يمكن ردّ حالة الشلل السياسي التي يعاني منها النظام السياسية في الكويت لأربعة عوامل دستورية. وهذه العوامل هي: أولاً احتياج الأمير للبرلمان من أجل اختيار ولي العهد. وثانياً، قدرة النائب بشكل منفرد على استجواب الوزراء ورئيس الحكومة. وثالثاً، صلاحية الأمير بحل البرلمان دون الرجوع للأخير. ورابعاً، النظام الانتخابي الفردي (اللاحزبي).
برأيي فإن الفترة الحالية تتيح فرصة تاريخية للنخبة الإصلاحية لأن تساوم السلطة السياسية لمعالجة هذه الجوانب الأربعة بإرساء صيغة دستورية جديدة تعالج هذه المشكلات بطريقة تلغي حالة عدم الاستقرار السياسي الناتجة عن هذه العوامل. وبشكل أكثر تحديداً، تتضمن الصيغة الجديدة اربعة إصلاحات دستورية وهي: أولاً، منح أمير البلاد الحق المطلق في اختيار ولي عهده. ثانياً، اشتراط توافق حدّ أدنى من النوّاب على شكل كتلة من خمسة، ستة، أو أكثر لممارسة حق الاستجواب النيابي. ومقابل هذه التنازلات من السلطة التشريعية، يطلب من الأمير التنازل عن صلاحية حل البرلمان، وكذلك القبول بإضافة النظام انتخابي في نصوص الدستور لإنهاء استغلاله في الصراع السياسي.
لنفصل الحديث في كل جانب من هذه الجوانب الأربعة، وتوضيح لماذا هذه الصيغة التساومية المقترحة تفتح الطريق نحو استقرار الحياة السياسية في الكويت. أدى اشتراط المادة الرابعة من الدستور لمصادقة الأغلبية على مرشح الأمير لولاية العهد لأن يتحوّل البرلمان لميدان صراع بين أقطاب الأسرة الحاكمة. فكل فرد طموح من أفراد الأسرة الحاكمة سيجد أن عليه بسط نفوذه داخل البرلمان من أجل التصويت لصالحه أو إعاقة التصويت لخصومه المرشحين لولاية العهد. وبهذه الطريقة، انحرفت وظائف البرلمان الرئيسية- التشريع، والمراقبة، والمشاركة في التنمية، وحماية حقوق وحريات المواطنين- ليصبح البرلمان منصة لاستعراض قوى الأقطاب وبسط نفوذهم.
هذا التحول الغى الانقسامات البرلمانية على مشاريع اقتصادية واجتماعية وتنموية وغيرها بسبب هيمنة صراع الأقطاب. بمعنى آخر، أصبح البرلمانيين تحت سلطة الأقطاب المتصارعة ليحققوا بقائهم واستمرارهم في البرلمان. فهؤلاء الأقطاب هم من يقدمون الخدمات الوزارية والمصالح النفعية كالتوظيف والعلاج في الخارج وباقي الخدمات من خلال سيطرتهم على الوزارات سواءا بانفسهم ام من خلال حلفائهم في المناصب الوزارية. ونتيجة هذه المعادلة نجد أن الانقسام البرلماني الحكومي/المعارض يتغير بتغير الأقطاب في الحكومة. فإذا كان قطب ما في الحكومة فإن حلفاءه من الأعضاء يضحون نوابا حكوميين والعكس صحيح.
لعل هذا ما يفسر ظاهر الأغلبية المعارضة، ففي مجلس ٢٠٢٣-٢٠٢٤ تشكلت كتلة من ٤٨ نائبا من اصل ٥٠ يعتبرون انفسهم كتلة المعارضة ومع ذلك هم متحالفين مع حكومة الشيخ احمد النواف. فكيف يكونون في موقع المعارضة وهم حلفاء للحكومة؟ الاجابة على هذا السؤال تكمن في معرفة مالذي يعد النواب فيه لناخبينهم، ففي نموذج مثالي، يفترض ان تكون المشاريع والقوانين هي الوعد المقدم من النائب لناخبيه وتعطيل هذي المشاريع او الموافقة عليها يحدد موقف النائب من المعارضة او التعاون. اما في الحالة التي شرحناها، فالنائب يقدم وعوداً بخدمات لناخبيه ومن يضمن خدمات ناخبيه هم وزراء الحكومة فإذا كانت الحكومة متماهية مع مطالب النواب الخدمية، يصبح النواب حكوميين والعكس صحيح.
