ثلاثون عاماً مضت على المناظرة الشهيرة “مصر: بين الدولة الدينية والدولة المدنية” التي جمعت فريقاً من الإسلاميين (الدكتور محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي والمستشار مأمون الهضيبي المتحدث باسم الإخوان) في مقابل فريق من العلمانيين أو المطالبين بالدولة المدنية (الدكتور فرج فودة ومحمد خلف الله). هذا الحدث الثقافي الكبير والحوار النادر الذي جمع أقطاب الفريقين آنذاك في واحدة من أهم الدول العربية؛ أعقبه اغتيال د.فرج فودة ولغط عظيم صاحب هذا الاغتيال.
وبمناسبة مرور الذكرى السنوية لحدث اغتيال فرج فودة ( ٢٢ يونيو من عام ١٩٩٢ ) أرى أنه من المهم أن تُطرح إشكالية ما أسميه بـ المادة الثانية من الدستور والتي تنص على أن الشريعة الإسلامية الـ/مصدر الـ/رئيس للتشريع، وهي المادة التي تسببت فيما بعد بتكفير واغتيال أحد أبرز السياسيين والمثقفين في المشهد آنذاك. أحاول في هذه المقالة استعراض أهم ما دار في تلك المناظرة ثم أمسك بواحدة من أهم الحجج التي اتفق عليها فريق الإسلاميين-وقاتل عليها الفريق الآخر أيضاً-ومحاكمتها وهي التمسّك بالمادة الثانية من الدستور وتفعيلها، وسأوضّح بأن هذه المادة الضبابية وما يصاحبها من معارك مستمرة ما هي إلا تركة من بقايا الاستبداد الساداتي ، وأنها جملة لا تكاد تحمل أي معنى في الدولة الحديثة.
الدولة بين ( الدينية والمدنية ):
أقيمت المناظرة في يناير عام ١٩٩٢ خلال معرض الكتاب تحت تنظيم وزارة الثقافة المصرية وكان الحضور مهيباً لدرجة امتلاء القاعة والممرات المؤدية إليها حتى وضعت مكبرات الصوت في الساحات وانتشرت القوات الأمنية لضبط وتنظيم الجمهور الذي قدر بنحو ٣٠ ألف مستمع. أغلبية الحضور كانوا من مناصري الفريق الإسلامي الأمر الذي انعكس على مداخلاته التي اتسمت بالهدوء وعدم المقاطعة إلا من تكبيرات وتهليلات تصدح بين الفينة والأخرى بعد كل آية وحديث لردع الاستعمار وبقاياه الموصوف به الفريق المخالف، عكس مداخلات الفريق المدني التي صارعت فيها الكلمات الضحكات والسخرية المتواصلة.
بدأت المناظرة بمداخلة من الفريق الإسلامي قدم فيها عرضا تاريخيا للدولة الإسلامية و دور العرب والمسلمين بطرد الاستعمار، الذي يرونه لم ينتهي بعد، فالقوانين الوضعية والديمقراطية والعلمانية وما شابها هي من تركته، وهذا يستدعي استئناف المقاومة للاستعمار ومخلفاته، ومن ثمّ ضرورة الرجوع إلى الشريعة السماوية والتفريق بين ما أسموه الدولة الإسلامية والدولة غير الإسلامية، حيث رأى الدكتور محمد عمارة -وكذلك الغزالي- بأنه لا توجد دولة دينية في الإسلام؛ لأنه لا وجود لرجال دين/كهنوت في الدين الإسلامي. بالتالي يبقى المشروع بالنسبة للفريق الإسلامي هو “دولة مدنية تحكم بالشريعة الإسلامية”. وأخيراً سرد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية عن ضرورة تطبيق شرع الله الذي لا يمكن تطبيقة خارج صلاحيات الدولة وسلطانها. توقف الشيخ الغزالي لتفكيك بعض المفاهيم المهمة لمرة واحدة، وذلك عند ذكر “الديمقراطية الإسلامية” والتي فرقها عن شبيهتها الغربية كون الأولى نصفها وحي من عند الله والنصف الآخر عقل يبحث عن المصلحة بالقياس والاستحسان، والشورى فيها حق بشرط عدم وجود نص سماوي. لم يختلف المستشار الهضيبي عن مداخلات من سبقه لكن الجديد كانت نقطة تمركز عليها طيلة مداخلته وهي النسبة المئوية لمسلمي مصر التي يبدو أنها لم تكن دقيقة وإنما وليدة اللحظة والحماس الجماهيري المكبّر تارة والمهلل تارةً أخرى “..مصر نحو ٩٥٪ من أبنائها يدينون بالإسلام” وفي موضع آخر “نحن عندنا ٩٥٪ أو نحو ذلك من سكان مصر مسلمون اسألوهم.. هل يرضى أحد أن يطبق عليه حكم غير الإسلام؟”. فسؤال الأغلبية لا يكاد ينفك عن مداخلة الهضيبي وتكراره لتأكيد حق الأغلبية في الحكم بدينهم والتخلي عن إسلامية الدولة هو ترك أفراد هذه النسبة المئوية الضخمة لدينهم، أي أنها ردّة جماعية. وهذا يتضح عند تكراره في نهاية مداخلته “الخيار المطروح هو إما أن نكون مسلمين أو لا نكون” وأيضاً “لأننا شعب الغالبية الساحقة منه مسلمون،هل نطلب من المسلمين أن يتركوا دينهم؟”.
