يتناقص بشكل ظاهر أعداد الكفاءات والمواهب التي كانت أحد المحركات الرئيسة في عملية التنمية في دولة الإمارات العربية المتحدة والتي حصدت ثمارها في العقود السابقة، وهذا من أبرز التغيرات الطارئة على المحيط الأكاديمي. أدت مرحلة النكوص الاجتماعي والأمني التي أعقبت أحداث الربيع العربي وتداعياته المحلية إلى نزوح العديد من الكفاءات -المتأثرة بشكل مباشر من تقلص دائرة الحريات- إلى دول أخرى، واستفادت دول الجوار بشكل كبير من نزوح هذه الكفاءات ذات الطبيعة دائمة التنقل بحثًا عن بيئة حاضنة ومحفزة.
اتبعت الحكومة طريقتين لحل مشكلة تناقص الموهبين: الأولى تأسيس نظام تعليم مزدوج، والثانية خلق بيئة إبداعية لجذب الموهبين، إلا أن هاتين الطريقتين فشلتا في تحقيق غايتهما، وذلك لأنهما لم تعالجا جذر المسألة، وهي المقاربة الأمنية للمجال الإبداعي والأكاديمي والفكري. إن حل هذه المشكلة الجوهرية يكمن في تحرير هذه المجالات من القيود الأمنية، فالإبداع والفكر لا يزدهران في بيئة أمنية مشددة بل في بيئة حرة ومفتوحة.
الحل الأول: نظام التعليم المزدوج في الإمارات العربية المتحدة
تطبق دولة الإمارات العربية المتحدة نظامًا مزدوجًا في قطاع التعليم العام والتعليم العالي. فمن جهة، هناك التعليم العالي المجاني الذي تقدمه الجامعات الاتحادية مثل جامعة الإمارات و جامعة زايد، وهو حصري على الطلبة الإماراتيين. ومقابل ذلك؛ توجد جامعات خاصة تفتح أبوابها لجميع الطلبة المقتدرين على دفع الرسوم، والمثال الأشهر هو الجامعة الأمريكية في الشارقة حيث تقدر قيمة الرسوم السنوية للدراسة فيها بـ 28،000 دولار.
نتج عن هذا النظام المزدوج للتعليم العالي انقسام طبقي، ليس بين من يملكون الثروة ومن لا يملكونها، وإنما بين أولئك الذين حظوا بمستوى تعليمي مميز ومن حرموا ذلك. أنتج هذا النظام المزدوج واقعا يزدري ويقلل من شأن خريجي الجامعات الاتحادية لصالح الحاصلين على شهادات من جامعات خاصة أو خارجية، وأدى هذا إلى تزايد المخاوف وتفشيها بين الشباب الإماراتي من الآفاق القاتمة بعد تخرجهم لاسيما بعد تفاقم أزمة العطالة في الآونة الأخيرة، لذا يعج موقع تويتر بين الحين والآخر بالإماراتيين المتضررين والساخطين من العطالة وثار جدلٌ وطنيٌ واسعٌ حول تخلف عملية التوطين وعما إذا كانت هذه الاستراتيجية معمول بها حقيقة، إلا أن النقاش في الواقع يجب أن يتسع لمعالجة ما هو أكثر من مجرد أزمة عطالة.
فاقم من حدّة التباين في مخرجات هذين النوعين من الجامعات المنعطف الأمني الذي عُممَ مؤخرا في الجامعات الحكومية لتتحول إلى فضاءات فكريًة خاضعة للسطوة الأمنية لا مجال لتداول وجهات النظر المختلفة والمتعارضة فيها. كان لهذا التحول الأمني تبعات سلبية، فلم يقتصر تأثيره على الحدّ من قدرة أعضاء الهيئة التدريسية على أداء عملهم الأكاديمي وفقًا للمعايير العالمية التي تطمح الدولة أن تتصدرها بل أثبط هذا التحولُ النهجَ التعليمي الذي ينبغي أن يسلكه الطالب ليتعلم مهاراتٍ عدة كالاطلاع على المعارف المختلفة وتأملها بشكل نقدي بحيث يتسلح الطالب بالمفاهيم والمصطلحات الممكنة له من الاشتباك مع الأفكار والنظريات المختلفة ومعالجتها للاستفادة منها أو الإضافة إليها أو تكييفها بما يتناسب مع سياقنا المحلي أو حتى دحضها، إلا أن الطالب في الجامعة الحكومية قد حُرم من تعلم هذه المهارات كونها تتطلب وجود مساحة منفتحة لا ثكنة عسكرية وهو ما آلت إليه تلك المؤسسات.
