قبل العروبة: ساطع الحصري منظراً للقومية العثمانية

محمد الناصر

كاتب المقالة

محمد الناصر

محمد الناصر

يُعَدّ ساطع الحصري من أبرز المفكرين والمنظرين للقومية العربية في القرن العشرين، واللافت أنه كان – قبل كتاباته التنظيرية عنها – منافحاً عن قومية أخرى هي القومية العثمانية التي قدّم إبّان دفاعه عنها مفهوماً يغاير ما بثّه بعد ذلك عن القومية العربية، فقد رأى الحصري أن الدين والتاريخ هما العاملان الرئيسان للرابطة القومية العثمانية لا اللغة التي هوّن من شأنها. قبل أن أستعرض آراءه هذه، أرى من المفيد معرفة السياق العثماني العام الذي عاش فيه وفكّر.

نشأة الحصري في الفترة الأخيرة من الدولة العثمانية

ولد ساطع بن محمد هلال بن مصطفى الحصري في صنعاء من والدين حلبيين في 1297هـ الموافق 1880م. والده محمد هلال أفنى حياته في خدمة السلطنة العثمانية حيث كان قاضياً في عدد من مدن الولاية، لذا أبصر ساطعٌ النورَ في صنعاء حين كان والده رئيساً لمحكمة الاستئناف الجنائية هناك. انتقل الأب بعد ذلك إلى أضنه ثم أنقرة، فطرابلس الغرب وعاد بعدها لليمن وأخيراً إلى قونيه، من هذا يتبين أن ساطعاً تنقل بين كثير من المدن والولايات العثمانية؛ لطبيعة عمل والده، بَلْهَ المناصب التي تولاها هو لاحقا.

تابع ساطع مسيرة أبيه وشقيقه الأكبر مجدي الذي عمل مدعياً عاماً في حمص وبنغازي، وبعد عودة والده إلى إسطنبول واستقرار العائلة في حي إرنكوي، انضم في عام 1893 إلى المدرسة الملكية التي أنشئت في عام 1859 وأعيد تنظيمها عام 1877 لتكون عصرية أكثر، بمعنى أن يكون التعليم فيها أكثر علمانية، وصارت تُعنى بقيم مثل الحرية والوطنية. هذا التحديث قاده بعض المعلمين هناك، وتأثر به عدد من قادة حركة تركيا الفتاة، واختصت المدرسة بتدريب منتسبيها على الخدمة الإدارية في السلطنة العثمانية. قضى ساطع في هذه المدرسة سبع سنوات، ثلاث منها في المرحلة الثانوية وأربع في التعليم العالي، وتخرج منها في عام 1900 بتفوق.

كان بإمكان الحصري البدء في العمل الإداري وذلك لتخرجه من المدرسة الملكية، لكنه تاق العمل في وزارة المعارف مدرساً للعلوم الطبيعية، وكان له ما أراد حيث عُيّن في مدرسة ثانوية في ولاية يانيه، وهي منطقة تقع اليوم بين الحدود اليونانية والألبانية، ومكث فيها خمس سنوات انتقد فيها طريقة النظام التعليمي العثماني وبدأ يقدم دروسه بطريقة مغايرة فيها من التشويق ما يجعل الطلبة منجذبين وباحثين عن المعلومة عكس النظام البالي وغير الملائم برأيه.

فشل ساطع في إصلاح المنظومة التعليمية كما كان يريد؛ فطلب العمل الإداري ليٌعينَ (قائم مقام) عام 1905 في ولاية قوص أوه المقدونية التي كانت بالقرب من الحدود البلغارية، وبعدها بعام نقل إلى فلورينه في ولاية المنستير. هذه الفترة كانت الأهم في تكون الأفكار القومية لديه، فالمستنير كانت تضم قوميات متعددة ومقراً نشطاً لضباط تركيا الفتاة. هناك بدأ يؤمن بأن صون الدولة العثمانية مما تمر فيه من فساد وضعف هو باستعادة الدستور. بعد حدوث الثورة الدستورية أو ثورة تركيا الفتاة عام 1908 أوكلت له لجنة الاتحاد والترقي استقبال الوفود المؤيدة للحركة في الولاية، ومن ضمن هذه الوفود أحد قادة جيش الحركة “نيازي” الذي خبأ هو وجنوده الأسلحة في الجبال في مناسبة ألقى فيها الحصري خطبة حماسية عبر فيها عن آماله بسلطنة قوية للعثمانيين جميعهم مستذكراً فيها أعمال مدحت باشا ونامق كمال ومساهماتهم للوصول لهذا اليوم.

