“وبعد، فآفاق المستقبل العربي مرهونة بالمعرفة الصحيحة بالواقع، وبالإرادة المصممة على التغيير.. إن التحليل المستمر للأوضاع والعمل المتواصل من أجل تغييرها عنصران متلازمان، خاصة في عالم اليوم الذي يمتزج فيه فعل المعرفة بممارسة الفعل”
محمد عابد الجابري
تعيش الكويت حالة حادة من الاحتقان السياسي والغضب الشعبي تجاه “المنظومة” البيروقراطية التي تدير البلاد وتشمل مؤسسات مجلس الأمة ومجلس الوزراء ومراكز القوى المختلفة مثل غرفة التجارة والأقطاب السياسيين المهمين من شيوخ الأسرة الحاكمة الذين يملكون تأثيراً على السياسة العليا للدولة. تولّدت حالة الاحتقان هذه بعد اكتشاف عدد من قضايا الفساد الكبرى- مثل “صندوق الجيش” و”الصندوق الماليزي” التي تورط فيها رئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ جابر المبارك الصباح، ووزير الداخلية الأسبق الشيخ خالد الجراح الصباح، إضافة إلى قضية “النائب البنغالي” التي تورط فيها مدير إدارة الجنسية والجوازات السابق مازن الجراح وعدد من نواب مجلس الأمة، وكذلك قضية “القضاة المرتشين” التي انتهت بسجن وعزل ٦ قضاة بعد ثبوت تلقيهم رشوة من رجل أعمال إيراني.
كما ساهمت عوامل أخرى على زيادة الغضب الشعبي واتساع رقعته: فهناك من جهة، استغلت الحكومة إمكانية تصويت أعضاءها داخل مجلس الأمة على القوانين وعلى مناصب مجلس الأمة مثل الرئاسة ونيابة الرئاسة فأوصلت مرزوق الغانم، أحد رؤوس “المنظومة” والخصم الأبرز للمعارضة، لرئاسة مجلس الأمة. ومن جهة أخرى هناك انعدام لوجود خطط تنموية واضحة، والآثار النفسية التي خلفها فايروس كورونا، وكذلك ما يمكن تسميته “تعفن البيروقراطية” في الوزارات ومؤسسات الدولة وتفشي نهج المحسوبية.
فقدت “المنظومة” إثر ذلك كل أظهرتها السياسية التي كانت تراهن على دعمها في السنوات العشر الماضية، وهم الطبقات الوسطى من “الحضر” و”الشيعة”. إذ اصطف هؤلاء إلى جانب الأغلبية القبلية المحافظة في المعارضة، فكانت نتائج انتخابات مجلس الأمة في ديسمبر ٢٠٢٠ معبرة عن هذا الغضب الشعبي الواسع. فبناءً على “الخطابات الانتخابية” للأعضاء الفائزين، فإن هناك ٣٧ عضواً من أصل ٥٠ هم من المعارضة، وذلك على الرغم من أن ٩ منهم غيروا توجهاتهم ساعة دخولهم إلى البرلمان، وهو أمر شائع في الحياة السياسية الكويتية المتقلبة والقائمة على العصبيات القبلية والتحالفات السياسية مع شيوخ من الأسرة الحاكمة، إضافة إلى لعب “المال السياسي” دوراً كبيراً في تغير التوجهات.
تدفع حالة الاحتقان هذه- وهي أكبر من حالة احتقان عام ٢٠١٢ من حيث اتساع رقعة معاداة الحكومة- كثيرا من الناشطين السياسين إلى التفاؤل بإمكانية نشوء حراك سياسي – اجتماعي جماهيري جديد في الكويت تعود فيه المسيرات والاحتجاجات والوقفات والندوات الحماسية في الشوارع والميادين مشابه لما حدث بين أعوام ٢٠١١ – ٢٠١٤، حيث أسقط رئيس مجلس الوزراء السابق الشيخ ناصر المحمد الصباح بعد اقتحام مجلس الأمة، وانتخب مجلس الأغلبية عام ٢٠١٢، وتفشت مسيرات كرامة وطن ومسيرات المناطق، والذي انتهى مع إعلان مجلس الوزراء سحب الجنسيات الكويتية من عدد من الناشطين السياسيين وتفكيك هذا الحراك.