بعد ذلك وبعد عناء وسط قهقهات الجمهور وتهكمه، شرع الدكتور محمد خلف الله أول المتحدثين من الفريق العلماني/المدني بتفكيك المفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالدولة والحكم والمواطنة والوطن، ثم اتبعه بسرد تاريخي سريع لأشكال الدولة وطرق الحكم وتقاطع ذلك مع التاريخ الإسلامي، والتفريق بين الدولة الحديثة التي لم تنشأ إلا بعد جعل الشعب مصدر السلطات جميعاً ودولة الخلافة أو الدولة الدينية التي كان يحكم فيها الملك بواسطة حق إلهي/سماوي، وتحرر الإسلام من مسألة الحكم والدولة ودليل ذلك عند المتحدثَين بأن طرق تولية الخلفاء الراشدين الحكم كانت مختلفة، لينتهي الفريق الأخير بـ “أن لم يكن الإسلام دولة بل ديناً يحكم بين الناس”.
هذه كانت المداخلات الرئيسية في المناظرة، إلا أن أكثر النقاط إثارة فيها جاءت في التعقيبات عندما دار النقاش حول البرنامج السياسي والأجندة التفصيلية للحكم الإسلامي. فبعد إلحاح الدكتور فرج فودة وسؤاله المتكرر عن ماهية هذا البرنامج السياسي، أجابه محمد عمارة بأنها “المادة الثانية “. والمقصود بها هي المادة الثانية من الدستور المصري التي تنصّ على “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”. ففي أكثر من موضع في المناظرة، كان الدكتور عمارة يطالب أن تفعّل هذه المادة، وكان يوظفها لتقريع خصومه حيث قال “نحن مع الدستور والذين يقفون ضد إسلامية القانون هم الخوارج على الدولة المصرية”.
فما تاريخ هذه المادة؟ وما تعنيه حقاً؟ وما المقصود بتفعيلها؟ وهل هذه المادة هي المعيار الصارم الذي يحكم بين إسلامية الدولة من عدمها؟
الشريعة بين ( مصدر / المصدر )
في البداية سأقوم بإستعراض تاريخي لهذة المادة وللدستور المصري والمراحل التي مر بها. عرفت مصر الملكية أول دستور بعد استقلالها من الحكم البريطاني بعام (١٩٢٣ ) والذي لم يتطرق إلى الشريعة الإسلامية واكتفى بأن الإسلام دين الدولة في الباب السادس تحت عنوان أحكام عامة. بعد ذلك قام الملك فؤاد الأول بإلغاء دستور ١٩٢٣ وأعلن عن الدستور الجديد في عام ١٩٣٠ الأمر الذي أدى إلى انتفاضة ١٩٣٥ ضد قرار الملك ورئيس الوزراء آنذاك صدقي باشا مما عطل العمل بالدستور الجديد وأدى لعودة دستور ١٩٢٣. وبعد وصول الضباط الأحرار إلى سدة الحكم ألغوا العمل بالدستور الملكي وأعلنوا عن مصر الجمهورية ودستورها الجديد الذي نجح في الاستفتاء الشعبي في ٢٥ يونيو ١٩٥٦ وبعد ذلك الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة بعد اتحاد مصر وسوريا.