عاد الحصري بعد ذلك إلى إسطنبول بعدما حظي بسمعة طيبة لدى الدستوريين العثمانيين، وأنشأ صحيفة أنوار العلم، لكنها لم تستمر طويلاً. عُيّن بعد ذلك في إدارة دار المعملين وظل مديرها خلال الفترة من 1909-1912. في إدارته أعاد تنظيم الدار مجددا واستبدل جميع موظفيها عدا ثلاثة، وأحدث قسماً جديداً لتدريب المعلمين من الولايات الأخرى. حينها؛ ولشغفه بالتعليم وتطويره أسس صحيفة التعليم الابتدائي وعمل رئيس تحرير فيها، وكان يزور أوروبا لدراسة نظم التعليم الحديثة، وأعجب كثيراً بقدرة التعليم هناك على التأثير اجتماعياً واقتصادياً. أعفى عام 1912 من إدارة المعلمين إثر خلاف مع وزير التربية أمر الله أفندي بعدما رأى الحصري أن السياسة التعليمية في عهده تخلو من التنظيم والتخطيط.

بعيداً عن التعليم كانت تلك الفترة مهمة على المستوى السياسي؛ وهي الفترة اللاحقة لتنحي السلطان عبدالحميد سنة 1909، حيث شهدت صراعات على السلطة في الدولة العثمانية فتحت الكثير من الأسئلة وأبرزها “كيف يمكن إنقاذ الدولة؟”. في خضم هذه الأجواء اهتم الحصري بالعلوم الاجتماعية وبدأ يتأثر بجمع من المفكرين كميشال بيريه وألبير غودريه وشارل جان. قاده هذا التأثر إلى مساجلة صحفية مع ضيا غوكالب حيث تبنى فيها فكرة الاعتماد على القيم المعنوية الغربية في السلطنة للمحافظة على جوهرها وبقاء الدولة دون الحاجة إلى القومية التركية. بينما كان يرى غوكالب أن التربية يجب أن تكون قومية وبتلقين جماعي للثقافة التركية، فأصالة الفرد لا تكون إلا إذا كان نموذجاً أصيلاً لثقافته.

الحصري منظراً للقومية العثمانية

في عام 1913، ألقى ساطع الحصري خمس محاضرات في دار الفنون في إسطنبول عنوانها (من أجل الوطن) تحولت لكتيب نشر باللغة التركية. في هذه المحاضرات بلور أفكاره الرئيسة حول القومية ودافع عن قومية عثمانية متعددة اللغات والعرقيات قوامها الدين والتاريخ، وشرح فيها فهمه للقومية الأوروبية. هذه السلسة نشرها محمود حداد في صحيفة الحياة عام 2002، ونقلها للعربية سعد عبدالمجيد.

سعى الحصري لجعل الدين عاملاً أساسيا في خلق روابط الأمة عكس ما حدث في أوروبا، فالدين الإسلامي هو الرابطة المعنوية لأكثرية العثمانيين. ويؤكّد على هذا الرأي في نقده لخصومه الذين شددوا على أن الأمة تعتمد على رابطتي اللغة والعرق، فنجده يقول “إن الأكثرية من العثمانيين توجد بينهم رابطة الدين، هذه الرابطة لها أهمية كبيرة جداً”. فاختلاف الدين الإسلامي عن المسيحية بوصفه ديناً اجتماعيا يملك التأثير الأكبر على الشعور وطريقة التفكير، ومن الخطأ اعتباره من دون قيمة، ويكمل قائلاً “يجب عدم نسيان أن الإسلام ليس مجرد قواعد أخلاق مثل المسيحية”. مذكراً أن الإسلام رابطة دينية جامعة استمرت أهميتها لقرون طويلة ممتدة، مستخدماً شواهد تاريخية كون المسيحية بوصفها رابطة دينية لم تمنع الكاثوليك والبروتستانت الألمان من التوحد لقتال الفرنسيين، ولم تمنع البلجيكيين من الثورة ضد الهولنديين وهم كاثوليك بنفس مذهبهم. ويذهب أبعد من ذلك في رده على من يتهم الإسلام بأنه سبب تخلف الدولة العثمانية، مؤكدا أن السبب كان في التعليم الذي أورث بعض العادات السيئة التي سببت كسل الأمة، فسوء أساليب التعليم والفساد هما سبب تخلف السلطنة، ويذكر حادثة عندما كان (قائم مقام) في قوص أوه أنه بعث للوالي تقريراً عن سلوك وفساد بعض الموظفين، ولم يرد الوالي عليه، فذهب بنفسه إليه ليتفاجأ برده حيث قال له ” أعلم يا بني، أعلم أن هناك موظفين ضعافاً وفاسدين، لكن ما العمل؟ إني أغضي عن أفعالهم وأنت كذلك عليك أن تغضي“.

أما العامل الثاني وهو التاريخ، فيرى الحصري أن مواطني الدولة ليسوا من يتحدثون اللغة نفسها، بل من عاشوا جوانب تاريخها من نجاحات وإخفاقات قائلاً إن “هذه الرابطة هي موضع الفخر والاعتزاز لدى كل أفراد الشعوب والأوطان “. ويقول” إن الرابطة التاريخية تقوم بتوحيد الأفراد على شكل عائلة واحدة من خلال الاشتراك في مشاعر وحواس ترتبط بالأجداد والأيام الماضية”، ويشير إلى أن التاريخ قد لا يكون رابطة ضرورية؛ نظراً لتداخل تناقضات حوادث التاريخ، إلا أنه اعتبر تشابك التاريخ الإسلامي والعثماني قد أعطى هذا العامل قيمة الضرورة لدى الأمة العثمانية “هناك أيضا مسألة عدم وجود فارق أو تناقض بين التاريخ الإسلامي والتاريخ العثماني، بل على العكس هناك اشتراك لافت للنظر والانتباه”. وهذا التوافق التاريخي جعل من الدولة العثمانية وطناً للجميع، محذراً من احتكار هذا المنجز لقومية واحدة وهي التركية.

بعد تأكيده على عاملي الدين والتاريخ، عرّج الحصري على عامل اللغة وأهميته في تكوين الرابطة العثمانية. في تلك الفترة كانت الدولة العثمانية تضمّ مجموعات بشرية يتحدثون لغات متعددة: العربية، والتركية، والكردية، واليونانية وغيرها. والمثير للدهشة موقفه إزاء هذا العامل، فقد رآه غير ضروري، ومع تأكيده على أن اللغة وسيلة مهمة للتعبير عن الأفكار والأحاسيس، وكونها رابطة قوية بين الأفراد، إلا أن تعدد اللغات ليس مانعاً أن يكون العرب وغيرهم ضمن الأمة العثمانية، لذا يَنُص أن وحدة اللغة – مع الأهمية العظيمة لها والموقع المتميز الذي تحتله بين عناصر الوحدة الوطنية وعوامل المواطنة – لا تعتبر عنصراً ضرورياً ولا كافيا في هذا الصدد، ويكمل قائلاً “فاللغة داخل المجتمع العثماني هي أقصر الروابط في ما بينهم”.

ختاما؛ رأينا كيف كانت أفكار الحصري متأثرة بالظروف التي عاشها في كنف الدولة العثمانية، وهي ما حددت ملامح تبينه لفكرة الأمة القائمة على الدين والتاريخ، مبعداً عنها اللغة. يمكن ملاحظة أن تغيّر هذه الأفكار تزامنت مع تغيّر هذه الظروف، فبعد تمكن الاتحاد والترقي بقيادة الثلاثي أنور وكمال وطلعت المعروفين بالباشوات الثلاثة من بسط سيطرتهم على السلطنة عام 1913، وقد تبنوا قومية عثمانية تركية حيث بدأوا بإطلاق سياسة التتريك والتي ظهرت جلياً في إدارة الأقاليم الأخرى ومنها البلاد العربية، ترافق مع هذه السياسة استهداف وملاحقة شخصيات عربية مناهضة لحكم وسياسات الثلاثي وصلت ذروتها في السادس من مايو عام 1916 عندما قام الوالي العثماني جمال باشا بإعدام سبع شخصيات في دمشق وأربع في بيروت، ولعبت هذه الحالة دوراً رئيساً في تخلي الحصري عن الفكرة العثمانية وتحوله للقومية العربية، ولا أدل على ذلك من وصفه التالي لها “أن هذه الأعمال الإرهابية والانتقامية التي أقدم عليها جمال باشا، لعبت دوراً هاماً في انقطاع العلاقات بين البلاد العربية وبين الدولة العثمانية”.


 

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *