هذه محاولة للحوار مع الصديق أسامة غاوجي حول ما يُمكن أن نُطلق عليه “الخطاب المحافظ الجديد”، وهو خطاب يتوسل أدبيات نقد الحداثة من أجل الدفاع عن قيم سياسية محافظة. لن أنقد الجزئيات/ الأخبار التي يتفاعل معها مقاله المنشور في الفيسبوك (اختطاف/أخذ الأطفال السوريين من عائلاتهم من قبل الدولة السويدية، أو جرائم الحرب الأمريكية على العراق) وإن كان المقال صيّرها مناسبة لتقديم الخطاب المُراد، إذ سيعود مرارًا حاملًا المسلمات والآفاق ذاتها عند كل تماس بين متخيلي الشرق والغرب. في المقال حركة متناوبة بين أسلوب نقد الحداثة وتقريع المدافعين عنها وآخر “دعوي” يُحذر القارئ من لا أخلاقية (فساد / سفالة) الرجل الأبيض. لا أزعم هنا تسطير نقد منهجي لهذا الخطاب، ولكنها محاولة للتفاعل مع بعض الأفكار التي يطرحها.
خلاصة الرد الذي أعرضه هنا : إن “نقد الحداثة” متورط كذلك بأدوات ومفاهيم “غربية”، وأن ثنائيات (إسلام وغرب، حداثة وتراث (مجتمع)) واهمة وتؤبد لحظة الهزيمة بأسطرتها التراث والمجتمع. وأُثنّي ببيان أنّ المقالة “هوياتية”: تقلّص الجماعة السنية لمحض “طائفة” سياسية كبيرة، وتستبدل الانهمام في التعبير عن ضعف الجماعة بالسعي لبحث الشروط الموضوعية لهذا الضعف، مسهمة بذلك في تكريس وضعية الضعف بتعزيز ثقافة المظلومية، وتربط بصورة تلازمية بين الانتماء الهوياتي والصفة الأخلاقية، مُعطلة بذلك الحساسية الأخلاقية، وأختم بالحوار حول الأمل في زمن الكارثة، وهو ما يختفي خلف المقال وإن بصورة غير معلنة.
وإذا كان لنا أن نوجز المقولات التي يدافع عنها مقال أسامة، فنقول، بقليل من التجوُّز وكثير من الحذر، تهدف المقالة إلى تبرير نقد الحداثة، وتعرض لذلك مجموعة من الحجج : 1) ” نحن نعيش جحيم الحداثة كلّ يوم” ( الحداثة = واقع الهزيمة)، 2) أحد وجوه الحداثة الأبرز هو التحالف بين الاستبداد والاستعمار (الحداثة= استبداد + استعمار) 3) ثمة حاجة للاعتزاز بالنفس وامتلاك ذاكرة لا تنسى نضالها وماضيها (الحداثة = النسيان)، والمقصود هنا أن الحداثة تُعطل ثورة الجماهير المقهورة وتمنعها من خوض نضالاتها وتُزيّف وعيها. 4) الحداثة/الغرب آلة قتل ذكية (الحداثة /غرب = لا أخلاقية) ويعرض في سبيل ذلك مجموعة من الأخبار (أخذ الدولة السويدية الأطفال من أهلهم، جرائم الحرب الأمريكية في اليابان وفيتنام والعراق، سويسرا وبيعها للأطفال، ونسب جرائم الشرف في أمريكا). 5) تتمتع الجماعة الإسلامية تاريخيًا بالأفضلية الأخلاقية (الإسلام =/= الحداثة) و (الإسلام = الأخلاق).
نقد تصور الحداثة وخطاب نقدها
تصدر مقالة غاوجي عن تصور مخصوص للحداثة، إذ تظهر فيها واقعًا ثقيلًا وجحيمًا لزجًا لا سبيل للخلاص منه بصور “النقد” التقليدية، إنها مزيجٌ من الاستبداد والاستعمار، مجاله الرئيس حيز السياسة. وبالتالي تجاوزت كونها مشروعًا فلسفيًا أو تعبيرًا عن مسار تاريخي مُمكن، إذ باتت اليوم تعبيرًا عن مصير؛ يراه فيه بعضٌ بهيجًا، وآخرون تراجيديًا، ولكنهم يتفقون جميعًا على أنها واقعة/ وضعية. في ظل هذا السياق يمكننا تَفهُم الضبابية التي تشوب هذا المصطلح. كل ذلك يجعل من “الحداثة” مقولة صلصالية لا يصلح استخدامها أداة تحليلية، إنها تدل على كل شيء ولا شيء في آن، ومع ذلك فإن هذا المصطلح يمتلك من الحيوية ما يجعل التخلص منه أمرًا صعبًا، وقد يعود ذلك إلى أنه يأتي دائمًا مشفوعًا بموقف قيمي مزدوج من الواقع و”الآخر الغربي”.