هل ستتحول حالة الاحتقان الحالية لحراك مماثل؟ للإجابة على هذا السؤال، لن تنشغل هذه المقالة بتحليل الواقع السياسي في الكويت، والخلل البنيوي داخل “المنظومة” والذي يعيد إنتاج الأزمات السياسية بشكل مستمر منذ قيام الدولة الحديثة حتى اليوم، بل ستقتصر على البحث في “ديناميات” الحراك الكويتي السابق، والنظر في إمكانية تكراره. وبشكل أكثر تحديدا، فإن المجادلة الرئيسية لهذه المقالة يقول بأن هناك خمسة محددات ساهمت بتحوّل احتقان عام ٢٠١٢ إلى حراك سياسي، وهذه المحددات الخمسة هي: النخب السياسية الشبابية المستقلة، والحراك الاجتماعي – السياسي للقبائل، والدعم الكبير لحركة الإخوان المسلمين في الكويت لهذا الحراك، والزعامات السياسية التقليدية المعارضة القادرة على حشد الجمهور، إضافة إلى لحظة “الربيع العربي”. إن النظر في حالة الاحتقان الحالية تكشف أن أربعاً من هذه المحددات الخمسة غير موجود، وأنه من غير الممكن وجود محددات أخرى تؤدي إلى إشعال حراك سياسي، وبالتالي فإن أفق تكرار قيام حراك سياسي – جماهيري في الشارع يبدو معدوماً.
المحددات الخمسة لحراك ٢٠١١-٢٠١٤
بدأت إرهاصات الحراك السياسي في الكويت مع بزوغ عصر المدونات في الكويت عام ٢٠٠٥، حيث أنشأ شباب كويتيون متعلمون من الطبقات الوسطى والوسطى العليا، وينتمي غالبيتهم إلى التيار الليبرالي الوطني، مدونات متنوعة تناقش هموم الشباب السياسية والاجتماعية. كما استغل هؤلاء الشباب إلغاء المحكمة الدستورية قانون منع التجمعات في يناير عام ٢٠٠٦ (الذي مرر فترة إيقاف البرلمان عام ١٩٧٩) لينزلوا في الشارع للمطالبة بتعديل مرسوم الانتخابات من ٢٥ دائرة (وهو تقسيم للدوائر الانتخابية يتيح للحكومة أن تسيطر على العملية الانتخابية والبرلمان) إلى ٥ دوائر و٤ أصوات وهي حملة عرفت باسم “نبيها خمس”. أظهرت هذه الحملة طبقة سياسية جديدة من الشباب، أغلبهم ينتمي إلى التيار الوطني وجزء منهم ينتمي للحركات الإسلامية، وكان سلاح هذه الطبقة السياسية الجديدة هو الانترنت الذي مكّنهم من كسر قيود الإعلام التقليدي الذي تسيطر عليه الطبقات السياسية التقليدية في البلاد.
تطورت حركة الشباب هذه ونحت منحىً آخر بتشكلها من جديد على يد أكاديميين وأطباء قبليين إضافة إلى شباب منتمين فكرياً للإخوان المسلمين من الذين لم تعجبهم التقييدات الموجودة لدى الحركة الدستورية الإسلامية “حدس” وهي الجناح السياسي للإخوان المسلمين في الكويت. شكّل هؤلاء فيما بعد النواة الأولى للمجموعة التي سيّرت وقادت مسيرات “كرامة وطن” التاريخية في الكويت، وهي أحد تمثلات الحراك السياسي الجماهيري في البلاد بحسب ما أشار إلى ذلك أحد الناشطين في الحراك طارق المطيري في كتابه (ارحل) الصادر عن دار جسور ٢٠١٧.
بالإضافة لظهور النخب السياسية الشبابية المستقلة، يأتي المحدد الثاني لحراك ٢٠١١-٢٠١٤ على شكل الدعم الكبير الذي قدمته له حركة الإخوان المسلمين في الكويت. فهذه الحركة تتمتع بسمعة “مخيفة” داخل دوائر صناعة القرار في الكويت وذلك بسبب التنظيم المحكم داخل حركة “حدس”. ذلك أنها التيار السياسي المعتبر الوحيد في الكويت الذي يملك الاستمرارية التنظيمية والانضباط والموارد الكبيرة لحشد الأصوات له في الانتخابات البرلمانية، وعدم تركز قراره السياسي في شخصية واحدة، إضافة إلى سيطرته على الكثير من المؤسسات النقابية والعامة، مثل الاتحاد الوطني لطلاب الكويت، عبر أعضائه المنتمين له، أو عبر المتعاطفين معه “وهم غالباً ما يكونون نشأوا كإخوانيين في الصغر أو أنهم يرتبطون بصلات قرابة مع أعضاء الجماعة”.
