تجنح الدول السلطوية إلى منع الحديث في السياسة أو إدخالها في أي نشاط عام، وهذه ظاهرة تُعرف علميًا بنزع السياسة. يرتكز هذا الحظر على أسطورة ترى أن السياسة مصدر للخلاف والفرقة، وهو رأي يدعمه الفكر النيوليبرالي الذي يروج لإقصاء السياسة لصالح معايير الحوكمة، والتنمية.
ولعل من أحدث النماذج على ذلك، التصريحات التي شارك بها رموز المجتمع القطري في الاستفتاء على إنهاء التجربة الانتخابية الوليدة، فدعوا إلى التصويت بـ”نعم” لإنهاء الفرقة والاختلاف، ومن أبرز من تبنى هذا الرأي الصحفي القطري أحمد علي في مقال له بعنوان ” «نعم» للتعديلات الدستورية.. «نعم» للمصلحة الوطنية”، إذ سوّغ فيه إلغاء التجربة الديمقراطية الناشئة بأنها غير متوافقة مع طبيعة المجتمع الإسلامي، مشيرًا إلى أن مبدأ “التشاور” تحت حكم الحاكم الرشيد يغني عن صناديق الاقتراع التي رأى فيها شرارة للفرقة.
ومع تفاوت شدة صراحة التصريحات، إلا أنها اتفقت في أغلبها على تأييد وأد التجربة الانتخابية لإنهاء “التعبير عن الخلافات” بين فئات المجتمع بدلًا من علاج هذه الاختلافات وذلك لتعزيز الوحدة تحت مظلة “ولي الأمر المُفدى”.
لكنّي أرى أن نزع السياسة يخدم رغبات سلطوية، وهو ما يتجلى في النزاعات المستمرة أو حالة الاضطراب التي تعيشها الدول السلطوية، فهي تبقى دائمًا مهددة بانفجار وشيك. هذا الرأي يجد له شواهد في كثير من النظريات التي ناقشت عملية نزع السياسة ومن أشهر تلك النظريات ما قدمه الفيلسوف النيجيري كلود آكي في نظريته عن نزع السياسة في الدول السلطوية.
يرى آكي أن هذا الحظر للسياسة في الدول السلطوية يجد جذوره في التجربة الاستعمارية التي مرت بها دول العالم الثالث. فقد منع المستعمر الشعوب من مناقشة القضايا السياسية لما في ذلك من تهديد لاستعماره.
جاءت نخب جديدة بعد رحيل المستعمر عن هذه الدولة المستعمرة وفعلت الشئ ذاته في تهميش السياسة ونزعها من المجتمع، وآمنت بما يسميه آكي “حصرية السلطة”. ويمكننا أن نفهم هذا الانعكاس الذي حصل بين طريقة إدارة المستعمر وبين حركات التحرر الوطني بما أسمته دراسات ما بعد الكولونيالية فيما بعد “إشكالية الدولة الوطنية” التي تتحدث عن أن الدول القائمة في بلدان العالم الثالث هي عادة ما تعيد إنتاج المؤسسات الكولونيالية ولكن بمواطنين محليين، فيرث هؤلاء الحكام الجدد عقلية المستعمر رافضين مشاركة أبناء الوطن في السياسة.
تعزز هذه الأنظمة نزع السياسة بترويج أسطورة جديدة، هي وحدة المصلحة الوطنية. فيدعي النظام السلطوي أنه توجد مصلحة عامة للبلد هو يمثلها، كما كان يفعل النظام الاستعماري عندما كان يدعي أنه يقوم بالوصاية على المجتمع لأنه يحقق له مصلحته في التحضر، وبذلك تصبح أي محاولة لخوض غمار السياسة معارضة لهذه المصلحة.
هذا الادّعاء غير حقيقي وذلك لأن المجتمعات البشرية عادة ما تتكون من مصالح مختلفة وربما متعارضة ، ومهمة السياسة كما يرى علماء السياسة هي إدارة توزيع هذه المصالح، وفي الأنظمة التي تتميز بالحرية والتعددية، يمكن لهذه الاختلافات أن تجد انعكاسها في الحياة السياسية القائمة على مبدأ التعددية الحزبية، فيمكن التعبير عنها والتفاوض على الحلول.
إن المفارقة الكبرى أن نزع السياسة لا يؤدي إلى الوحدة التي يتغنى بها دعاة السلطوية، بل يزرع بذور الشقاق والدمار. فالتعبير عن الاختلاف ليس خطرًا، بل هو طوق نجاة، والسياسة ليست عدوًا، بل صمام أمان يحول دون غرق المجتمعات في مستنقع التطرف والإرهاب.