مهما يكن من أمر، تُضمِرُ المقالة أملًا بإمكان التخلص من ظل الحداثة الغليظ على قاعدة القطيعة (ابتكار مسار جديد) وبصورة أدق من خلال رافعة المجتمع/الإسلام (والالتباس الحاصل هنا جزء من مقومات الخطاب). لذلك جرى التركيز على نقد تقاطع الاستبداد والاستعمار، في حين يأتي نقد المجتمع على قاعدة الاستدراك، ويسبقه تعريض بدعاة “نقد الذات”. وبهذا يستعيد المقال الثنائية القديمة “الحداثة والتراث”، ولكن هذه المرة، بعدة وأدوات جديدة تُقدمها أدبيات نقد أخلاق الحداثة (وائل حلاق، زيجمونت بومان، و..).
يغيب عن المقال أن “لغة نقد الحداثة” هي من منتجات “الحداثة الغربية” نفسها (يُمكن العودة لبحث نشوء هذا النقد وعلاقته بالحركة الرومانتيكية في كتاب جذور الرومانتيكية لايزيا برلين)، وليس هذا استدلالاً على بطلان هذا النقد بحكم بلد المصدر ولكنها إشارة إلى صورة العلاقة “التورطية” التي تجمعنا بالغرب. ولسنا بحاجة لنقيم الدليل على ذلك من خلال تتبع حركة الأفكار تاريخيًا بين ضفتي المتوسط (وإن كان هذا ما حدث بالفعل)، ذلك أن مفاهيم الذات والآخر والإصلاح والنقد، التي تستخدمها المقالة لزحزحة افتراض الحداثة عنا قليلًا جميعها مسكونة بـأشباح التجربة الغربية، وبما أننا لا نستطيع التفكير بماضينا أو مستقبلنا دون حضور تاريخ التجربة الغربية والمفاهيم التي نشأت في سياقها فإن التجربة الغربية هي جزء من “الذات العربية”، فهي تحكم اليوم تصوراتنا حول النهضة والتحرر والاستقلال.
ولهذا فإن المقال يطرح علينا خيارات واهمة من خلال الفصل الكامل بين الإسلام والغرب، الحداثة و”التراث”، نحن وهم. ليس السؤال “الحداثة أم التراث؟” أو “الحداثة أم بدائلها؟” ولكن السؤال أي تُراث نختار وأي معاصرةٍ نطلب؟!. فكل منهما وضعيات وجودية تأخذ صور مختلفة تبعًا لتعاملنا معها.
يُورد فالتر بنيامن في مقالته عن مفهوم التاريخ ” حتى الأموات يتهددهم العدو المنتصر. وما برح العدو منتصرًا”، فتبعًا لهذه القراءة، وحده المنتصر الغالب من يحاول نزع صفة الثبات على “التراث”، وذلك كي يجعل من تغلبه في الحاضر النهاية المنطقية للماضي، وبالتالي فإن الدفاع عن حيوية الماضي هي مقولة سياسية ضرورية للتحرر. وعليه، إن إهمال تاريخية “التراث” وأسطرته هي خطوة باتجاه الهزيمة (للمزيد حول تصور بنيامن عن التاريخ راجع مقالة الصراع على التاريخ: فالتر بنيامن وأزمة ما بعد الربيع العربي).
