عندما دعا الكاتب الإماراتي البارز سلطان القاسمي في عام 2013 إلى استحداث مسار جديد للحصول على الجنسية في الإمارات العربية المتحدة للمقيمين فيها ، قوبل مقاله برفض واسع من الرأي العام الذي تجلى استهجانه في هاشتاغ رائج معلناً فيه أن الـ”كاتب لا يمثلني”.
وفي يناير من العام الجاري أعلن رئيس الوزراء الإماراتي حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عبر منصة تويتر أن دولة الإمارات بصدد تحديث قوانين الجنسية ليتيسر للمستثمرين وذوي المواهب المتخصصة والمهنيين من العلماء والأطباء والمهندسين والفنانين والمؤلفين وعائلاتهم الحصول عليها . وأضاف رئيس الوزراء أن التعديل الجديد يهدف إلى “جذب المواهب التي تساهم في رحلة التنمية [لدولة الإمارات].” لكن على عكس الرفض الشديد الذي قوبل به طرح سلطان القاسمي عام 2013 ، لم يتبع إعلان رئيس الوزراء أي نقاش عام حول القانون المستحدث. غير أن الصمت العام لم يحجب التساؤلات حول الآثار المترتبة على تعديلات قانون الجنسية الجديد والتي تطرح تساؤلات أخرى حول قضايا “الهوية الوطنية” والتبعات المفترضة لتوسيع دائرة المواطنة في الدول الريعية.
تدور الفكرة الرئيسية لهذه المقالة حول الدوافع وراء التغييرات في قوانين الجنسية التي استحدثتها بعض دول الخليج ، والتي أجادل بأنها مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحولات ما بعد النفط التي تشهدها المنطقة. فمما لا شك فيه أن هذه التغييرات ستؤثر على العلاقة العضوية بين المواطن والدولة القائمة على الامتيازات والهرمية القبلية بحيث تتحول إلى علاقة نفعية قوامها “ماذا تقدم الدولة للفرد ، وماذا يقدم لها؟”
ما بين جنسية العقد الاجتماعي وجنسية العقد الاقتصادي
لا يخفى على المحللين المهتمين بدول الخليج الطبيعة الهرمية للمواطنة في المنطقة ، حيث تعد الفروق القبلية فضلاً عن الجغرافيا وزمن وجود السكان الأسبقين في كل دولة خليجية من أساسيات إقرار عضويتهم وانتسابهم الرسمي للدولة.
كما يرتكز النقاش حول المواطنة في دول الخليج على عضويتها الحصرية والمغلقة حيث يحصل المواطنون دون غيرهم من المقيمين على امتيازات ودعم حكومي سخي جراء الريع النفطي. إلا أن هذا الفهم المبسط لما تشكله المواطنة في منطقة الخليج أدى إلى تهميش وتقليص الفروقات بين الدول الخليجية ، الأمر الذي يثير في ضوء قوانين الجنسية الجديدة أسئلة متمايزة بشأن ما تنطوي عليه هذه التغييرات الجديدة في كل دولة خليجية على ولكل طبقة اجتماعية في تلك الدول المتباينة في التاريخ، والثقافات، والاقتصادات كذلك.
فعلى سبيل المثال ، عندما أعلنت المملكة العربية السعودية في نوفمبر من العام الجاري أنها ستمنح الجنسية للمغتربين “المتميزين” ، باشرت بالإعلان عن بعض أسماء مواطنيها الجدد واللذين تبين أن عددهم محدود نسبة إلى المواطنين وثقافتهم متجانسة، حيث إن المواطنين السعوديين الجدد جميعهم من أصول عربية وخلفيات مسلمة ، وهما اختلافان يحددان مسارها الاجتماعي الذي يتباين مع المسار الذي اتخذته دولة الإمارات العربية المتحدة ، ففي حين اختارت المملكة العربية السعودية منح الجنسية للمهنيين العرب والمسلمين مع التعددية الثقافية التي ترجع لتاريخ الحج الثري اجتماعيًا وثقافيًا ، فضلت الإمارات العربية المتحدة التحفظ على معظم أسماء مواطنيها الجدد الذين كُشف عن هوياتهم بشكل انتقائي من خلال وسائل الإعلام الوطنية ، واختار آخرون التعبير عن الفخر بالحصول على الجنسية الإماراتية عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي. ونُشرت صور جوازات مجموعة أخرى من مستحقي الجنسية عبر تطبيقات المراسلة الفورية ، ويتضح من أسمائهم غير العربية أن بعضهم من المحتمل أن يكونوا من غير المسلمين.