برزت آثار هذا التوجه الأمني خلال السنوات الماضية بعد تخرج عدة دفعات من الجامعيين الذين تبين أنهم يفتقدون لهذه المهارات الأساسية. وقد تجلى هذا الأمر بشكل صارخ حين أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس مجلس الوزراء حاكم إمارة دبي، في شهر فبراير من العام 2016 عبر تغريدة على منصة تويتر عملية بحث محلية عن خريج إماراتي تحت سن الـ 25 لينضم إلى الحكومة ويشغل منصب وزير شؤون الشباب. دُعيت الجامعات في دولة الإمارات إلى ترشيح ستة شبان – ثلاثة إناث وثلاث ذكور – من كل جامعة لاختيار الوزير الجديد من بينهم. تبع هذا الإعلان كثير من الترقب الذي ما لبث أن انكمش وتلاشى عندما صدر قرار بتعيين الوزير المنشود، فبعد أسبوع واحد فقط من إطلاق عملية البحث، وقع الاختيار على شابة متميزة، تحمل درجات علمية من جامعات عالمية رفيعة المستوى، ومع أن الوزيرة الشابة بدت خياراً راجحاً إلا أن اختيارها مثّل خيبة أمل في أوساط فئة الشباب والفتيات من خريجي الجامعات الحكومية. يرجع السبب في ذلك كون المرشحة المختارة قد تلقّت تعليمها في فرع جامعة عالمية من جامعات النخبة في البلاد، ثم تابعت تحصيلها العالي للحصول على الماجستير في جامعة مرموقة أخرى في الخارج وهما الأمران – الدراسة في جامعة خاصة محلية و الدراسة في الخارج – اللذان قد لا يتسنى نيلهما لكثير من الإماراتيين، وذلك إما لأسباب مادية أو لظروف اجتماعية قد تحد بشكل خاص من خيارات النساء. إلا أن لاختيار شابة قد تلقت تعليمها تحت أنظمة غير حكومية دلالات عديدة، أهمها أن الدولة تدرك تمامًا موضع القصور في النظام التعليمي الحكومي ومالاته.
الحل الثاني: خلق بيئة جاذبة للإبداع
أجرت دولة الإمارات في العام الماضي جملةً من الإصلاحات الاجتماعية والقانونية وذلك بهدف جعل البلاد أكثر جاذبية للأغلبية الوافدة من سكانها ولرفع مؤشراتها العالمية بالإضافة لرغبتها باستقطاب المواهب والكفاءات التي تفترض الدولة أنها تُفضل العيش في المجتمعات المنفتحة اجتماعيًا. جاءت هذه الإصلاحات بعد عام صعب شهد نزوحاً للكثيرين بسبب فقدانهم وظائفهم، وهو الأمر الذي ارتبط بتداعيات جائحة كورونا. أثارت تلك الاصلاحات -الموصوفة بالميول العلمانية– الجدلَ بين الإماراتيين الذين باتوا يشعرون بغربة كبيرة في وطنهم. إلا أن القرار الذي أثار استياء كثيرين جاء في الإعلان الأهم لهذا العام عن منح الدولة الجنسية للمغتربين الموهوبين.
إن تركيز الدولة على جذب المواهب الأجنبية أدى إلى طرح بعض الأسئلة المحيرة المتعلقة بنظام التعليم والبيئة الإبداعية في البلاد، فالدولة تنظر إلى جذب المواهب بوصفه حلاً سريعاً للعجز المفترض في الكفاءات المهنية، ووسيلة لتعزيز خطط التنويع الاقتصادي لتسهيل الانتقال إلى حقبة ما بعد النفط. بالمقابل، يستشعر الإماراتيون قلقاً إزاء هذا التوجه لما يتضمنه من حتمية استبعادهم عن سوق العمل، وهو ما يشعرون أنه يمثل تحدياً بالنسبة لهم، فسيتعين على الإماراتيين الآن مواجهة تحديين في آنٍ واحد: منافسة المواهب الأجنبية، والمواهب المُجنّسة.
ومع المناشدة المستمرة لتفعيل القوانين المتعلقة بالتوطين المُعدّلة مؤخرًا بحيث تلغي التمييز في التوظيف لصالح المواطن، إلا أن التوطين كذلك – ولو عُمِل به – قد لا يسد فجوة المواهب التي تتصورها الدولة. فهناك نوع معين من المواهب ترغب الدولة في استقطابها، وهي تلك المواهب المصقولة خارج حدود الدولة وقيودها ومحظوراتها، فالمواهب لا يمكن أن تُعزز إلا في بيئةٍ مواتية للتعلم والابتكار والإبداع، وهي تلك البيئةٍ التي ليس لأي دولة عربية القدرة في الوقت الحالي على توفيرها.
تكمن معضلة الدول الباذلة جهدها لاستقطاب الكفاءات والمترددة في تنميتها محليًا في كونها تنظر لهذه البيئة التي تتطلبها المواهب والكفاءات الناشئة على أنها بيئة فوضوية ومعادية للسلطة وتخل بالأمن العام، مما يدفع هذه الدول أن تبحث عن سُبل أخرى للاستفادة من الكفاءات العابرة التي بات يُنظر إليها كأي سلعة يمكن تداولها واستبدالها في السوق العالمية، لكنْ هناك نقاط عمياء في هذا التصور وهو ما يحد من قدرة دول منطقة الخليج بشكل عام من تحقيق خططهم الاستراتيجية المرسومة في رؤى طموحة تتطلب مرونة سياسية واجتماعية تفوق ما تسخره دول الرؤى تلك من عزيمة جادة وإصلاحات مدنية أساسية لتحقيق تلك الاستراتيجيات.
تتسم لغة القوانين الجنائية في دول الرؤى ومن بينها دولة الإمارات العربية المتحدة بالغموض لا سيما تلك المتعلقة بالجرائم الفكرية والإلكترونية حيث يصبح التعبير – وليس الفعل – هو العمل المُجرّم، فقد يُتهم المرء بالترويج للإشاعات المثيرة للجدل والمخلة بالأمن العام إن كانت نتائج العمل البحثي لا تتفق مع الرواية الرسمية للدولة، كإحصاءات العطالة على سبيل المثال أو تأثير قطاع الانشاءات على البيئة واستدامتها، ومع هذه التحديات؛ تفترض دول الرؤى أنها تستطيع أن تستورد الكفاءات الجاهزة التي بإمكانها أن توظف مهاراتها المتقدمة في دعم استمرارية عملية التنمية المستدامة بعيدًا عن قطاع النفط، إلا أن هذه الافتراضات لن تلبث أن تصطدم بوقائع وعقبات متداخلة لا يمكن أن تتخطاها دول المنطقة دون أن تعيد النظر في معطيات خطط استقطاب الكفاءات واستبقائها.
جذر المشكلة: استباق التحول وادارته
لا بُدّ لدول الخليج العربي من أن تستبق الأحداث كي تتمكن من إدارة التحولات بدلاً من التعامل مع تبعاتها ونتائجها. ويتطلب استشراف المستقبل نوعًا من البراغماتية والمرونة الفكرية بحيث تخرج تلك الدول من اطار التفاعل الأمني والوقائي مع التغيرات إلى نموذج الاحتواء والإدارة الفعالة، وهو أسلوب حوكمة اعتمدته إمارة دبي في فترة وجيزة شهدت ذروة ازدهارها الاقتصادي.