ما يعزز هذه الحالة الزبائنية هو وجود مصلحة لوزراء الحكومة وتحديداً رئيس وزراءها للاستمرار في المنصب حتى تحل مسألة اختيار ولي العهد، ولكي يبقوا فإنهم بحاجة إلى اعضاء البرلمان، فيما يحتاج اعضاء البرلمان لخدمات الحكومة ليعيد الناخبين انتخابهم وبهذا تتشكل علاقة زبائنية اساسها صراع الحكم وولاية العهد.
اما العامل الثاني وهو عاملٌ متصل بالعامل الأول فهو أداة الاستجواب. فعبر هذه الاداة يمكن للنائب تهديد الحكومة واسقاطها وهو ما سينعكس على فرص الاقطاب المتنافسين على الحكم بحظوظهم للترشح لمنصب ولاية العهد. لا يقتصر استعمال الاستجواب كاداة في صراع الحكم. فبالإضافة لذلك فإنها اضعفت قدرة الحكومة والوزراء على تقديم مشاريع طموحة واصلاحات جذرية. كما انها اعاقت العمل النيابي الجماعي وعززت العمل الفردي داخل البرلمان.
إن هذه الاداة منحت للنائب منفردا ومن نتائج هذه الالية الفردية هو اولا اضعاف الحكومة وتحديدا الوزراء منفردين، وثانيا اعاقة العمل الجماعي وهيمنة العمل الفردي. لتوضيح المشكلة الأولى وهي اضعاف الوزراء يجب التنويه على أمر مهم، وهو أن طرح الثقة في الوزير – سحب الثقة – يحتاج إلى توقيع عشرة اعضاء إلا أن الاستجواب لا يحتاج إلا عضو واحد – الحد الأعلى ثلاثة – إن هذه الالية وضعت الوزراء أمام مواجهة مع خمسين نائبا منفردا. بمعنى أن في حالة رضى غالبية أعضاء البرلمان عن وزيرا ما إلا أن نائبا واحدا يستطيع استجوابه. نظريا هذه المسألة ليست إشكالية، فلا توجد مشكلة من استجواب من عضو واحد مادام اغلب الاعضاء يتفقون على سلامة موقف الوزير المستجوب. إلا أنه عمليا غير صحيح، فالاستجواب أصبح مناسبة للتقريع واذلال الوزراء وأدى هذا إلى استجوابات شخصية وغير مقنعة نيابيا فالاستجواب قد يحرج اعضاء البرلمان في حالات يكونون فيها متسامحين مع بعض الأخطاء الوزارية من اجل مساومات أكبر مع الحكومة.
اما مشكلة الاستجواب الثانية كاداة فردية فهي تتصل بالمشكلة السابقة، وهي قدرتها التخريبية لانشاء الكتل والعمل الجماعي في البرلمان. حيث أنها تأتي ضمن حزمة من الأدوات النيابية الفردية. بمعنى أن الأدوات النائب الاساسية الثلاث وهي اقتراح بتشريع/قانون والاستجواب والتصويت هي كلها أدوات فردية. عضو البرلمان يقترح القانون منفردا ويستجوب منفردا ويصوت منفردا. وهذه الحالة من فردانية الأدوات ليست حالة عامة في الأنظمة البرلمانية. ففي عدد من البرلمانات يستجوب العضو ضمن كتلة/حزب او بحد ادنى من التوقيعات قبل تقديم الاستجواب. يدفع هذا النوع الجماعي من الاستجواب لتفعيل العمل الحزبي/التكتلي، فالعضو المنفرد – من يعمل منفردا – لن يجد ما يستطيع أن يعمل به سوى التصويت واقتراح القوانين، وغالبا فهذه الاداتين تمر عبر اللجان حيث المقترح الذي يحظى بقبول أكثر من عضو يقدم على الآخر، بالاضافة لقدرة استعجال مناقشة اقتراح بتشريع ما إذا قدم من خمسة اعضاء. باختصار إن ما يحفز العمل البرلماني الفردي يكمن في فردانية أداة الاستجواب.
والعامل الثالث فهي حق الامير بحل مجلس الأمة دون الرجوع للأخير. ففي الدستور الكويتي يتم حل المجلس عبر آليتين: الاولى من خلال اعلان اغلبية اعضاء البرلمان لعدم التعاون مع الحكومة فإما يحل المجلس أو تُقال الحكومة، وهو نص المادة ١٠٢. والآلية الاخرى وهي ما نعنيه في نقاشنا هذه هو قرار حل المجلس من قبل الامير دون الرجوع للبرلمان او اشتراط موافقته، وهو نص المادة ١٠٧. وجود هذه الأداة يضع أعضاء المجلس في حالة قلق وترقب دائم من العودة إلى الانتخابات. لذلك فإن النائب يصبح عاجزا عن اتخاذ قرارات مكلفة انتخابيا كتشريع قانون للضريبة أو الموافقة على إصلاحات إدارية تمنع المحسوبية أو مالية يتفق معها. وسبب هذا هو غياب اليقين النيابي باتمام مدة البرلمان الكاملة. ففي احدى الدراسات البرلمانية أكد الباحثون على تأثر جدول اعمال البرلمان ونوع القوانين المدرجة عليه بالمدة الزمنية للدور التشريعي بعلاقة تشبه U. حيث تقدم الحكومات المنتخبة حديثا وعودها في بداية الدورة التشريعية ثم تعود إلى تقديمها قبل الانتخابات، وهو ما يعني أن الفترة في المنتصف وهي الأطول (سنتين في النظام الكويتي) يتم فيها تقديم المشاريع الأقل الشعبوية ومنها تقليل الدعوم. حيث تساعد هذه الالية لتجاوز معضلة اعادة الانتخاب والاصلاحات اللازمة. حيث يتسنى للاعضاء أن يرفعوا رصيدهم الشعبي بتشريعات أخرى من جهة وتقديم الإصلاحات الضرورية من جهة أخرى بطريقة تضمن اعادة انتخابهم وكذلك الاصلاحات المستحقة.
إن هذه الحالة من عدم اليقين الانتخابي في الكويت تدفع الأعضاء إلى التركيز على قوانين شعبوية وإغفال القوانين الاصلاحية وإن اتفقوا عليها وذلك لغياب ما يمكن تسميته بالضمان الانتخابي، أي بمعرفة متى يحل البرلمان وموعد الانتخابات. فالنائب لن يقدم مقترحا لا يحظى بشعبية دون ان يعلم ان لديه من الوقت ما يكفي لتقديم مقترحات اخرى تحظى بشعبية قبل الانتخابات. لذلك فإن الحل يكمن بإلغاء المادة ١٠٧ التي تعطي الأمير الحق في حل البرلمان دون الرجوع لمجلس الأمة والاكتفاء بالمادة ١٠٢ التي تشترط تقديم كتاب عدم التعاون من البرلمان، مما يمنح أعضاء البرلمان ما اسميه الضمان الانتخابي.
أما العامل الرابع فهو النظام الانتخابي. ومشكلة النظام الانتخابي لها شقين أولها استخدام السلطة له لتغيير البرلمان وثانيها يتعلق بالعمل الفردي الذي تحتمه الأنظمة الانتخابية في الكويت. اولا لنبحث عن مشكلة تغيير الأنظمة الانتخابية ونتائجها، إن أعضاء البرلمان ينتخبون وفق نظام معين ولذلك يحرص الأعضاء على أن لا يتم تغيير هذا النظام دون موافقتهم وتبين هذا في عام ٢٠١٣ حيث أدت هذه الممارسة إلى صدامات تتجاوز البرلمان وقد كانت سببا في أكبر مظاهرات في تاريخ الكويت رفضا لما سمي بالقرار الفردي للسلطة عندما تم تغيير النظام الانتخابي من اربعة اصوات في خمسة دوائر انتخابية إلى صوت واحد في الدوائر الخمس. فحتى يحظى البرلمان باستقرار يجب أن يكون النظام الانتخابي مستقرا لعقود من الزمن حتى يتمكن السياسيين من تطوير العمل به ومعرفة ديناميكيته. وفي حالة تغييره يجب ان يحظى بموافقة واسعة من القوى السياسية.
أما مشكلة الفردانية والانتخاب على أسس فردية فهي نتاج لنظم تصويتية غير-حزبية بتعددها سواءا في نظام الصوت الواحد أو الاربعة أو غيرها. فالمشكلة ليست في عدد الأصوات إنما في الترشح الفرداني في أساسه، فمن المعلوم أن تعدد الأصوات الانتخابية في حالة نظام الاربعة الأصوات أدى إلى ظاهرة “البدل” وهي أن يقوم مرشحين بجمع عدد من الأصوات. سأقدم مثالاً لتوضيح المسألة. فلنقل ان مرشحا اسمه زيد يملك ٥٠٠ صوت وآخر اسمه المرشح خالد ويملك ٧٠٠ صوت يتفقان على أن كلاهما يتبادل أصواته مع الآخر، بحيث يقدم المرشح زيد ٥٠٠ صوتا للمرشح خالد والعكس صحيح، والنتيجة أن كلاهما يحوز على ١٢٠٠ صوت دون أن يجتمعان على رؤية أو قضايا محددة.
يدعي البعض ان هذه المشكلة يمكن تجاوزها باقرار نظام القوائم النسبية وهو نقاشا واسع يدعمه عدد من السياسيين. الا انني لا اتفق مع هذه الدعوى وذلك لأن آلياته تشبه الية اجتماع المرشحين التي ذكرناها سابقاً. فبدلا من “البدل” سيتجمع المرشحين في قائمة واحدة علنا وبشكل مؤسسي دون ان يجمعهم شيء سوى عدد من الاصوات لدى كل فرد منهم. يمكن معالجة هذه المشكلة الملحة من خلال منع المترشح المستقل واشتراط الترشيح الحزبي. إن الترشح الحزبي قادر على حل بعض من هذه المشكلات. فيمكن ان يشترط إشهار الحزب نسبة من التوقيعات – ٥٪ مثلا – من كافة الدوائر. إن هذه القاعدة معروفة في جل الأنظمة الديمقراطية، فمن المعقول أن ينال المرشح تأييدا لخوضه الانتخابات قبل خوضها وإلا وجدنا مرشحين مدفوعين الأجر وآخرين بأصوات قليلة جدا. كما أن اشتراط التوقيعات أو عدد الأعضاء في الحزب يضمن نشأة أحزاب مشروعاتية – ذات مشاريع – متجاوزة للقبيلة والطائفة والطبقة. فحتى يشهر الحزب عليه إن ينال ثقة فئات واسعة في مختلف الدوائر وهو شبه مستحيل لأي قبيلة، طائفة، أو طبقة أن تحققه. قد لا ينهي هذا القبلية بشكل نهائي، ولكن من شأنه أن ينشئ بيئة يمكن للأحزاب أن تعمل بها وتزدهر.
إن الاحزاب يمكن نقدها ومحاسبتها بعد الانتخابات على عكس الافراد. فالحزب مسؤول عن ما يقدمه من مشاريع واستجوابات وكذلك عن تحقيقها. فالحزب الذي يحظى على اغلبية المقاعد يمكن محاسبته على الفشل الكومي ان حدث او مكافأته ان احسن العمل. والاحزاب الاصغر ستعمل جاهدةً لتحظى بشعبية اكبر في الانتخابات القادمة، ولذلك فستحاول فضح وتحديد مساوئ واخطاء الحزب او الاحزاب المشكلة للحكومة (او الداعمة لها).
إن هذه القدرة على معرفة من هو المسؤول مستحيلة في النظام الانتخابي الفردي. فكيف نعرف عما اذا كان النائب مقصراً ام انه اجتهد ولم يدعمه الاخرون؟ في حالة عدم الوضوح هذه يمكن لكل نائب ان يتعذر بعدم منحه الفرصة لتحقيق وعوده، وهو ما سيفعله كل نائب بدوره. في هذه الحالة لا يمكن تحديد من هو المسؤول تحديداً عن مشكلة ما.
هذه الظواهر السياسي السلبية الناجمة عن هذه العوامل الأربعة يمكن معالجتها بصيغة سياسية تساومية. لنا في نشأة البرلمان واستمراره خير دليل، فهو نتيجة للمساواة السياسية بين القوى السياسية الحاكمة والتجارية والشعبية، وعلينا اعادة الاعتبار لهذا المبدأ. إن هذه الفكر المساواماتي ينطلق من قاعدة ايجابية وهي حلول الوسط حيث لا يخسر طرفا مقابل آخر، ففيه لا يوجد رابح على حساب خاسر ولا يحظى طرفا بكل المكتسبات وآخر بلاشيء. في المقابل يوجد تفكير لاسياسي راديكالي ينطلق من قاعدة كل شيء أو لا شيء، وهذا التفكير هو السائد . فمن المعقول ان نتفهم مخاوف السلطة السياسية من قرارت شعبوية من شأنها اهدار مقدرات البلد او سياسات من شأنها الاضرار بالعلاقات الخارجية وهذه المخاوف معقولة. وعليه فإن الحل يكمن في ادخال تعديلات من شأنها الحد من هذه المخاوف ومراعاتها مقابل اصلاحات سياسية يمكن اقناع السلطة بجدواها وفوائدها.