يجب النظر إلى تحديثات قوانين الجنسية في السياق الأوسع للإصلاحات الاجتماعية والقانونية التي تبنتها بعض دول الخليج والتي تصدرت من خلالها الإمارات والسعودية عناوين الصحف مؤخرًا. فاعتبارًا من يناير 2022 ، ستشرع الإمارات رسميًا بإقرار إصلاحات اجتماعية وقانونية كبرى كانت قد أعلنت عنها مسبقاً على فترات خلال الأشهر الماضية ، مع قيادة أبو ظبي للإصلاحات القانونية من خلال إدخال قوانين مدنية تُعنى بشؤون الأسرة والتي من شأنها أن تمكن القضاة غير المسلمين من معاينة القضايا المتعلقة بغير المسلمين. ومع أن هذه الإصلاحات قد فسرت في المقام الأول على أنها تدابير اتخذت لجذب المواهب الأجنبية إلا أن هناك عنصرًا مسكوتاً عنه يتعلق بمحاولات الحكومة لبرلة وعلمنة أنظمتها القانونية ليسهل في المستقبل دمج المواطنين الجدد غير المسلمين. ما تشترك فيه استحداثات الجنسية هذه في كل من الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية هو الحافز الاقتصادي وراء التحرك غير التقليدي لتجنيس المغتربين.
جنسية هرمية أم خاضعة للضريبة؟
إن الدافع إلى تنويع اقتصادات دول الخليج هو عنوان متكرر ، وهو بمثابة تذكير دوري بمستقبل ما بعد النفط الذي يلوح في الأفق. التغييرات التي طرأت في العقد الماضي على العقود الاجتماعية في بعض دول الخليج ربما تعتبر أكثر الأمثلة وضوحًا على التحولات المضطربة نحو اقتصادات ما بعد النفط. فبينما كانت المواطنة تتطلب في الماضي مجرد الإذعان والطاعة والولاء لقيادات الدول ، فإن إدخال التجنيد العسكري نص على واجب جديد على المواطن لم يقابله أي امتيازات إضافية. وبدلاً من ذلك ، كان على مواطني الخليج التكيف مع تضاؤل الامتيازات التي كانت تحقق في السابق دخلاً إضافيًا للأفراد وتحديداً من خلال نظام الكفالة. فمع إلغاء حاجة المستثمرين وأصحاب الأعمال لإيجاد من يكفلهم من المواطنين ، جفت الإيرادات الكبيرة التي تحققت من خلال الكفالة لمواطني الخليج الذين كان تسامح الكثير منهم تجاه تدفق العمال الأجانب بسبب المكافآت الاقتصادية التي تُجنى من العمالة الوافدة.
لكن بالنسبة لمواطني الخليج ، كان التوسع الانتقائي للدولة في عضويتها من خلال منح الجنسية للمواهب الأجنبية هو الأمر الأكثر إرباكًا. ففي حين يرى المواطنون في دول الخليج الأكثر ثراءً؛ الإمارات وقطر والكويت أن تجنيس المغتربين قد يؤدي إلى تقلص حجم الكعكة ، ترى الدولة أن المواطنين المتجنسين منتجون اقتصاديًا ومستقلون عن ريع الدولة لذا فهم أقل كلفة عليها عكس مواطني الخليج الذين توارثوا الجنسية ، فالمواطنون الجدد يختارون من قبل النخب الحاكمة تقديراً لتميزهم المهني الذي يدر على الدولة عوائد اقتصادية ضخمة ستعتمد عليها اقتصادات ما بعد النفط في الخليج بشكل متزايد. وبالتالي فإن تجنيسهم يهدف إلى تحفيز المواطنين على الاقتداء بمثالهم المنتج.
ومع أن كثيراً من مواطني الخليج يهتمون في المقام الأول بمدى حصول المواطنين المتجنسين على فرص متساوية في الامتيازات ، فمن المحتمل أن تكون مخاوفهم في غير محلها لأنهم يفترضون أن الجنسية الهرمية القائمة ستستمر على النحو ذاته من حيث مركزية القبيلة، إلا أن التسلسل الهرمي الجديد سيعتمد على المنفعة الاقتصادية التي ستستمدها الدولة من مواطنيها، والتي تحددها قدرة المواطن على دفع الضرائب والاستغناء عن الدعم الريعي للدولة.
