تحدّث معنا الأستاذ في إحدى محاضرات مقرر مناهج البحث عن أهمية الحفاظ على الحياد العلمي في كتابة البحث العلمي، ناقدا ما يراه من الباحثين العرب في توصيفهم للاحتلال الإسرائيلي بأوصاف تجرّمه مثل الاحتلال الغاشم والنظام الدموي وغيره. وجادل بأنه يجب الاكتفاء بالأوصاف التي يطلقها القانون الدولي والأمم المتحدة.
حيّرني مفهوم الحياد الذي يتحدث عنه الأستاذ، فسألت نفسي: هل “الحياد العلمي” لا يتجلى إلا بقبول وصف الأممِ المتحدة والعالم الغربي مقاومتَنا قاتلَنا بالإرهاب والهمجية ؟ وهل يجب أن نظل ملتزمين بالسردية الغربية كي نكون “محايدين علميًا”؟
ما يعبر عنه الأستاذ هنا يتجاوز كونه رأياً له، فهي مدرسة علمية ينتمي إليها. وقد كان يؤكد دائمًا أنه “ابن لمدرسة علمية هي الأصح في العلوم السياسية” وهي المدرسة السلوكية المسيطرة على كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة.
هذه المدرسة ترى أن العلم لم يعد غربيًا بل عالميًا، وأنه يمكن للباحث الفلسطيني بالبحث العلمي المنهجي أن يصل إلى النتائج نفسها التي يصل إليها الباحث الإسرائيلي في القضية عينها ما التزم الاثنان القواعدَ العلمية والمؤشرات الدقيقة، كما يحصل في العلوم الطبيعية والتجارب العلمية الكيميائية.
تكمن المشكلة في تأثر الأستاذ بنشأته في مدرسة مرجعيتها هي الرؤية الغربية الاستعمارية للعلم فهو لم يكن يقدم لنا الحياد العلمي في صورته الموضوعية حقاً، لكنه كان يعيد إنتاج مفهوم الحياد لدى المجتمعات الغربية لذلك الصراع زاعماً أنه الحياد العلمي الموضوعي.
ما قام به الأستاذ يُعد استمراراً للوجود الاستعماري في مؤسساتنا المعرفية مع خروجه منها عسكريًا، وترسخ هذه المدرسة في مؤسساتنا المعرفية يؤدي لما كان يتخوف منه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق من تحول النخب العربية إلى نخب استشراقية، ومن ثمّ ترى ثقافتها أنها بدائية وأن ثقافة الغرب هي النموذج العلمي، وترى مجتمعها بعين المستعمر الذي خرج من بلادها وتركها تقوم بمهامه بعده.
تزداد مشكلة هذه المدرسة فداحة عندما تكون القضية صراعاً الغربُ طرفٌ فيه، لأنها ستتجاوز تبنيها رؤية ليست رؤيتنا، متبنّية رؤية عدونا لنا في صراعنا معه. هنا يمكننا أن نفهم الآراء الثالبةَ المقاومة الفلسطينية في ظل عملية الإبادة الوحشية الصهيونية بحجج ومبررات يرددها بعض الأمريكيين مثل أن المقاومة بدأت العدوان.
أخيرًا فقد هوجم ماركس عندما تحدث عن أن الشعوب غير الغربية لا يستطيعون تمثيل أنفسهم لذا يجب أن يمثلوا. لكن المعضلة الآن أنه لم يعد الغربي وحده من يرى أن شعوبنا لا تمتلك الرقي الأخلاقي لتمثيل أنفسها والحديث عن مشكلاتها بل إن مؤسساتنا المعرفية أصبحت تخرج أجيالاً مؤمنة أنهم لا يحق لهم تمثيل أنفسهم إلا بعيون مستعمرهم. لذا فإننا لن نستطيع أبداً أن ننتصر على عدونا ما دمنا نرى واقعنا بعيونه.