جعلت بعض الدول من الجامعات الخاصة مساحات فقاعية توفر هامشًا بسيطًا من الحريات الفكرية استطاعت أن تُخرّج دفعات أكثر قدرة على مواءمة متطلبات سوق العمل المحلي مع حجمها المتواضع نسبيًا. إضافةً لذلك، فإن مهارات خريجي تلك الجامعات الخاصة قد مكنتهم من الالتحاق بجامعات عالمية أخرى استطاعوا من خلالها أن ينالوا شهاداتٍ عليا مثل وزيرة الدولة لشؤون الشباب في الإمارات، إلا أن هذه الفقاعات ليست بالحل المستدام، فهي توسع فجوة الطبقية الاجتماعية التي ستنتج على إثرها فروقات اقتصادية بين منتسبي الجامعات الخاصة والحكومية، مما سيؤدي إلى تخلف العديد من الطاقات البشرية عن ركب التحول الاقتصادي المستدام. هناك أسباب عديدة تدعو لأن نعيد النظر في النظام المزدوج الطارد للكفاءات، فالمساحات الفقاعية ليست مستدامة، وهي تحد من إمكانية خلق شراكات فعّالة بين المؤسسات التعليمية مع بعضها ومع القطاعات الحيوية والوظيفية في دول المنطقة، ففي المؤسسة الفقاعية يُدرك العاملون فيها كونهم حالة استثنائية، فتنحصر تعاملاتهم في المؤسسة ذاتها، وتتقلص دائرة الشراكات الممكنة وفرص تكوين العلاقات المهنية – الأمر الذي تسعى الكفاءات العالمية جاهدة إلى إدراجه ضمن رصيدها المهني.
أما بالنسبة لمؤسسات التعليم العالي الحكومية والتي أصبحت تستنزف ميزانية الدولة فقد حان الوقت للبت في أمرها، فمخرجاتها التعليمية لا تتوافق وسوق العمل المحلي أو الإقليمي وهو أمر يدعو للقلق، فتبعاته الأمنية قد لا تكون جلية اليوم إلا أنها ستظهر في المستقبل القريب مع ازدياد عدد المتعطلين عن العمل من خريجيها. فالخريج الذي استثمر سنوات عديدة في تحصيل شهادته العلمية لا يعي بالضرورة كون الجامعة ذات نظام عسكري لا يُسمح فيه للمدرس بالاستقلال في أسلوب التدريس ناهيك عن وضع مقرر للمادة التي سيدرسها أو حتى اختيار أساليب مبتكرة لاختبار مهارات الطلبة ومعارفهم والجامعات الحكومية نفسها لا تتمتع بأي نوع من الاستقلالية، وبالتالي يخضع أكاديميوها إلى نظام هرمي يُنظر فيه للأكاديمي على أنه موظف في قطاع خدمي وليس في قطاع ابداعي. وتنعكس هذه النظرة الانتقاصية لأكاديميي المؤسسة الحكومية على الطالب الذي لا يتوقع منه المُدرس سوى تقييم جيد حتى يُحافظ الأخير على مصدر دخله. قد تكون هذه سياسة متعمدة في تقنين المناهج وعسكرة مساحات البحث والمعرفة من شأنها أن تجعل من مفاهيم الولاء للدولة وطاعة ولي الأمر أهم نهج يتعلمه المرء، إلا أن هذه الأهداف – إن صح الاستنتاج بشأنها – تتسم بقصر البصيرة إذ أنها ستجعل من الدولة رهينة لطبقة متنقلة من الكفاءات، سيرتفع سقف توقعاتها مع الوقت ولن تقنع بما يُقدم لها من امتيازات وتنازلات من دول تعتبرها هذه الكفاءات مجرد محطات وقود تقف عندها برهة ثم تعود بعدها إلى الطريق العام.