ومنذ أول دستور مصري في ١٩٢٣م وحتى تولي الرئيس أنور السادات الحكم في مصر، لم يكن هناك أي مادة تنص على أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع. ودخول هذه المادة للدستور المصري، لم تكن نتيجة حسن نيّة الرئيس ولا تقواه وورعه؛ فبعد وفاة جمال عبدالناصر قام السادات بإطلاق سراح الإسلاميين من السجون وسمح باستئناف الأحزاب أعمالها السياسية لمقاومة التيار الاشتراكي واليساري الضخم في العالم العربي آنذاك وفي مصر تحديداً للبحث عن شرعيّة جديدة تميّزه عن الحكم السابق-هنا شكّل الإسلاميين بشكل آلي أحد أهم الدعّامات لرئاسة السادات-وذلك تحديداً في ١٩٧١م، حيث قام السادات بالعمل بالدستور الذي تنص مادته الثانية على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع”. ومع مرور الوقت وإصدار تشريعات جديدة كانت هناك حالات طعن لبعض القوانين التي ظُن أنها تعارض المادة الثانية من الدستور وكان حكم المحكمة الدستورية: “إن وجود مصدر رئيس لا يعني عدم وجود مصادر فرعية”، أي أن المادة لم يكن لها أي تأثير بنظر الإسلاميين.
وفي عام ١٩٨٠ قام السادات بعمل استفتاء شعبي لزيادة المدد المعمول بها للرئاسة وأدخل في نفس الاستفتاء تعديل المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع” لتصبح بعد ذلك ” المصدر الرئيس للتشريع” محاولاً بذلك كسب رضى الإسلامين وضمان نجاح الاستفتاء. ومنذ ذلك الحين أضحت المادة الثانية من الدستور أحد أهم الانتصارات التي يراها الإسلام السياسي في مصر بل والتي يطمح لها الإسلاميون في أكثر من دولة في العالم العربي والذي تبين لنا بإن هذا الطموح ما هو إلا إحدى مخلفات الاستبداد الساداتي.
جاء أول اختبار حقيقي لهذه المادة بعد التعديل الدستوري بسنة واحدة يوم ٦ أكتوبر ١٩٨١ عندما قام كل من خالد الإسلامبولي وحسين عباس ومحمد عبدالسلام فرج وآخرون باغتيال الرئيس السادات. هنا كانت المفارقة العجيبة حيث كانت هذه الحادثة هي الاختبار الحقيقي والسريع لقياس مدى نجاعة المادة، فبعد صدور أحكام الإعدام بحق المتهمين اتجه المحامون للطعن بدستورية قانون العقوبات لمخالفته المادة الثانية من الدستور وردت المحكمة العليا الطعن وحكمت بوجود مصادر أخرى للتشريع حتى بعد التعديل الدستوري.
جاء الامتحان الثاني للمادة، عام ١٩٩٦ عندما امتنعت إحدى مدارس الإسكندرية عن استقبال طالبتين لارتدائهما النقاب، الأمر الذي دعا ولي أمر الطالبتين للطعن بدستورية قرار وزير التربية بحظر النقاب في الزي المدرسي، ليأتي الحكم بأن المادة الثانية تمنع سن قوانين جديدة مخالفة للشريعة، وهي تخاطب السلطة التشريعية لا القضائية؛ أي أنه لا يحق للقضاء أن يترك أي تشريع مهما بدا مخالفاً للشريعة ما دام أنه صادر من السلطة التشريعية وأن القوانين السابقة للتعديل الدستوري اكتسبت حصانة دستورية لا يمكن إسقاطها إلا بنص صريح من السلطة التشريعية.
حكم المحكمة الدستورية أتى بكلمات قطعية وواضحة في شرحها لمبادئ الشريعة الإسلامية. مبينناً أنها “الأحكام الشرعية القطعية في ثبوتها ودلالتها، فهذه الأحكام وحدها هي التي لا يجوز الاجتهاد فيها، وهي تمثل من الشريعة الاسلامية مبادئها الكلية وأصولها الثابتة التي لا تحتمل تأويلا أو تبديلا. ومن غير المتصور بالتالي أن يتغير مفهومها تبعا لتغير الزمان والمكان، إذ هي عصية على التعديل ولا يجوز الخروج عليها”. والنصوص قطعية الدلالة والثبوت تعبّر عن كميّة ضئيلة جداً وينحصر معظمها في مسائل الأحوال الشخصية وأركان الإسلام. وهنا يأتي السؤال الأخير عمّا إذا كانت هذه المادة تعبّر فعلاً عن إسلامية الدولة فضلاً عن كونها معياراً صارماً لدرجة وصم المخالفين بـ”الخوارج”.