لا بد مما ليس منه بد
يعي أسامة جيدًا النقد التالي، ولذلك عرَّض به في مقدمة المقالة قائلًا “سمعت في الأيام الماضية مراراً من يقول لي أو لغيري أنّ نقد الحداثة هذا حيلة الهويّاتيين، الذين يحرسون حنينهم للماضي المتخيّل بالتقاط عيوب الغرب وتضخيمها. والحقيقة أنّني لا أفهم أيّ تضخيم يعنون”. وفي هذا الباب تصح التهمة ولا يصح التعليل، فـ “الهوياتية” ليست مسابقة في البحث عن عيوب أي من الجماعات، بل تتعلق بصورة حضور “الهوية” داخل الخطاب المعني. إذ تتصف بأنها 1) تُقدم بوصفها متعالية على التاريخ، 2) اختزالية؛ تنفي صور الاختلاف والتعدد 3) والأهم من ذلك، أن نهايات الخطاب تصب في صحن “الهوية”. وبذلك فإن إقامة الدليل على الطابع الهوياتي للمقالة سهل: فيما يتعلق بالتعالي عن التاريخ فصورة أمريكا واضحة: هي “أمريكا” قبل إسقاط القنبلة على هيروشيما وناجازاكي، هي “أمريكا” بعد احتلال العراق. أما الاختزالية فحاضرة في تصور الأمريكان فردًا واحدًا يعصي ويتوب، يندم ويعود: ” لطالما اعترف الأمريكون بالذنب وتفنّنوا في التعبير عن وجع الضمير، ولطالما عادوا. أحرقوا فييتنام بالنابالم، وندموا مرّة أخرى، ثمّ عادوا لاستعماله في بلادنا”، أضف لذلك المساواة المُستترة بين الغرب والأمريكان والسويديين. أما ثالثًا فهي واضحة من خلال استخدام عبارة مثل ” أما المتهم بأنه “وحشيّ” فلم يتغيّر. هو أنت دوماً أيها المسلم!”.
ليس ثمة شك في أن “الهوية” وضعية وجودية، ولكن هذا لا ينفي أنها وضعية مختارة. يؤكد هشام جعيط في كتاب أزمة الثقافة الإسلامية ” إن الغربيين هم الذين ابتدعوا مفهوم العالم الإسلامي أيام الاستعمار”. إذا بما أن الهوية اختيار سياسي، يكون السؤال ما هي الموقعية التي علينا اختيارها؟ إن الجماعة السياسية التي تنطلق منها المقالة هي “الجماعة المسلمة”، حيث تؤسس هذه الـ”نحن” بالضرورة على استثناء جميع مكونات بلداننا الاجتماعية غير المسلمة. وبإقامتها الآخرية على قاعدة الدين؛ فإنها تقوم بمسح شرائح اجتماعية وحدود جغرافية من ذاكرة المكان. ويتناسى هذا الخطاب درس النكسة الأول، الذي وعاه ياسين الحافظ في الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة “إن حل المسألة الأموية [القومية] .. يتوقف على الأكثرية وبيدها … ما لم تع الطابع الانفجاري والملح لمسألة الأقليات، وأن حلها هو حل اندماجي يبدأ في المجتمع وبه، وأنه بالتالي حل ديمقراطي ومستقبلي، فإنها تتحول إلى ضرب من “أقلية” غالبة عدديًا، وتكف عن كونها نواة الأمة وصلبها، لتغدو “الطائفة” الأكثر عددًا فحسب من مجموعة طوائف متساكنة في توجس”، هذا والحديث هنا عن المنطلق القومي، أما المنطلق الإسلامي الذي نجده في خطاب المقالة فهو أكثر تفكيكًا للمجتمع بالتعريف، إذ يتجاوز حدود الدولة إلى طوبى “الخلافة”، بصورة علنية أحيانًا ومضمرة أحايين أخرى.
واستصحابًا، يذهب المقال إلى أن “الضحية أبكم، ومن يدافع عنه متهم بالتهييج والتهويل إن استعمل لغة تحمل فائض شعوره بالقهر”. يقول فالتر بنيامن، في مقالته العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي، ” تجد الفاشية خلاصها في منح الجماهير فرصة للتعبير عن نفسها، ولكن دون أن تمنحها حقوقها”(ليس الغرض من هذا الاقتباس نعت المقال بالفاشية). إن الزعم بأن تمثيل الضحية أو التعبير عنها شرط حصري لمساندتها من أوهام “النقد الثقافي للحداثة”، إذ يتحول غرض التفكير من فهم الشروط الموضوعية لأسباب الضعف وطرق معالجتها إلى التعبير عن الضحايا وآلامهم. ولا تتوقف إشكالية الاهتمام الحصري بالتعبير عن الضحايا على عدم فاعليتها وحسب، بل تتجاوز ذلك إلى تكريس فكرة المظلومية عقدةً نفسية وتشويه وعي الضحية. بعد حين تتحول العقدة إلى عقيدة، والوضعية التاريخية إلى وضعية ميتافيزقية لا يمتلك أحد أسباب تغييره (هل يذكركم هذا بجماعة ما؟).