من المستفيد من الجنسية الخليجية؟
ليست كل الجنسيات الخليجية متساوية، فبينما تهدف بعض الجنسيات الخليجية إلى توفير الاستقرار من خلال ضمان استمرارية الإقامة ، فإن غيرها – مثل جنسية الإمارات العربية المتحدة – توفر مزايا إضافية مثل السفر بدون تأشيرة إلى القارة الأوروبية وأجزاء كثيرة من العالم. قد يروق هذا الجانب لكثير من المستثمرين والأفراد الموهوبين ، وخاصة أولئك الذين ينحدرون من الشرق الأوسط أو دول أخرى ويشق عليهم الحصول على تأشيرات دخول إلى دول في نصف الكرة الغربي. لكن الجنسية الخليجية محفوفة بالمخاطر في قابلية سحبها. ولتبديد هذا القلق الذي قد ينتاب المواطنين الجدد ، فقد كسرت بعض دول الخليج التقليد الصارم ضد السماح لمواطنيها بحمل جنسيتين ، مؤكدين للمواطنين الجدد أنه يمكنهم الاحتفاظ بجنسياتهم الحالية. إن السماح للمواطنين المتجنسين بحمل جنسيات مزدوجة يشكل سابقة لتشكيل عقد اجتماعي مزدوج ، يمكن للمواطنين الجدد من الانسحاب منه إذا لم يعد عليهم بالفائدة المرجوة. سيتيح هذا العقد الاجتماعي المزدوج للمواطنين المتجنسين ميزة التنقل السياسي والاقتصادي الذي يفتقر إليه كثير من المواطنين الأسبقين بسبب القيود التي تفرضها الدولة التي تمنعهم قانونيًا من حمل جنسيتين. بالإضافة إلى ذلك ، فإن عقوداً طويلة من الدعم الوظيفي المقدم من الدولة وأنظمة التعليم التي هي دون المستوى فشلت في تهيئة أجيال من مواطني الخليج يتمتعون بمهارات وظيفية قابلة للتسويق دوليًا. هذه القيود تجعل المواطنين الأسبقين غير قادرين على الحركة اقتصاديًا خارج منطقة الخليج.
تتفاقم المعضلة الاقتصادية التي بدأ يستيقظ عليها المواطنون الخليجيون ببطء بسبب المنافسة المتزايدة التي يواجهونها في سوق العمل المحلي. يبدو أن الحل السريع لنفور المواطنين المتضورين من العمل في القطاع الخاص سيعالج بشكل متزايد من خلال “توطين الأفراد” بدلاً من “توطين الوظائف”. المواطنون المتجنسون ، وخاصة أولئك الذين احتفل بعضويتهم الجديدة عبر وسائل الإعلام المحلية ، يروج لهم أنهم أعضاء مَهَرة ومنتجون في المجتمع ، ساهموا في ازدهار الدول الخليجية التي يقيمون فيها. يشير التركيز على العمالة والمنفعة الاقتصادية إلى أنه لا يقييم جميع العمالة بالتساوي. فإن تجنيس المهنيين وأصحاب الياقات البيضاء المهرة هو انعكاس للتسلسل الهرمي العرقي والاقتصادي الذي تتمايز به منطقة الخليج. والواقع أن مواطني دول الخليج لم يخشوا وجود أعداد كبيرة من العمالة الوافدة من ذوي الدخل المحدود ، إذ لم يكن يُنظر إلى وجودهم على أنه تهديد ، ولا يتنافسون على نفس الوظائف التي يرغب فيها المواطنون. فعلى سبيل المثال ، لا يزال يهيمن العمال ذوو الأجور المنخفضة على قطاعي البناء والخدمات في دول الخليج والذين يؤدون – مثل العمالة المستوردة في بقية العالم – وظائف لا يرغب المواطنون في هذه الدول بالقيام بها ، لا سيما بعد انتشار التعليم الأساسي والتعليم العالي في هذه البلدان. ومن ناحية أخرى ، يُنظر إلى المغتربين الموهوبين بشكل متزايد على أنهم المنافسون المفضلون في سوق العمل ، وخاصة في القطاع الخاص. كما تكرر النظرية الأكثر شيوعًا افتراضًا يشير إلى أن القطاع الخاص يفضل العمالة الوافدة المهرة بسبب استعدادهم لتولي وظائف منخفضة الأجر مقارنة بالمواطنين “المُكلفين” نسبياً ، إلا أنه افتراض ضعيف الحجة لأن سوق العمل لم يعد هرميًا بالشكل الذي ينصّب المواطن الخليجي في أعلاه ، إلا أن تجنيس المغتربين كفيل بأن يضع هذه الحجة على المحك إذا اختار القطاع الخاص جذب المواطنين المتجنسين لملئ الحصص النسبية والاستفادة من الحوافز الحكومية.
ختاماً ، فإن منح الجنسية للأجانب خطوة طال انتظارها بالنسبة لكثير من الأفراد وهو أمر سيترتب عليه زيادة المرونة الاقتصادية لدول الخليج ، إلا أن التجنيس ليس الدواء الشافي للتحديات الاقتصادية التي توشك أن تطفح على خليج ما بعد النفط. قد تبدأ موجات المواطنين الجدد هذه في إثارة القلق والاستياء بين شرائح متعددة في المجتمعات الخليجية التي لا تزال تساؤلاتها بشأن تفاصيل الاستحداثات الجديدة معلقة دون إجابات وافية. كما أن ما يثير قلق كثير من المواطنين الأسبقين هو ما إذا كان سيتطلب من المواطنون المتجنسون أن يظهروا ولاءً متساوياً أو يؤدوا واجبات تجاه الدولة كالخدمة العسكرية ، أو أن يمتنعوا عن أداء الخدمة العسكرية في دول الجنسيات التي سيتمكنون من الاحتفاظ بها.