وجاء قرار الحركة المشاركة في الحراك السياسي الكويتي لعدة أسباب. أولاً، لاختلافها مع رئيس مجلس الوزراء الشيخ ناصر المحمد الصباح بعد قيامه بتحميلها مسؤولية عدم إتمام صفقة بتروكيماويات بسبب هجوم المعارضة وعلى رأسها النائب السابق مسلم البراك عام ٢٠٠٩ عليها. ثانياً، لانعدام شعبيتها في الشارع بسبب الكلفة الكبيرة التي تكبدتها نتيجة وقوفها إلى جانب الحكومة طيلة العقد الأول من الألفية الحالية. وأضفى قرار الحركة في المشاركة بالحراك قوةً ضاربة له إذ أن حركة “حدس” ترعب دوائر صناعة القرار رغم قلة عدد نوابها في البرلمان، إضافة إلى أنها تعطي للشارع زخماً وقوة وظهيراً يمكنه الاعتماد عليه.
بعد النخب السياسية الشبابية المستقلة ودعم حركة الإخوان المسلمين، يأتي الحراك السياسي-الاجتماعي للقبائل كمحدد ثالث للحراك. فقد كان الجيل الأول من القبائل، والتي هاجر أغلبيتها إلى الكويت أواخر الخمسينيات والستينيات، موالياً للحكومة، وهو ما استغلته “المنظومة السياسية” آنذاك مما دفعها للتوسع في تجنيس القبائل، لمواجهة نفوذ المعارضة القومية الحضرية المتحالفة مع التجار، ولإيجاد توازن ديموغرافي داخل البلاد. لكن الجيل الثاني والثالث من أبناء القبائل والذي دخل إلى المدارس والجامعات وتعلّم تعليماً نظامياً، ذاب وبشكل غير متوقع داخل منظومة الدولة وانغمس فيها، وبات يحاول إيجاد طريقة تمكنه من لعب دور داخل الصراع السياسي، يتناسب مع مركزه الوظيفي – التعليمي، وعدد طبقته الاجتماعية المنتمي لها والتي بلغت نسبتها ٦٥٪ من تعداد الشعب الكويتي.
لقد نما “المخيال السياسي عند القبيلة” في الكويت بفضل زعامات سياسية قبلية مثل مسلم البراك وفيصل المسلم ووليد الجري وعبيد الوسمي ويقوم هذا “المخيال السياسي” في خطابه المعلن على أساس محاربة الفساد وحماية الدستور وترسيخ مبدأ المساواة بين المواطنين، لكن خطابه المضمر يقوم على محاولة انتزاع اعتراف من الدولة بحق النخب القبلية في التمثيل السياسي بشكل يتناسب مع حجمهم الديمغرافي. كان هذا “المخيال السياسي” عابراً لكل القبائل، إذ شهدنا لأول مرة تشكل هوية سياسية تسمى “القبيلة” بغض النظر عن تنوع القبائل.
ورغم مشاركة كافة القبائل تقريباً في صوغ هذا “المخيال السياسي” إلا أن قبيلة مطير، والتي تعد أكثر قبيلة سياسية شراسة على المستوى التاريخي والحالي في إقليم الخليج والجزيرة العربية، مثّلت رأس الحربة في ترجمة هذا “المخيال السياسي” إلى واقع عملي. فهي قد ساهمت بقوة في حشد أفرادها خلف زعاماتها مثل مسلم البراك وعبيد الوسمي في مسيرات “كرامة وطن” ومسيرات المناطق العنيفة التي أكدت على دور القبيلة في الحراك، إذ هاجم الشباب القبليون الغاضبون، وأغلبيتهم من الأحداث الذين لا تتجاوز أعمارهم ١٨ عاماً، مخافر الشرطة وأسوار السجن المركزي في مناطق صباح الناصر والفردوس والصباحية والرقة، بحسب ما أعلنت وزارة الداخلية، وهي المعاقل الرئيسية للقبائل.
كما أن قبيلة مطير ترجمت قوتها السياسية وتزعمها لـ”المخيال السياسي للقبيلة” في الكويت عبر عدد من الأعمال التي ردت فيها على الإهانات التي تعرضت لها مثل قيام شباب القبيلة بحرق مقر مرشح مجلس الأمة محمد الجويهل في منطقة العديلية و اقتحام مقر قناة الوطن اعتراضاً على مقابلة تلفزيونية مع المرشح نبيل الفضل المسيء للقبيلة والقبائل وهي أحداث كانت أثناء الانتخابات البرلمانية عام ٢٠١٢ والتي أدت إلى انتصار الأغلبية المعارضة (التي تسيطر عليها القبائل) وانتصار المرشحين الجويهل والفضل أيضاً.
انتبهت أطراف داخل “المنظومة” إلى خطر نمو هذا “المخيال السياسي عند القبيلة” فبدأت في استعداء القبائل والهجوم عليها في محاولة لتخويفها وتوجيه ضربات لها تعيد “تصويب آليات الصراع الاجتماعي” كما يزعم أحد الكتّاب المؤيدين لـ”المنظومة”. ففي عام ٢٠٠٧م، استهدفت لجنة إزالة تعدي المواطنين على أملاك الدولة الكثير من “الديوانيات” التي يبنيها القبليون خارج منازلهم، الأمر الذي أدى إلى خلق حالة من الجدل داخل مجلس الأمة وتحول الصراع حولها إلى صراع قبلي – حكومي. ثم جاءت اقتحامات القوات الخاصة لمقار “الانتخابات الفرعية” التي أجراها القبليون ومداهمات المنازل في عام ٢٠٠٨ وظهور “محمد الجويهل” في قناة السور وإساءته للقبائل ونشره لأوراق خاصة حول جنسياتهم تثبت ازدواجية جنسيتهم وتحرض على سحب جنسياتهم الكويتية. ويعتبر كتاب ناصر الفضالة (وهو اسم وهمي ويرجح أنه بحث كتبه عدة أشخاص للجهات العليا) المعنون بـ” الحالة و الحل: فرضيات أولية لتصويب الصراع السياسي الى أطره الاجتماعية” والذي نشر عام ٢٠١١ وثيقة تاريخية مهمة توضح خوف “المنظومة” من الحراك الاجتماعي – السياسي للقبيلة والذي كان المحدد الرئيس ضمن محددات الحراك السياسي في الكويت.
ويمكن القول بأننا شهدنا ما بين أعوام ٢٠٠٠ و ٢٠١٠ ظهوراً لحراك اجتماعي – سياسي وهو حراك سياسي قبلي، استوعب فيه المثقفون القبليون بأن الوقت قد حان لتغيير قواعد اللعبة السياسية التي ظلت الطبقات الاجتماعية المهيمنة في الكويت تلعب من خلالها. وهذه القواعد رُسخت في دستور ١٩٦٢ واستمر عليها “العرف السياسي” لأعوام طويلة، ويعرّف بلومر (Blumer) الحركة الاجتماعية “بأنها ذلك الجهد الجماعي الرامي إلى تغيير طابع العلاقات الاجتماعية المستقرة في مجتمع معين، وهي مشاريع جماعية تستهدف إقامة نظام جديد للحياة وتستند إلى إحساس بعدم الرضا عن النمط السائد، والرغبة في إقامة نسق جديد”.
وكان أبرز ما أدى إلى “استمرارية” هذه الحركة الاجتماعية هو “القدرة على تعبئة الموارد” والاستقلال المادي الذي حصلت عليه هذه النخب القبلية، إذ حصلت عليها بفضل دخولها لعالم التجارة المتوسطة (مطاعم \ مقاهي \ محلات بقالة \ تجارة إقامات \تجارة عقار متوسطة). وهي علاقات تجارية لا يحتاج فيها التاجر إلى رضا شيخ أو مسؤول متنفذ، بل تستند إلى علاقة مباشرة بين التاجر والعميل. هذا بالإضافة إلى حصول الكثير من القبليين على وظائف مرموقة في الوزارات والشركات الخاصة نظير تعلمهم وخبراتهم البيروقراطية، وأسلوب الدولة الريعية، وهذه النخب مكونة في الغالب من أكاديميين وتجار متوسطين، وهي التي تفرز الزعامات القبلية التي تحشد الناس في الشارع.
تأتي الزعامات السياسية القادرة على تسيير الشارع كمحدد رابع لحراك ٢٠١٢-٢٠١٤. فهذه الزعامات لديها القدرة على حشد أكبر عدد من الأفراد لغايات سياسية، وكذلك “تصعيد” سياسيين رديفين. وهذه القدرة لا توجد اليوم في الكويت إلا بين القبائل وذلك بحكم الطابع الديموغرافي الجديد في البلاد وطبيعته القبلية المتصاعدة. فقد شهدت السنوات الماضية تضاؤل أعداد الزعامات غير القبلية، بل وفشل الكثير منها في الانتخابات البرلمانية. فالزعيم السياسي في الكويت اليوم، وبكل اختصار، هو خطيب كاريزماتي غير متورط في قضايا فساد ووساطة “كبيرة” وله قاعدة جماهيرية صلبة “قبلية بالضرورة” ينطلق منها.
أخيرا، لقد كان الربيع العربي لحظة فارقة في تاريخ الشعوب العربية ولا يتسع المقال لمحاولة تشريح الحالة المتعلقة بالربيع العربي، لكننا نحاول التدليل على نقطتنا بالقول إن روح الربيع حلّت في الحراك الكويتي السابق وألهمته، وكانت محدداً رئيسياً من محدداته، ذلك أن المحددات الأربعة السابقة انصهرت في “بوتقة” هذا الربيع الذي كان السياق الذي عملت من خلاله، وأدى إلى التأثير على المشهد السياسي في البلاد، ولا يعني هذا عدم وجود إرهاصات للحراك قبل الربيع العربي، لكننا نقول بأن السمات الرئيسية للحراك من استمرارية، مسيرات، عمل شعبي منظم ، خروج عن قواعد اللعبة السياسية التي وضعتها المنظومة… كل هذا لم يحدث إلا بعد الربيع العربي.
ما بعد انهيار الحراك .. هل هناك حراك قادم؟
إذا اتفقنا على هذه الخمس محددات لحراك ٢٠١٢-٢٠١٤، والذي انتهى فور صدور أول مرسوم لسحب الجنسيات الكويتية في يوليو عام ٢٠١٤، فإن هذه المحددات اليوم باتت غائبة تماماً عن المشهد خلا محددٌ واحد. وهذا المحدد هو النخب الشبابية والتي تطورت وضمت فئات واسعة لها من شباب الجامعات ومن الأكاديميين ومن غيرهم مع اتساع مساحة الحنق على “المنظومة” بسبب غرقها في قضايا الفساد وعجزها عن حل مشاكل التنمية، لكن هذه النخب الشبابية عاجزة عن ترجمة حماسها إلى حراك جديد في واقع الشارع السياسي مع غياب المحددات الأخرى.
فالإخوان المسلمون كتيار سياسي يعيش أضعف حالاته في العالم العربي، ولم تتبق دولة عربية تقبل بوجودهم العلني سوى الكويت، إذ أن الأردن وهي الدولة الشبيهة بالكويت من حيث طبيعة النظام السياسي حلت التنظيم، لذلك لن يغامر الإخوان المسلمون في المشاركة في حراك سياسي جديد خصوصاً وأنهم دفعوا الثمن كاملاً في الحراك السابق.
أما القبائل، فرغم اتساع حالة الحنق عندها أيضاً، إلا أنها تحاول إعادة مكاسبها التي كانت تحصل عليها عبر التفاوض المستمر مع الحكومة عن طريق نوابها، وعدم النزول للشارع، لأنها تفكر بمنطق “الربح والخسارة” وهذا المنطق يتعلق بربح التفضيلات الحكومية في المعاملات والتعيينات والمناصب، أو خسارة كل هذا بسبب تفعيل “المنظومة” لسلاح سحب الجنسية مرة أخرى، إذ تمثل الجنسية ثغرة كبيرة تُمكن الحكومة من ليّ ذراع القبائل أكثر من مرة.
لقد دفعت أكبر القبائل، وهي قبائل “مطير” و”العجمان” ثمن الحراك السياسي كاملاً، وهي غير مستعدة لدفعه مرة أخرى. أما تصاعد النفس المعارض لدى قبائل مثل “العوازم” أو “العتبان” أو “شمر” فهو لن يؤدي إلى استنهاض “المخيال السياسي عند القبيلة” مرة أخرى، وترجمته إلى حراك سياسي في الشارع على المدى القريب. إذ أن قبيلة “العوازم” تتعاطف مع الحراك نظراً لوجود أحد أبنائها وهو بدر الداهوم فيه، لكن الحكومة لها علاقات مميزة مع شيوخ القبيلة الذين لا تزال كلمتهم مسموعة. فبعد أن شاركت هذه القبيلة في الحراك السياسي عام ٢٠١١، انسحبت منه عام ٢٠١٣ بأمر من شيخ القبيلة فلاح بن جامع بعد أن استمالته المنظومة. أما القبائل الأخرى فإن حجمها العددي الذي لا يقارن بالقبائل الكبرى يجعلها غير قادرة إلى التعبئة والحشد إضافة إلى عدم قدرتها على ممارسة الألاعيب السياسية كما هو الأمر عند “مطير” و”العجمان”.
أما بالنسبة للزعامات السياسية القادرة على الحشر، فقد استأثرت الخصومات الشخصية والأحقاد التي نشأت بينهم على إمكانية أي عمل سياسي منظم ومشترك في السنوات القادمة. فقد أدى اختلاف الرؤى بين مسلم البراك وفيصل المسلم وعبيد الوسمي حول التعامل مع الحكومة الحالية، ومع شخص رئيس مجلس الأمة، إلى تصاعد هذه الخلافات بل وإضفاء الطابع القبلي عليها، مما يهدد وحدة “المخيال السياسي عند القبيلة” وهي القاطرة التي تقطر الحراك كما أسلفنا. وإمكانية وحدة هذه الزعامات بعيدة تماماً هذه الأيام، إضافة إلى أنها أصيبت بالوهن والتعب نتيجة الثمن الباهض الذي دفعته نظير مشاركتها في الحراك الاجتماعي – السياسي.
أما الربيع العربي، فإن نهايته جليّة كوضح الشمس في النهار، إذ بدأ السقوط المدوي له ساعة الانقلاب العسكري في مصر منتصف عام ٢٠١٣، ودق المسمار الأخير في نعشه مع انقلاب قيس سعيد على الديموقراطية في تونس عام ٢٠٢١.
إن الوقفات المستمرة التي تحدث في ساحة الإرادة، تدخل ضمن دائرة قواعد لعبة “المنظومة”. إضافة إلى أنها وقفات غير مستمرة، وليس هناك جهات منظمة تحشد لها. وجزء كبير من مواضيعها عبثي ويتعلق برفض لقاحات فايروس كورونا، والجزء الآخر غير قادر على التعبئة الجماهيرية مثل دعم “الحقوق الإنسانية المشروعة للبدون” لذلك فإن إمكانية تحولها إلى حراك اجتماعي – سياسي وفق الشروط التي رسمناها لما نعرّف بأنه حراك تبدو غير ممكنة.
يمكننا القول بعد هذا الاستقراء لـ”محددات” الحراك السياسي في الكويت، بأننا فقدنا أربعة محددات من أصل خمسة، وأن المحدد الوحيد الباقي لا يملك القدرة على الحشد والمواجهة والاستمرارية التي تؤهله لممارسة أي عمل خارج قواعد اللعبة التي تعمل بها “المنظومة”، وأن أي عمل سياسي خارج هذه المحددات الخمسة فإن النجاح لن يكون حليفه. فليس هناك تيار سياسي – شعبي غير الإخوان المسلمين يخيف “المنظومة” في الكويت اليوم، في ظل اضمحلال كافة التيارات السياسية الوطنية والليبرالية، وعدم مقدرة التيارات اليسارية على الحشد في الشارع وفقدانها لزعاماتها السياسية نتيجة فقدان “شرط” الزعامة السياسية في الكويت بداخلها، إضافة إلى عدم وجود زعامة سياسية يمكنها الحشد اليوم من الأجيال الجديدة من النخب الشبابية. كما أنه من المستبعد أن تكون هناك موجة ثورية جديدة في العالم العربي في ظل سيطرة الأنظمة الاستبدادية من جديد وقضائها على الثورات بشكل مطلق، إضافة إلى عدم وجود “منظومة اجتماعية” قادرة على الحشد سوى القبائل التي لن تخرج كما أسلفنا.
كل هذا يقودنا إلى نتيجة مفادها أن احتمالية حدوث حراك مستقبلي في الشارع يهز “المنظومة” ويدفعها إلى حافة الهاوية كما حدث بين ٢٠١١ – ٢٠١٤ يبدو مستبعداً في السنوات القادمة.