هل يُستغرب لو قلنا إن إشارات المرور من أهمّ مداخل فهم إدارة المدينة الحديثة؟ ربما. إنّ إشارات المرور فكرة ذات أساس خَدَمِيٍّ، تقوم على تسهيل حركة السيارات والراجلين في المدينة، وهي فكرة ذات بعد قانوني لارتباطها بمبدأ نفاذ القانون واحترامه، وفكرة ذات بعد فلسفي لارتباطها بمبادئ المراقبة والعقاب؛ وهي فكرة يتّصل بها قطاع من الخدمات الاقتصادية. ولو تفحّص المرء الموضوع في السياق الجزائري، لفجأه عدد المقالات الكثيرة عن الاختناق المروري بالجزائر العاصمة، وغياب إشارات المرور الذي أدى لسوء حركة السير فيها. غالب هذه المقالات قصرت عن إدراك السبب الفعلي لاستمرار ظاهرة الاختناق المروري وهو موقف الإدارة الجزائرية من المكان واحتلاله. تهدف السلطة في الجزائر دوماً للاحتجاب عن مواطنيها. ويظهر هذا في مشاريعها في إدارة حركة المدينة القائمة على الفصل بين مكانين: المكان الذي تحتلّه هي، والمكان الذي تخصصه لمواطنيها. وعبر توظيفِ آليات متعددة تؤدي بمجموعها لمنعِ أو تقليل مرور الساكنة بأماكنها تقوم بإنتاج ظاهرة الاختناق المروري.
مع أن مشكلة الازدحام المروري في الجزائر كانت موضوعاً ساخناً في السنوات الماضية، ناقشها عدد كبير من كتبة المقالات في الجزائر واقتُرح لأجلها مجموعة من المشاريع الحكومية وكتبت حولها أبحاث أكاديمية، إلا أن أيّاً من هذه المحاولات لم تنجح في إصابة السبب الرئيس للظاهرة. ففي الثامن من سبتمبر 2015 نشر موقع الإذاعة الجزائرية روبورتاجا عن الاختناق المروري بالعاصمة، مرفقا بشهادات حية لمواطنين جزائريين يشتكون من كثرة الساعات التي يقضونها في الانتظار. وبتاريخ 25 مارس 2016 كتب خالد بودية في صحيفة الخبر الجزائرية عن تحوّل الاختناق المروري في الجزائر إلى جحيم يهدد حياة المواطنين. بتاريخ 24 سبتمبر 2019 نشرت صحيفة الجزائر مقالا عنونته: “رغم المشاريع ازدواجية عدة طرق لتخفيف الضغط: الازدحام المروري يخنق العاصمة”. بتاريخ 23 فبراير 2020 نشر موقع سبق برس مقالا عن أسباب الاختناقات المرورية في الجزائر العاصمة، الموضوع الذي استعاده موقع التلفزيون الجزائري في تقرير له بتاريخ 24 فبراير 2020. جريدة أخبار الوطن عنونت مقالها الصادر بتاريخ 3 نوفمبر 2020: “الازدحام المروري: جحيم الجزائريين”، أمّا يومية الموعد اليومي فقد نشرت مقالا في الفاتح من يناير 2021 تحت عنوان: “مشوار 15 دقيقة يستغرق ساعتين, الازدحام المروري… معاناة يومية أنهكت الجزائريين” وبعد سنة كاملة، وبتاريخ 22 ديسمبر 2021 تنشر صحيفة الشروق اليومي الجزائرية مقالا بعنوان: “الاختناق المروري يحرق أعصاب الجزائريين”. سنة 2023 شهدت مقالات من العربي الجديد، الأيام، إندبندت عربي. تنوّعت أجوبة هؤلاء المحللين حول السبب الرئيسي للمشكلة بين زيادة عدد السيارات، ونقص أماكن التوقف، ووجود الدوائر الحكومية حصرا في العاصمة، بالإضافة للعامل البشري ممثلا في عدم احترام السائقين لقواعد المرور والعجز الكبير لوسائل النقل الجماعي.