لماذا ليست فلسطين
تحدث المقال عن أفضلية أخلاقية إسلامية، هي في موقع التسليم، “لا أقول هذا لأقنعكم أننا كنّا أفضل (هذا مفروغ منه بالمناسبة)”. إن محاولة الرد على هذا الكلام المُرسل لأمر مُربكٌ حقًا، لكنني سأحاول ذلك. لن أُقدم في هذا المقام على نقد هذه المقولة من خلال عرض درس في فلسفة الأخلاق، ولن أُقدِّم قراءة تاريخية لمقارنة أخلاقيات المجتمعات. فالحاصل هنا هو “مصيبة أخلاقية”، لا تتوقف عند استنساخ الخطاب “الاستعماري” بزعم الأفضلية الأخلاقية لجماعة بشرية على أخرى، بل تتجاوزه إلى خلط بالغ الضرر بين الهوية والأخلاق.
إن موضعة الأحكام الأخلاقية في عالم التحقق يرفع عنها صفة “المعيارية”، ومؤدى ذلك تعطيل الحساسية الأخلاقية وأدواتها. وكي لا نُسرف في التجريد نسوق مثال الأزمة الأخلاقية التي يعانيها “اليسار الشبيح”. إن عدم قدرة هذا اليسار على الممايزة بين القضية الفلسطينية وقيمتي التحرر والعدالة، نتج عنه “عمى أخلاقي” فريد، منحه القدرة على تبرير جبال من الضحايا وشلالات من الدماء لمجرد حصول ارتباط صوري بين “نظام الممانعة” والقضية الفلسطينية. مهما يكن من تعالق بين القضية الفلسطينية وتصورنا عن العدالة، فإن هذا الأمر لا يخولنا تقديم هذه العلاقة على أنها علاقة تلازم، ففي ذلك نيل من القضية ونظام الأخلاق سواء بسواء. إن “اليسار الشبيح” هو نهاية اقتران “الأخلاق=فلسطين”، ومن يقبل قاعدة (هوية = أخلاق) يتحرك على المسطرة نفسها.
إن زعم الأفضلية الأخلاقية يفتح بابًا واسعًا للرضا عن النفس، تلك الصفة التي يقول ابن عطاء الله السكندري إنها ” أصل كل معصية وغفلة وشهوة “. وربما يحضر من يقول بأن المقال يستدرك بالقول “وأعوذ بالله أن تظنّ بأنّ مثل هذا الخطاب – هنا وأينما ورد- يُقال لصرف النظر عن هذه المظالم، أو ينفي الحاجة للإصلاح الفكري أو التربوي أو خلافه، فليس هذا من الإسلام ولا الإنصاف في شيء.”، في واقع الأمر، يأتي هذا الاستدراك على قاعدة “النقص من صفات الكمال”، أي استدراك على صورة حبة الكرز.
مربع مُحتمل للوفاق
مع ما سبق، ليس لدي أدنى شك في نُبل الدافع الذي يوجِّه كتابة أسامة، فضلًا عن أهمية الموضوعات التي يحاول معالجتها: استعادة الفاعلية وزحزحة شبح التشاؤم وبناء صرح للخيال في عالم “اختفاء المستقبل”. ولكنني لا أتفق مع أسلوب معالجته لهذه الموضوعات، فالخطاب الذي يرى الواقع صناعة حصرية لعوامل خارجية هو صورة أخرى من صور تعطيل الفاعلية ونفي المسؤولية التاريخية.
أما معالجته للأمل – التي يمكن أن نرى حضورها في مقالات أخرى مثل لماذا فلسطين و عنْ الأزَمنة ما بعد العادية وإمكانيَّة التغيير– فإنها تحاول جاهدة رسم صور ممكنة للمستقبل من خلال أدوات تحليل تشاؤومية. ومؤدى ذلك عدمية وثوقية (لتمييزها عن العدمية التأويلية، يُنظر العدمية والسؤال الأخلاقي لموريس عايق) تُعطِّل الفكر وتجرح الفعل. إن الأمل المطلوب ليس وضعية سايكولوجية بل واجب أخلاقي، ينتج عن معادلة بسيطة هي أن التاريخ مفتوح على الاحتمالات المفتوحة ( غير النهائية )، وأن “الثورة” لا بد قادمة، والتحرر ممكن.
