يتملّك الكثيرين -سواء في الغرب أو في عالمنا العربي- العجب من جدية ترشح رجل الأعمال دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية، وتمتعه بدعم شعبي واسع ضمن قواعد الحزب الجمهوري. ومصدر هذا التعجب يأتي في الغالب من تصور افتقاره لـ”الكاريزما الرئاسية” أو تضمن أنصاره لشرائح من “المتعلمين” أو أنه يفتقد لبرنامج سياسي جدي. هذا الاستنكار ربما يذكرنا بشعبية السيسي عقِب انقلاب يونيو التي حملت للكثيرين ذات الأسئلة. إن ما يسمى بـ”الشعبوية” هي مايجمع بين الظاهرتين والتي تعرف عموماً بأنها ادعاء تمثيل الشعب والناس العاديين بالأخص، ضد النخب وضد كل ما هو نخبوي. الشعبوية تسود المشهد السياسي في أمريكا الجنوبية الذي اكتسحه اليسار خلال العقدين الحالي والمنصرم، متمثلة في شخصيات كالرئيس البوليفي إيفو موراليس ورئيس فينزويلا الراحل هوغو تشافيز، كما تظهر بشكل قوي في رموز اليمين المتطرف في أوروبا في السنوات الأخيرة. إذا كانت الشعبوية تمثل ظاهرة نراها في كل مكان لكنها تظل كل مرة تلوح لنا كمفاجأة غير مفسرة في المجال السياسي، فكيف نفهمها إذن؟
ذات الحيرة العامة حيال الشعبوية سادت العلوم الاجتماعية التي أعطتها اهتماماً متواضعاً مقارنة بدراسة الحركات الاجتماعية أو الدولة أو الثورة وغيرها من الظواهر السياسية الرئيسية، لكن برزت في الآونة الأخيرة محاولة مهمة سأقوم باستعراضها لتساعدنا على رؤية الشعبوية بطريقة أفضل. يمكننا أن نفهم هذه المحاولة على أنها رد على ثلاث طرق لإساءة فهم الشعبوية تكمن في: (1) اعتبارها ظاهرة مرتبطة بالفرد صاحب الكاريزما وقدراته بتسخير موارد خطابية. (2) اعتبارها حالة كامنة في طبيعة “الجماهير” المستغفلة التي تكون دائماً عرضة للفوران والتحشيد اللاعقلاني. (3) اعتبارها مجرد انعكاس حتمي وغير واعي لأزمة سياسية أو مظالم اقتصادية لطبقة اجتماعية معينة. الفهم البديل الذي يطرحه روبرت جانسن هو أن ننظر للشعبوية على أنها ممارسة سياسية أو استراتيجية تعبئة سياسية عقلانية وليست مجرد جماهير مغفّلة أو هوس بكاريزما معينة كما سأوضح.
تفسيرات قاصرة للشعبوية:
محاولات فهم الشعبوية التي سادت في سبعينات القرن الماضي اختزلت الشعبوية -التي برزت في بعض الدول المتحررة حديثاً من الاستعمار ودول أمريكا اللاتينية- في أزمة طبقية. فالشعبوية -وفقاً للتحليل الماركسي- هي وعي مزيف “للجماهير” (masses) المسحوقة وغير المنظمة التي استطاع قطاع طامح من النخب الصعود للحكم عبر التحالف معها. فحكم جمال عبدالناصر الشعبوي ليس إلا انعكاس للوضع الطبقي الذي كانت مصر تقبع تحته بعد زوال الاستعمار، حيث الجماهير غير المنظمة متحفزة للتحالف الشعبوي مع القيادة المعادية للنخب الارستقراطية آنذاك. خصوم الماركسيين من أتباع مايعرف بنظرية التحديث اعتبروا أن الشعبوية أتت كنتيجة لفشل محاولات التحديث -أي بشكل أساسي محاولة التحول لاقتصاد صناعي “حديث”- التي خلقت احتقاناً اقتصادياً وسياسياً تجلّى على شكل حركة معادية للنخب. إن الذي يجمع بين النظرتين الغريمتين هنا أكثر مما يفرق: فكلتاهما تعتبران الشعبوية “مرحلة تطورية” أي تفترضان أنها تظهر في مرحلة انتقالية لمصير محتوم تسلكه المجتمعات من شكلها الزراعي “التقليدي” حتى تصل في نهاية المطاف إلى الشكل الرأسمالي الأوروبي، وأن الشعبوية حالة عرضية لا تؤخذ بجدية، طالما أنها مجرد عرض لآلام مخاض هذا التحول في الاقتصاد السياسي. سينظر أصحاب هذه النظرة -أو ما يعرف بالتفسير البنيوي- للسيسي أو ترامب في أنهما طفح حتمي لأزمات اقتصادية تمر بها الدولتين، ستزول فاعليته بمجرد تغير الحالة الاقتصادية.
تقتصر وجهة النظر البنيوية هذه لأن تعطي تفسيراً لعودة ظهور الشعبوية ليس في أمريكا اللاتينية فحسب بل حتى في قلب أوروبا الرأسمالية “المتقدمة” صناعيًا. إنها في الحقيقة تختزل الشعبوية في غيرها من الظواهر دون محاولة النظر إلى آلياتها الداخلية وكيف تعمل؛ وهو ماحاوله بعض الدارسين في نقدهم للنظرة البنيوية حين تعاملوا مع الشعبوية كخطاب، أي كمجموعة من الأفكار السائدة التي تحكم السلوك السياسي لدى شريحة كبيرة من المواطنين تدفعهم إلى دعم الزعماء الشعبويين. لكن، في حين أن تحليل الشعبوية كمجرد خطاب أو أفكار تمكن من تقديم الكثير حول المكونات الأساسية للخطاب الشعبوي، إلا أن هذا التعاطي لا يشرح كيف تنتشر هذه الأفكار وتؤثر في المجال السياسي، أو لماذا يحدث ذلك في لحظة معينة. وهو الأمر الذي ركزت عليه وجهة نظر تزعم أن الشعبوية خللاً مؤسساتياً ، أي أنها ليست إلا فشل المؤسسات السياسية في احتواء بعض شرائح المجتمع، مايقودها إلى تصعيد حراك شعبوي يأتي من خارج المؤسسات (كالأحزاب والمجالس التمثيلية) حنقاً على النخب. المشكلة في هذه النظرة أنها غير قادرة على تقديم أي إجابة حول وجود أحزاب أو فاعلين داخل مؤسسة الحكم يتمثلون الظاهرة الشعبوية، كأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا أو القيادة البوليفية التي وظفت الشعبوية بعد وصولها للحكم بانقلاب العام 1944 الأمر الذي تكرر في مصر الناصرية.
الشعبوية كممارسة سياسية:
لتجاوز كل هذه الإشكاليات في فهم الشعبوية يقترح جانسن أن نفهمها على أنها ممارسة سياسية والذي يعني أن نفهم الشعبوية كصفة لا تُنسب للزعماء الذين يجسدونها ولا للشعوب بل تنسب لنمط معين من التعبئة السياسية. هذه التعبئة ذات السمة الشعبوية هي عملية مقصودة لنشر أفكار شعبوية وبناء قاعدة منظمة لها. القائد -من خلال هذه النظرة- ليس هو الذي يخلق الدعم بل يصعد – جزئياً على الأقل- عليه، كما أن الشعب ليس طرفاً مدفوعاً بحمى غير عقلانية، بل قطاعات تم تفعيلها سياسياً تماماً كما يحدث في أي حركة اجتماعية تقوم بحشد التأييد وكسب الأنصار. بتعريف الشعبوية كاستراتيجية أو ممارسة عوضاً عن أن تكون صفة لشيء ما (فرد، شعب، مؤسسة …الخ) فانه أيضاً يخرجنا من مأزق البحث عن أحكام جوهرانية للشعبوية، الذي طالما أربك الدراسات السابقة. فبالإمكان أن تكون الشعبوية يمينية أو يسارية، عسكرية أو مدنية، “تقدمية أو رجعية”، ديموقراطية أو سلطوية، ريفية أو حضرية، دون أن تكون بالضرورة مصاحبة لنوع واحد من الفاعلين طالما أنها آلية ستتمكن أي قوة من توظيفها في ظروف معينة. يعرف جانسن التعبئة الشعبوية بدقة من هذا المنطلق على أنها: “أي مشروع سياسي مستدام وواسع النطاق يقوم بتعبئة قطاعات اجتماعية مهمّشة عادة، لتصبح مرئية في المجال العام ومنخرطة في فعل سياسي تدافعي في الوقت الذي يطور فيه لغة وشعارات قومية ومعادية للنخب تمجّد الناس العاديين.” فهي إذن تستند على ثلاث عناصر: (1) مشروع سياسي عقلاني يعتمد على تعبئة وحشد (2) يستهدف تفعيل أناس غير مهتمين عادة بالشأن العام (3) يتبنى شعارات تضع “الناس” والأمة في مقابل النخب.
مالذي نستنتجه من فهم الشعبوية وفق هذه الرؤية عندما ننظر إلى حالات معاصرة كالسيسي وترامب؟ ألا نستخف بالقاعدة الداعمة للمشروع الشعبوي باعتبارها مكونة من مجرد غوغاء أو مستغفلين سينفضون سريعاً، وأن نرعي الانتباه للمكَنة السياسية التي تقوم بصناعة هذه القاعدة الجديدة من خلال توظيف أموال وخطاب مناسب، وشبكات من المتطوعين الملتزمين وفي بعض الحالات مؤسسات تسند هذا المشروع. إن نجاح السيسي إذن -في اللحظة الأولى بالطبع- يفهم على أنه حصيلة تعبئة ممنهجة استندت على موارد من جيوب الثورة المضادة لصناعة الخطاب والحشد له. إنه من المهم الانتباه أيضاً للمدى الذي استهدفت فيه هذه التعبئة الشرائح المنسحبة عادة من الشأن العام أو ما يعرف في السياق الدارج بـ”حزب الكنبة”. وإن هذا الفهم للشعبوية يعتريه بعض القصور في حالة السيسي (في غياب زخم التصعيد ضد النخب)، إلا أنها تستكمل كل أركانها في حالة ترامب الذي يرتكز تقديمه لنفسه على أنه من خارج المؤسسة وأنه خصم للنخب، نخب الحزب الجمهوري ونخب واشنطن “الفاسدين”.
ليس مهماً إذن أن نرصد الانطباعات حول مدى جاذبية شخصيات كالسيسي وترامب -الشخصيات التي تثير السخرية في كثير من الأوساط- ومؤهلاتهم الكاريزماتية كقادة لنقيّم إمكانية النجاح أو الفشل لمشاريعهم الشعبوية، فقوة الشعبوية تكمن في جسدها التعبوي وخطابها المميز اللذان يوسعان المجال السياسي بإدخال قطاعات غير مسيسة مسبقاً. إن اعتبار الشعبوية “استراتيجية” يساعدنا على أن ندرك أن هذه الظواهر تتجاوز متطلبات الكاريزما والفرد التي تتجسد فيه، كما أن صعودها يعني نجاحاً في الوصول إلى أعماق للشعب غير مرئية سياسياً في العادة، والتي عوضاً أن ننسب لها استجابة مفاجئة وغير عقلانية علينا أن ندرك أنها مخزون سياسي -كأي شريحة اجتماعية أخرى- قابل للتعبئة عبر خطاب ومجهود حشدي يتطلب تعبئة مقابلة مقنعة ومحسوبة إذا كانت الغاية مواجهة المشروع الشعبوي.
والله حرام تقارن عسكري ما يقدر يركب جملتين على بعض بدونالد ترامب
ياخي عليكم فلسفة عجيبة شعبوية نخبوية ميتافيزيقية…سؤالي يا عزيزي هل انتم تكتبون لجهات اكاديمية ولا للشعوب العربية الجاهلة اللي امثال السيسي راكبينها
ياخي خلوكم بسيطين
أتفق حرفيا مع الأخ الكريم محمد حسن ..
حتى المطلع يصعب عليه فهم المقالات المكتوبة بهذه اللغة