لم تقتصر مناقشة هذه الظاهرة على كتبة المقالات، بل انضم إليهم أيضا صناع السياسات والأكاديميون. ففي عام 2015، أطلق مشروع التوأمة المؤسساتي بين الجزائر وإسبانيا الرامي إلى تحسين الأمن عبر الطرقات عام 2015. بعده جاء مقترح قانون المرور الذي عرضه وزير العدل عام 2022 عبد الرشيد طبي أمام لجنة النقل والمواصلات والاتصالات السلكية واللاسلكية بالمجلس الشعبي الوطني. وقبل عدة أشهر، أطلق وزير الأشغال العمومية والمنشآت القاعدية، لخضر رخروخ ثلاثة مشاريع. إلا أنّ أيّاً من هذه المشاريع لم توفّق قطّ في حلّ مشكلة المرور بالجزائر العاصمة. أما بالنسبة للأكاديميين، ففي العدد الثاني عشر من مجلّة الاقتصاد الصناعي المحكمة الصادرة عن جامعة باتنة، حاول عيسى مرازقة وعبد الرزاق تولميت المساهمة النظرية في تحليل ظاهرة الاختناق المروري، ومع أنهما تمكنا من تفسير الظاهرة نظريا، لكنها كانت في أسباب استمرار ظاهرة الاختناق المروري في الجزائر. صحيح أنّ زيادة الطلب على النقل، ونموّ الاقتصاد، وتزايد حركة السكان، وملكية المركبات الخاصة، وقلة وسائل النقل العامّة؛ كلها أسباب رئيسة في زيادة الاختناق المروري، غير أنّها لا تفسّر بحال لماذا عجزت الإدارة الجزائرية عن حلّ هذه المشكلة طيلة عقود.
تقوم جميع هذه المحاولات لحل مشكلة الاختناق المروري في الجزائر العاصمة على مسلمة رئيسة مفادها أنّ الإدارة الجزائرية ترى في الازدحام المروري، مثلما يراه جميع الساكنة، مشكلة رئيسة يجب التقليل منها أو حلّها. هذه المسلمة بحاجة لإثبات لتناقضها مع ممارسة “احتلال المكان” الذي تقوم به الإدارة الجزائرية. يمكن تلخيص المقصود بهذه الممارسة بما يلي: في فضاء المدينة الجزائرية مكانان رئيسان: المكان الذي تحتلّه السلطة، وتتخذه مقرّا لها، للسكنى والعمل وغير ذلك، والمكان الذي تخصصه السلطة لمواطنيها. يتجاور هذان المكانان أحيانا ولكن لا يتمازجان. تهدف السلطة دوما للاحتجاب عن مواطنيها، وتقوم مشاريع السلطة في إدارة حركة المدينة على الفصل بين المكانين. ظاهرة الاختناق المروري إذن نتاج اختيار إداري يخدم مصلحة الإدارة الجزائرية في الاحتجاب عن مواطنيها.
يمكن إدراك هذه الممارسة بملاحظة “غياب” إشارات المرور عن شوارع العاصمة الجزائرية وحلول ” حواجز المرور” مكانها. فعلى عكس أغلب مدن العالم التي تنظم سير السيارات فيها أجهزة تقنية آلية غير شخصية، فإن حركة السيارات في المدينة الجزائرية تنظمها هذه الحواجز المرورية، أو نقاط التفتيش، التي يديرها مجموعة من أفراد الشرطة. انظر مثلا لهذا الوصف الذي نقلته صحيفة العربي الجديد: “تتكدس في الغالب عند مداخل المدن الكبرى، وخاصة العاصمة الجزائرية عند مداخلها الثلاثة، صفوف طويلة من السيارات بسبب حواجز أمنية تقيمها السلطات منذ فترة، ويعاني الجزائريون من هذه الحواجز أشد المعاناة”. لا تصريح رسمي عن عدد حواجز المرور بالجزائر، إلا أنّ كل من جرّب قيادة سيارته في شوارعها يعلم كثرتها وقلّة حاجة السكان لها. وحدها الإدارة الجزائرية التي تصرّ على ضرورة هذه الحواجز وتعدّ إزالتها أمرا لا يمكن الحديث عنه. فقد صرّح عبد المالك سلّال، رئيس وزراء الجزائر خلال فترة 2012-2017، أنّ “الهدف من تنصيب الحواجز الأمنية في الطرقات هو تأمين الأشخاص والممتلكات والوقاية من حوادث المرور.. والحكومة لن تسحب هذه الحواجز الأمنية تحت أي ظرف”. التصريح نفسه أعاده رئيس مصلحة التحريات الجنائية بقيادة الدرك الجزائري – هيئة أمنية تتبع وزارة الدفاع – العقيد عصمان نبيل، الذي بين أنّ “نقاط المراقبة الثابتة التي تقيمها مصالح الدرك عند بعض مداخل المدن الكبرى على غرار ولاية الجزائر العاصمة تدخل في إطار إجراءات مكافحة الإرهاب وضمان حماية أكيدة للمواطن ومؤسسات الدولة”.
