلك المثال الليبي واليمني وغيرهم الكثير.

ما سبق يفسر سبب عدم تحول كثير من الحركات السياسية إلى جماعات مسلحة أو إرهابية في عمان، فالحكومة لا تُوجد لها مبررات لتتجه لهذا الخيار. إضافة لذلك تنهزم هذه التنظيمات أمام الدولة في الحرب النفسية والإعلامية مما يجعلها غير قادرة على التحشيد أو إقناع المجتمع بأن هناك ما يستدعي حمل السلاح، وهذا نقيض ما يحصل في مجتمعات عربية أخرى حيث أن شرائح كبيرة من تلك الشعوب تقبل باستخدام العنف وسيلة للتغيير -خصوصا بعد 2011- لأنها تجد أن الحكومات ذاتها هي أول من يمارس الإرهاب والقتل والإجرام على المواطنين بمجرد تعبيرهم عن أبسط احتياجاتهم أو خروجهم للتظاهر في الشوارع، لذلك ينغلق الأفق ويصبح حمل السلاح من قبيل الدفاع عن النفس والحماية من الدولة “ضرورة لا مفر منها” وهذا يُمَكِّن المعارضة أو أي حركات متطرفة من إقناع المجتمع بحتمية هذا المسار لمقاومة السلطة وتحقيق التغيير المنشود.

لا تقارب ولا عداوة مع الجماعات المتطرفة

تحارب عمان الإرهاب بلا شك وقد تشارك في بعض المنظمات الدولية أو المبادرات المعنية بالتضييق على الإرهاب مثل مركز استهداف تمويل الإرهاب، ولكنها تتجنب معاداة الجماعات المتطرفة بشكل مباشر، وتحاول أن تكون على مسافة أمان؛ فهي في الوقت ذاته لا توظفها سياسيا ولا تحاربها، لا صداقة ولا عداوة، نعم الحكومة ترفض الأفكار المتطرفة ولا تسمح بإقامة أي نشاط لها في عمان، ولكنها تتجنب وضع قوائم للإرهاب أو أن تكون في مقدمة الدول المعادية لهذه الجماعات. على النقيض مما يجري في الإمارات والسعودية ومصر والبحرين، فهي لديها قوائم مطولة لتنظيمات وشخصيات تصنفها داعمة للإرهاب؛ مما يجعلها في صدام مباشر معها، ويعرضها للاستهداف والعمليات المسلحة من قبل هذه الجماعات. إضافة لهذا فإن تصنيف نسبة كبيرة من الجماعات على أنها إرهابية يجعل عملية الحوار معها مستعصية، لتصبح بلا خيارات ولا يبقى لها إلا الحل العسكري، مثلما يحصل في حرب اليمن بين أنصار الله ودول التحالف. وبعد ذلك تصبح محرجة إن عادت لطاولة التفاوض معها، فكيف تحاور من تصنفهم جماعات إرهابية؟ وهذا يعقد المسألة أكثر ويطيل من عمر الصراع، ويقلل فرص الوصول لتسويات وحلول وسط تحقن الدماء.

تصنع الحكومات الرأي العام وتقوده في البداية، لكنها تمسي بعد ذلك مُنقادة له وغير قادرة على التراجع عنه، فهي من رفعت سقف التوقعات وجيشت الشعب للحرب وصورته الحل الوحيد، لِتُستنزف في حروب تهلك الحرث والنسل بدون أن تحقق أهدافها. وبعدها تخسر وتتنازل لمن كانت تسميهم إرهابيين كما حصل مع أمريكا في أفغانستان وفيتنام!

الخُلاصة..

إن ما تنعم به عمان اليوم من أمن وبُعد عن الإرهاب ما هو إلا نتيجة لتراكمات تاريخية دموية مريرة لازالت حاضرة في الذاكرة، مما أدى لإنضاج التجربة السياسية -في الحكومة والمعارضة- بحيث تصبح حذرة في مسائل الدماء وتتجنب العنف وكل ما له صلة بالإرهاب. حاولت هذه المقالة دراسة الحالة العمانية وأسباب اختلافها وتباين معالجتها للإرهاب، وقد ركزت على المنهجية البنائية التي لا تنظر للإرهاب في بعده المادي فقط، وإنما تحلل الأسباب والخلفيات المتصلة بالهوية والثقافة والبُنية الاجتماعية. هنا عرض لعملية تدافع تاريخي لم تتوقف لمجتمع شهد حركات سياسية من أقصى اليسار الشيوعي إلى اليمين الديني المحافظ، مجتمع عرف النضال المسلح والتنظيمات السرية والحركات الجماهيرية الشعبية ولم يتوقف. وكذلك عرض لتجربة الحكومة العمانية المختلفة وسلوكها السياسي الحذر في وضع مسافة أمان من الجماعات المتطرفة “لا صداقة ولا عداوة” مع تجنبها لوضع قوائم إرهاب أو أي ممارسات تجعلها في فوهة المدفع أمام هذه التنظيمات. الحديث هنا بدأ عن الإرهاب ولكنه انتهى ليعرض تجربة شعب وسلطة، وصراع وفُرقة، وانهزام وعودة، بعد تمرد وثورة. 

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *