ساد خلال الأسابيع القليلة الماضية الترقب لتغييرات اقتصادية هيلكية تعتزم دول مجلس التعاون الخليجي القيام بها تشمل خصخصة ورفع للدعم عن الطاقة والسلع وفرض ضرائب. يأتي هذا بعد أن تناقلت وسائل الإعلام الأجنبية تسريبات أو تصريحات عن نية صناع القرار في دول المجلس اتخاذ هذا المسار على خلفية انهيار أسعار النفط التي وصلت إلى ما دون الأربعين دولار للبرميل مطلع الشهر. كان من أبرز هذه التقارير مقالة الصحفي توماس فريدمان في نيويورك تايمز “رسالة من السعودية” ينقل فيها عن مسؤوليين سعوديين رفيعي المستوى حديثاً عن طموحات لإصلاحات اقتصادية و-في ذات السياق- فتح الباب لمشاركة سياسية أوسع.
وبالفعل ، عكست ميزانيات الحكومات للسنة الجديدة شيئا مما تم تداوله تمثل في خفض للدعم الحكومي ، ولم يخلو تناول رفع الدعم هذا من التساؤل حول الأبعاد السياسية التي بلغ إلى أن وصفتها الفاينانشال تايمز بـ”الإصلاح الجذري للعقد الإجتماعي بين المواطنين والأسرة الحاكمة” ، فقد اكتسبت مناقشة أي أثار سياسية محتملة لهذا المسار من السياسيات الاقتصادية حضورا ملحاً. تحديدا في السؤال الذي يطرحه البعض: هل ستدفع خطوة مثل فرض ضرائب إلى مشاركة سياسية وتحول جوهري في الأنظمة السياسية في الخليج؟ في ٢٠٠٩ ذات الصحفي توماس فريدمان أجاب على السؤال بشكل قطعي في مقال عنون بـ”القانون الأول للسياسة البترولية” أن “سعر النفط والخطو نحو الحرية يسيران دائما في اتجاهين معاكسين في الدول البترولية” ، المقال المليء بالأحكام الجاهزة يعبر عن تصور سائد يتبع المقولة الكلاسيكية “لا ضرائب من غير تمثيل” في صيغتها المقلوبة بشكل حرفي.
هل هناك علاقة بين مستوى الثروة النفطية المتوفرة لدولة ما وبين النظام السياسي لها؟ في البحث عن اجابة أكثر دقة لهذا السؤال نجد كما كبيرا من الدراسات المتراكمة التي حاولت استخدام أدوات منهجية لقياس وفهم هذه العلاقة المفترضة تأتي ضمن أدبيات ما يعرف ب”لعنة الموارد” في الإشارة إلى أن الثروة الناتجة من الموارد الطبيعية القابلة للتصدير كالمعادن والنفط وغيرها لها آثار مدمرة على الاقتصاد والنظام السياسي للدولة فهي تعيق القدرة على تطوير اقتصاد انتاجي وتشجع الاستبداد والفساد بالإضافة إلى ارتباط وفرتها بالحروب الأهلية. لم تخرج الدراسات التي تناولت النفط في الشرق الأوسط عن هذه الثيمة السلبية غير أنها طورت مفهموما مهماً يشرح الارتباط بين الثروة النفطية وعلاقة الدولة بالمجتمع يعرف ب”نظرية الدولة الريعية.”
في سبعينات وثمانينات القرن الماضي وضع كل من حسين مهدوي و حازم ببلاوي وجياكومو لوتشياني الإطار الكلاسيكي لمصطلح الدولة الريعية. السمة المركزية لهذه الدولة هي أنها مستقلة بشكل تام عن المجتمع ؛ فالموارد التي تحصل عليها من الريع الخارجي (ايرادات النفط) تجعلها مستغنية عن تحصيل أي موارد (على شكل ضرائب) ممن تحكمهم ، علاوة على ذلك تمكنها هذه الموارد الخارجية من تأمين ولاء المحكومين عبر الإنفاق العام فهي ليست دولة إنتاج بل مجرد دولة توزيع حصص. يؤكد الواضعون الأوائل للفكرة أنه في دولة مثل هذه محصنة تماما من أي مساومات سياسية مع رعاياها يستحيل تماما ظهور الديموقراطية. المزيد من الثروة النفطية يعني مشاركة سياسية أقل؛ الأطروحة التي دعمها لاحقا عالم السياسة مايكل روس عبر مسح كمي شمل ١١٣ دولة ، حيث وجد اقتران سلبي بين مستوى الثروة النفطية وبين مستوى الدمقرطة عبر ثلاث ارتباطات سببية: وفرة النفط لدى الدولة يدفعها لفرض ضرائب أقل ولانفاق أعلى على قدراتها العسكرية وبالتالي قابلية أعلى على الاستبداد بالإضافة إلى أن الإقتصاد الريعي يخفض معدلات توظيف المواطنين في القطاعات الصناعية والخدمية وبالتالي احتمالية أقل لمشاركتهم في الدفع باتجاه الديموقراطية ، ليقرر روس في خاتمة بحثه أن “النفط بالفعل يضر الديموقراطية” أينما وجد.
غير أن هذه النظرة الحتمية لعلاقة الثروة النفطية بالمشاركة السياسية لم تصمد كثيراً أمام نقودات متنوعة سعت بشكل أساسي لتطوير النظرية لا لنقضها. النظرية في ثوبها الكلاسيكي ، كما تجادل هذه المجموعة من الباحثين ، تختزل تعقيد الواقع السياسي إلى علاقة سببية بسيطة تحتم ظهور نظام سياسي محدد تبعاً لمستوى معين من الصادرات النفطية. مايكل هيرب قام بإعادة تصميم المسح الكمي الذي أجراه روس مع الأخذ في الحسبان المستوى التنموي للدول النفطية فيما لو استثني دخل النفط في النموذج الإحصائي ليجد أن غياب المشاركة السياسية يمكن أن يفسر بشكل أفضل بالعامل التنموي في حين يتضاءل أثر عامل الثروة النفطية. غير أن هيرب لا يخلص إلى رفض أطروحة نظرية الدولة الريعية بل إلى ملاحظة أن تأثير الموارد النفطية على شكل النظام السياسي غير متسق وغير دائم الحدوث ، ولذلك ينبغي النظر إلى دروه عبر تفاعله مع عوامل مختلفة تحكم تأثيره من حالة إلى أخرى.
باحثان آخران يضيفان المزيد من الشكوك في العلاقة بين دخل النفط والاستبداد ، حيث وجد ويمنق لوي وباول مسقرايف أنه باستثناء دول الخليج فإن الارتباط الاحصائي بين الوفرة النفطية والاستبداد محدود ، فلم ينطبق على سبيل المثال نموذج أنصار نظرية الدولة الريعية على نيجيريا بينما بدت حالة نيكاراغوا أكثر ديمقراطية من توقعات نموذجهم. محاولات احصائية حديثة أخرى ذهبت إلى أبعد من ذلك، إذ وجد عالما السياسة ستيفن هابر وفيكتور مينالدو أن اعتماد الدولة على مورد طبيعي لا علاقة له بالاستبداد على المدى البعيد ، ففي دراستهم لـ ٥٢ دولة تعتمد على مورد طبيعي -من ضمنها الدول النفطية- على مدى تاريخي أوسع مما تضمنته الدراسات السابقة وجد الباحثان أن الاعتماد على مورد طبيعي يقود الأقلية فقط من الدول إلى المزيد من الاستبداد بينما لا تأثير له في أغلب الحالات. المفاجيء أكثر هو أنهم لاحظوا أن قطاع من الحالات المدروسة عكس علاقة ايجابية بين توافر الثروة الريعية وبين اتجاه النظام إلى الديمقراطية. النتيجة ذاتها التي سبق لثاد داننق الإشارة إليها فيما يخص حالتي تشيلي وفنزويلا في كتابه “الديموقراطية الخام” ، إذ يبين فيه أن أثر النفط على النظام السياسي يتراوح مابين الإيجابي والسلبي (باعتبار أن الديمقراطية هي المعيار هنا) حسب عوامل وسيطة تحدد هذا الأثر.
البحث عن هذه العوامل الوسيطة التي تحدد أثر الثروة النفطية على النظام السياسي هو ما قامت به عدد من الدراسات التي تناولت حالات معينة بشكل متعمق. من أهم هذه المحاولات النقدية لفهم تعقيد أثر النفط هي تلك التي تأخذ في عين الإعتبار السياق التاريخي الأوسع لحالات الدول كل على حدة. التاريخ ، بالنسبة لأصحاب النظرية الريعية الكلاسيكية ، يبدأ من ظهور النفط ، كل ما سبق ذلك غير ذي علاقة. عدد من الدراسات أظهر الدور الكبير الذي يلعبه تاريخ ما قبل النفط في تحديد أثر البترودولار على الواقع السياسي. على سبيل المثال ، تتبعت جيل كريستال علاقات تاريخية متباينة بين تحالفات النخب ساهم النفط في تشكيلها في كل من الكويت وقطر لتفسر الإختلاف في النظام السياسي. وبشكل مشابه أبرز مايكل هيرب مفارقة أن المشاركة السياسية في الحالة الكويتية دعمت الإعتماد على النفط مقابل تنويع الإقتصاد ، فيما ظلت الإمارات ذات الاقتصاد المتنوع نسبيا دون أي مشاركة سياسية. يفسر هيرب ذلك بغياب التمايز والصراع بين طبقة رأسماليين وطبقة عمال عادة ما ترتبط بظهور الديموقراطية الرأسمالية ، فالعلاقة إذن بين الثروة النفطية والمشاركة السياسية ليست مباشرة إنما تعبر خلال التكوين الطبقي للمجتمع.
لم تكتف هذه المحاولات بنقد الفهم السائد لعلاقة النفط بالاستبداد من خلال إبراز الفروقات بين حالتين مختلفتين بل بالكشف عن النتائج المتناقضة التي يخلقها الاعتماد على النفط في الحالة الواحدة ، كالدور الغير متوقع الذي تلعبه الثروة النفطية كمورد للمعارضة السياسية ، وهو ما بينته جوين أكرولك في الحالة السعودية ، إذ استخدمت الحركة الإسلامية المعروفة ب”الصحوة” في الثمانينات مؤسسات عامة لبناء حركة سياسية عريضة تصدر قطاع منها للإحتجاج السياسي المباشر في تسعينات القرن الماضي. نظرية الدولة الريعية الكلاسيكية حسب أكرولك تتعامى تماما عن خيارات الفاعلين المتلقين للريع الموزع وتفترض سلوك موحد ومحدد مسبقاً خلال معطيات اقتصادية صرفة. هذا السلوك الموحد المفترض انتُقِد أيضا على مستوى أداء المؤسسات في أحد أهم الدراسات التي تكشف تناقض وتعقيد أثر الثروة النفطية ، حيث يجادل ستيفن هيرتوغ في دراسته للحالة السعودية أن النفط لا يستوجب مؤسسات عامة فاشلة -كما تتنبأ نظرية الدولة الريعية- بل يعبر تأثيره خلال شبكات من النفوذ تقود إلى جزر معزولة من المؤسسات ذات الكفاءة إلى جانب مؤسسات اخرى مخفقة. الطفرة النفطية في نموذجه هذا لا تعمل في الفراغ ولا تقوم بخلق نظام محدد ، إنما تتفاعل مع البنى الموجودة لتعطينا نتائج متباينة في واقع معقد.
ما الذي تقوله هذه الدراسات في الإجابة عن السؤال المطروح هنا؟ أنها لا تعطنا جوابا موحدا عن دور سببي آلي لأسعار النفط في وجود مشاركة سياسية من عدمه. إنها تأخذنا بعيداً عن الصيغة التبسيطية التي اتسمت بها نظرية الدولة الريعية في شكلها الأوليّ والتي يبشر من خلالها البعض باستنتاجات كبرى كعقد اجتماعي جديد ينتظر دول المجلس. إن التغير الحاد في أسعار النفط -كما يتفق هذا الطيف من الدراسات التي لا زالت تقر بدور ما يلعبه هذا المورد الطبيعي في بنية الدول وسياساتها- سيكون لها تأثير مهم. غير أن هذا التأثير سيفهم بشكل أفضل باستحضار عوامل متعددة كالتاريخ السياسي الخاص بكل حالة ووجود حركة اجتماعية نشطة من عدمه أو التكوين الطبقي وتحالفات النخب في اللحظة الراهنة. الإستنتاجات الإقتصادية الحتمية كتلك التي أصدرها فريدمان قد تقودنا إلى تقييمات وأحكام غير دقيقة ببساطة أنها تأخذ أبصارنا إلى نموذج نظري مرتب وجذاب بعيداً عن معطيات الواقع المتشابكة.
مقال راقي ورصين قدم للقاريء لمحة أكاديمية سريعة بلغة خفيفة عن علاقة النفط بالديمقراطية…شكرا على المقال وشكرا على مبادرة الموقع… الاستمرارية في العطاء والاستمرار في نشر المعرفة هو ما نطمح إليه فلا تتوقفوا..
مقال رائع ومفيد. شكراً لكم ونطلب المزيد