إن حواجز المرور أكثر إغراء ونفعاً من إشارات المرور لأداء أغراض الإدارة الجزائرية في الفصل بين مكان احتلالها والسكان. فحواجز المرور تتحرّك، تكون اليوم هنا، وغدا هناك، ما يجعل التحكّم بها سهلا، وأكثر مرونة. هي كذلك قليلة التكلفة، إذ لا يتّصل بوضعها أية بنية تحتية، خلاف إشارات المرور التي تتطلب تمديدات كهربائية، وأعمدة وصيانة. كلّ ما تتطلبه حواجز المرور هي إشارات قف، وبضعة من رجالات الشرطة. وإذا كانت الغاية هي الاحتجاب عن السكان، فليس ثمّة أفضل من اتخاذ حاجب بشري. فشرطي المرور إنسان يجري عليه ما يجري على غيره من الناس، من التعب وأخذ قسط من الراحة، والغضب والتعسف، والظلم، والمحاباة، وهذه كلّها صفات تفاعلية “تأخذ وقتاّ” وتؤدي لتعطيل حركة السير، خيارات لا توفّرها الآلة التي تسير وفق نظام محدد، ثوان محددة للانتظار وأخرى للمرور. ولأنّ شرطي المرور لا نظام له، مثل إشارات المرور، فإنه يصبح النظام في ذاته، وفيه تُخْتَزَلُ الدولة وسلطتها. فالشرطي قادر على إيقاف مرور طريق ما، لنصف ساعة مثلا، دون أن يسائله أحد من المارّة، ويمكن له أن يحرر مخالفة ما، أو أن يمنع مرور أحد ما، لغير سبب مكتوب، ويكون الحقّ القانوني معه، دوما.
لنشر في هذا الختام إلى أنه لن تغيب حواجز المرور عن واقع المدينة الجزائرية لأنها تعضد هدف الإدارة في الفصل بين المكان الذي تحتلّه ومكان مواطنيها. يؤكد ذلك نوع آخر من حواجز المرور يزيد كلّما اقتربت من مكان تحتلّه الإدارة الجزائرية ومن يمثّلها. تختلف هذه الحواجز عن سابقتها في أنّ عملها ضديد عمل الحواجز الأخرى، فلا يتوقف عندها المارة، بل يمنعون من القرب، ويجبرون على المرور سريعا إلى طرق أخرى، بعيدا عن المكان الذي تحتلّه الإدارة. تخشى الإدارة دوما من الوقوف وإجالة النظر في ممتلكاتها وأماكنها. لا تكتفي الإدارة برفع الأسوار على محل إقامة هذه الطبقة من المجتمع، بل تصادر أيضا حق المواطنين في “المرور” و”التوقف” و”احتلال المكان”. تطالب السلطة عبر تكثيف حواجز المرور من المواطن البسيط ألا يمد عينيه إلى ما مٌتِّعت به طائفة من المجتمع دون غيرها، أن يكون مروره خفيفا، وألا يفكر بمحاولة فهم ما الذي يقع هناك، خلف الأسوار المغلقة. هل يعقل إذن أن تتخلى سلطة ما، أية سلطة، عن مثل هذه الآلية التي تمكنها من إدارة المدينة بهذا الشكل؟ لا يمكن للاختناق المروري أن يغيب عن طرقات العاصمة لأنه ليس الاستثناء، بل القاعدة نفسها، والمبدأ نفسه. هو الخيار الذي وجدته الإدارة الجزائرية فعالا في إدارة حركة ساكنة العاصمة، وهو الخيار الذي سيستمر، إلى حين.