إن “اختفاء المستقبل” لا يجب أن يدفعنا لابتكار إيمان بـ”ثورة مستحيلة” ومسكونة بصورة الغالب، ولكن إلى ابتكار لغة وفكر جديدين لفهم عالمنا الكتيم، بحيث “لا يفهم الغالب من لغة المغلوب الجديدة إلا مقولة القطيعة معه” (في البدء كانت الممانعة، سهيل القش). فالسؤال اليوم أي وعي علينا أن نمتلك عندما تنفتح نافذة الفعل السياسي مرة أخرى في الخيمة العربية الكبيرة، وهل سنعيد إنتاج خيباتنا مرة تلو أخرى؟
نقد الحداثة لا يأتي اليوم فقط من جهة الهوية، بل تماما من جهة الاختلاف نفسه. الجهد الإمبريقي في توثيق “مشاكل الحداثة” لها دور أصغري ومهم، وهو تبديد الوهم الانواري الحداثوي، أي تفنيد العقيدة التقدمية. أقول إن التواطؤ المُنتقد بين نقد للحداثة من داخل المركز الأوربي [الغرب] ومن خارجه من الهامش الاستعماري [الجنوب والشرق] ليس أمرًا ذاتويا، وإنما له مناطه الموضوعي الامبريقي. أقول إن نقد الحداثة يأتي من جهة الهوية والاختلاف، كما نرى اليوم بشكل عملي تماما، من داخل الغرب سياسيات الهوية كاختلاف، ومن الجنوب سياسات الهوية كتطابق؛ لديهم المآخذ ذاتها على الواقع ما بعد الاستعماري، ويوقومان بجهد ديكولنيالي بنوايا للمستقبل والماضي مختلفة. مرد ذلك إلى إن الحداثة لم تكن تنوعا ولا تعددا، ولم تكن خيرة ولا طيبة، ولم تكن منطقية وعقلانية بالمفاهيم المطلقة، وإنما كانت هوية قسرية يرفضها الاختلاف المحض كما يرفضها الاختلاف الهووي. الحداثة مشروع ضد الاختلاف بدوكسا التقدم، أي بدوكسا مثلها مثل أي نزعة دينية. من هنا اليوم نقد الاستمعار ياتي من جهة الاختلاف [غير السلبي]، أي من جهة الاختلاف التوكيدي، ومن جهة الاختلاف [السلبي] الهيغلي، كما من جهة الهوية المختلفة. الحداثة هي صارت محافظة تتيح لأسامة وللاصدقاء من المركز الغربي ومن الهامش الجنوبي، نقدها كمحافظة.
المشكلة التي نحن في صددها ليس نقد الحداثة من حيث هو نقد، وليس الصورة السياسية التي تأخذها فلسفات نقد الحداثة (وهذا موضوع جدير بالبحث)، المسألة هنا هو الاستخدام المحافظ لأدبيات نقد الحداثة في سياق “مشاريع سياسية”. نعم نقد الحداثة مهم كلحظة سلب، ومهم أحيانا كوضعية معرفية تكشف تاريخية القيم الكبرى للأنوار، كما تفضلت.
ولكن اختلف معك في أن نقد الحداثة في داخل المركز الأوروبي وخارجه يقومان بجهد ضد-استعماري خالص. شخصيًا أجد فيهما امتداد لهذا الخطاب الاستعماري بصورة خفية، تؤبد تفاعلنا مع نوع خاص من الأدبيات وصنف خاص من الآخرية، وتاريخ “غير عالمي”. في حين أن كسر المركزية الغربية والخطاب الاستعماري بحاجة لحركتين على أقل تقدير: الأولى، الدفاع عن عالمية تعددية مبدأها إمكان التواصل بعيدا عن إكراهات السلطة (في ظل الإصرار على خطاب السلطة لا يمكن التأسيس لتواصل). ثانيًا، الانخراط في حوار مع تراث عالمي غير “استعماري”، وبالتالي اختيار نوع الأدبيات التي تود التفاعل معها. فالتفاعل بحد ذاته مقولة، بعبارة أخرى، ما يهدفون لقيامه بالقول، يخسرونه بالفعل. أمر آخر، إن الخطاب المابعد-كولونيالي يرفض عمليًا الموقعية التي تتحدث منها (عالمية)، فهي تصر على الحديث عن أقطاب، في حين ما تقوم به أنت هنا هو رسم خطوط متوازية بين وضعيات، وبالتالي تتحدث عن صورة من صور التورط، لا تقع في أزمة الهوية القطب أو التعدد المختلف.
أما الحديث عن الحداثة بوصفها غير تعددية وغير خيرة فهي بحاجة إلى حوار آخر حول فكرة التعددية والأخلاق، وأتمنى أن نتحدث فيه مستقبلًا. وفي توصيفك للحداثة كمحافظة تعبير ممتاز عن الأزمة الأخيرة التي يعيشها خطاب الحداثة اليوم، خاصة في عالم لا تستطيع فيه الأحزاب “التقدمية” توفير سردية تقدمية صالحة للاستعمال.