الخاتمة:
ختاماً، يراوح الإسلام السياسي في أكثر من دولة عربية وخصوصاً الكويت بين كلمتي “مصدر” و”المصدر” واصفين مساعيهم المتواصلة منذ المجلس التأسيسي عام ١٩٦٢إلى مجلس النواب الحالي ٢٠٢٠ بأنها “إبراءٌ للذمة” أمام الله وقواعدهم الشعبية و“واجبٌ دينيٌ “ في خطوة تجتمع عليها كل التيارات الإسلامية في الكويت وكأنها الخلاص المنشود لشذوذ الدولة عن إسلامها والخطوة الأخيرة لإكمال مشروعها الإسلامي. أما من سبقهم في هذه الخطوة وثبّت ألف لام التعريف وقاتل لعدم المس بها شرعوا في حزمة أسئلة يبدو أنها غابت عنهم ولم يحسبوا لملاقاتها كالنصوص الشرعية قطعية الثبوت وظنية الثبوت بالإضافة إلى سلطان المحكمة الدستورية المطلق في الحكم على شرعية القوانين من عدمها. بكلمات أخرى، لا زال الإسلام السياسي يطمح إلى مادة لا يعرف عنها سوى وقعها الموسيقي، تبعث الأشجان ولا تقدم أو تؤخر قيد أنمله على أرض الواقع.
وبعد كل ما تقدم معنا، تبيّن أن هذا الحدث الثقافي النادر الذي جمع أبرز المفكرين من التيارين آنذاك لم يحوي على نقاش حقيقي عن مسافة مصر بين الدولة المدنية والدينية ولم يتضمن النقاش أفكاراً حقيقية تعكس عنوان المناظرة. فالمناظرة كانت أشبه بالمحاضرة التاريخية التي زخمت بتمجيد الإسلام ديناً وعقيدة واستحضار المناقب التاريخية والفتوحات والعلم المسروق من المسلمين وكان سبباً لنهضة الغرب. ومثل ذلك الحديث التي تعج المصادر التاريخية به، لكن لم يتضمن النقاش أي محاور عملية تلامس الواقع والحاضر الراهن أو حتى أجندة سياسية مستقبلية توضح ولو بنسبة بسيطة عن شكل الدولة “المدنية التي تحكم بشريعة الله”، بل إن من الغرابة بأمر أن نجد الدكتور فرج فودة يمجّد الدولة المدنية التي يقول عنها “ها نحن نتحاور ورؤوسنا فوق أعناقنا” في إشارة بأن الدولة التي يبحث عنها الإسلاميون يستحيل التحاور والتعبير فيها بحرية، في الوقت نفسه الذي يرى الدكتور عمارة مصر دولة مدنية تحكم بالدين الإسلامي وفق المادة الثانية؛ أي أنها هي الدولة المنشودة لدى الفريق الإسلامي. والضبابية وعدم الوضوح الذي أخل بالنقاش وطبيعته هو نتيجة ملازمة الإسلام السياسي العبثي بمثل هذه المواد الدستورية التي أثبتت عدم جدواها وخلوها من أي فاعليه تذكر كما تقدّم معنا ووضعها حجة في وجه من يخالفه.
وبسبب ذلك التشبث الصارم بمادة كانت من صنع مستبد عربي لتمتين سلطته كانت المزايدات المتكررة الطلقة الأخيرة التي أدت إلى تكفير واغتيال أحد المشاركين في المناظرة وهو الدكتور فرج فودة، الأمر الذي يؤكد بأن المناظرة بدأت في الثامن من يناير ١٩٩٢ ولم تنتهي إلا في الثاني والعشرين من يونيو من نفس العام التي شهدت حضور الشيخ الغزالي متبرعاً بوقته وجهده للمحكمة والشهادة بحق المتهمين ”بأنهم قتلوا شخصاً مرتداً مباح الدم ، مستحق للقتل، ففرج فودة بما قاله وفعله كان في حكم المرتد، والمرتد مهدور الدم… وأن التهمة التي ينبغي أن يحاسب عليها الشباب الواقفون في القفص ليست هي القتل، وإنما هي الافتئات على السلطة في تطبيق الحد”. فكانت هذه الكلمات القليلة هي خاتمة أطول مناظرة عربية عرفها التاريخ الحديث.