ربما ظنّ بعضُ مطالعِي التاريخ أن الطغيان سمة أساس في الشرق، وأن ساكنيه يتمتعون بطبيعة خاصة تجعلهم في مصاف العبيد لظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حتى ترسخ في أذهانهم أن لفظي “الطغيان” و “الشرق” مترادفان، لكثرة ما شهدته المنطقة من حكم الطغاة منذ أقدم العصور حتى عصرنا.
فتلك الشعوب، كما يرى الفيلسوف الألماني الشهير جورج هيجل، لم تُخلق إلا لتجر عربة الملك، وذلك هو قدرهم المحتوم، أو أنهم عبيد بطبيعتهم ولا يتمتعون بأي صفة تؤهلهم لنيل حريتهم، بل خُلقوا لخدمة غيرهم كما يقول الفيلسوف اليوناني أرسطو. في هذه السطور أناقش هذا الرأي الشهير، مبيناً أن الطغيان ليس صفة جوهرية لشعب أو ديمغرافيا دون غيرها. فمن أرسطو، واضع فكرة تلك النظرية ومؤسسها، إلى هيجل وحتى مونتسكيو صاحب كتاب “روح القوانين” الذي نادى فيه بالحرية والديمقراطية، جميعهم رأوا أن نظام الحكم الأمثل للشرق هو النظام الاستبدادي. ومع تجذر تلك الفكرة في عقول فلاسفة العالم الغربي، إلا أنها لم تتبلور إلا على يد الفيلسوف الألماني كارل فيتفوجل، الذي كرّس حياته لدراسة الشرق ونمط معيشته وحركته.
أصدر فيتفوجل في عام 1957 كتابه الموسوم بـ “الاستبداد الشرقي: دراسة مقارنة للسلطة المطلقة” في مجلدين. اعتمد فيتفوجل في دراسته تلك على كثير من النظريات، أهمها نظرية “نمط الإنتاج الآسيوي” التي وضعها الفيلسوف الألماني كارل ماركس القائلة إن للشرق نمط إنتاج يخصه. نظرية الاستبداد الشرقي عند فيتفوجل قائمة على أعمدة اقتصادية لماركسيته السابقة. ترى النظرية أن نمط الإنتاج الذي اعتمد عليه الشرق هو سبب ظهور الاستبداد والطغيان. فدول العالم الشرقي هي في الأغلب دول مائية أو نهرية، لذا تحتاج إلى حكومة مركزية قوية قادرة على السيطرة وتجميع الأيدي العاملة لخدمة المشاريع المائية، مثل إقامة السدود وشق الترع وغيرها.
كانت تلك السيطرة بذرةً لظهور الاستبداد السياسي والسلطة المطلقة في الشرق. فبتفحص تاريخ الشرق نجد أن حكامه أسسوا حكمهم على التخويف والترويع ومحاربة أي قوى سياسية تظهر في الساحة، ومعاقبة أي شخص يعصي أوامرهم. فالطاعة هي السمة الأساس التي يجب أن يتحلى بها المواطن الصالح في الشرق.
غير أن السؤال الأساس الآن هو: ألا يمكن أن تكون هناك حكومة مركزية ديمقراطية لتلك الدول النهرية قادرة على تنظيم شؤونها؟ الإجابة هي نعم. فنجد مثلاً أن دولاً نهرية في أمريكا اللاتينية وغيرها أصبحت دولًا ديمقراطية. بل إن ثورات الربيع العربي دليل قاطع على رَوم تحقيق الديمقراطية في البلدان العربية، وإن أخفق بعضها في ذلك. غير أن العالم الغربي نفسه المتهم الشرقَ باستبداديته وطغيانه، قد عاش زمناً في ظلام الاستبداد والطغيان. ففي تاريخ العالم الغربي نجد أنه كان واقعاً تحت سيطرة الكنيسة، ثم ملوك الإقطاع والنبلاء، حتى تخلص من ذلك الطغيان ووصل إلى ديمقراطيته.
ومن المفارقات اللطيفة التي انتهى إليها فيتفوجل، أن الاتحاد السوفيتي كان شكلاً من أشكال “الطغيان الشرقي” لاستبداد حكومته. لكن الاتحاد السوفيتي نفسه تفكك إلى دويلات نالت نصيبها من الحرية والديمقراطية. وكما يقول الفيلسوف المصري إمام عبد الفتاح إمام: “إن ذلك الحدث أثبت للعالم بأسره أن الديمقراطية لا وطن لها، وأنها يمكن أن توجد حيثما يوجد الإنسان على الأرض”. فما من مكان على سطح الأرض إلا حقَّ لأهله المطالبة بالحرية والديمقراطية، وإن كره ذلك المستبدون.