ماذا يعني وقت الفراغ؟ ما هو الفرق بين وقت الفراغ وبين الترفيه؟ هل يقدّم الإسلام مفهوماً خاصّاً للترفيه؟ كيف يفهم السوريون أوقات الفراغ؟ هل لديهم مفهوم أصيل، معتَرف به في ثقافتهم، للترفيه؟ وهل يختلف عن المفهوم السائد في أوروبا وأميركا الشماليّة؟ وختاماً، هل تهمّ النقاشات الحديثة حول العمل، والترفيه، ووقت الفراغ، وإنهاء “استعمار الوقت” السوريين بالقدر نفسه؟
ينطلق هذا المقال في محاولته الإجابة على هذه الأسئلة من ملاحظتَيْن مبدئيّتَيْن: أولاهما، هي أنّ الاتّجاه نحو دراسةٍ متعمّقةٍ لموضوع الترفيه أمرٌ حديث نسبيّاً وأنّ دراسة مفهوم الترفيه تظهر وكأنّها نشاط يمكن إدراجه في بند “الرفاهيّات،” خصوصاً في أيّامٍ كأيّامنا، تحبل بالقضايا الاقتصاديّة المصيريّة وصعوبات المعيشة، وسوء توزيع الثروة القوميّة والإنسانيّة عموماً. كما أنّ قضيّة الترفيه، وهي الملاحظة الثانية، تبدو قضيّة ذات معنىً في المجتمعات المتقدّمة اقتصادياً في الغرب وحسب، حيث نلحظ اهتماماً متصاعداً وعدداً من الدراسات الاجتماعيّة التي تتناول هذه القضيّة. إذ يجد المرء دراساتٍ تركّز على تحليل التفاعل بين العمل والترفيه في سياق دولةٍ محدّدةٍ—كالولايات المتحدة، على سبيل المثال. وأحد أمثلة هذه الدراسات كتاب “مشكلة العمل” لـكاثي ويكس (٢٠١١) الذي تقدّم فيه نقداً نسويّاً للرأسماليّة. ومن الجدير ذكره كذلك، هو أنّ معظم الدراسات تركّز على نقد المظاهر الحديثة للترفيه إمّا كمفهومٍ نظريٍّ بحت، أو كنقدٍ للرأسماليّة والعمل وظروفه في إطارها، ويقوم على المفاهيم الطبقيّة للرأسماليّة والعمل (وهو مُستوحىً، بالتالي، من الماركسيّة)؛ أو كعملٍ يقوم بدمج كلا هذين الإطارَيْن، كتلك الداعية إلى اعتماد دخلٍ أساسيٍ عامّ (UBI) مبنيٍ على مفهوم المواطَنة دون ارتباطٍ بعمله أو عدم عمله.
ويُبرز هذا الاستعراض المقتضَب ندرة تحليل المفاهيم المتعلّقة بالترفيه من منظور الجنوب العالمي أو فيما يخصّ تجاربه. ويبرز هذا النقص بصورةٍ خاصّةٍ في إطار العولمة التي باتت حقيقةً واقعةً، تؤثّر بكافّة أوجهها على الجنوب العالميّ بنفس القدر، إن لم يكن أكثر، من تأثيره على الشمال العالميّ حتى. كما يبدو أن دور الدولة غائبٌ بصورةٍ كبيرةٍ وواضحةٍ عن أيّ نقاشاتٍ في تأطير أو تعريف أو تقنين أوقات الفراغ في السياقات المذكورة أعلاه. وهذا أمرٌ ذو أهمّيةٍ خاصّةٍ، حيث تؤكّد نيكول شيپين في كتابها إنهاء استعمار الوقت: العمل، والراحة، والحرّية على أنّ “الترفيه أمرٌ لا يمكن تحقيقه دون [وجود] الدولة” (شيپن ٢٠١٤، ص. ٣١). أتّفق في هذا المقال مع مقولتها هذه وأرى أنّ المسار المضطرب لتشكيل الدولة في الجنوب العالميّ—ومنطقتنا العربيّة، على وجه الخصوص—أثّر، وما زال يؤثّر، على جميع جوانب الحياة فيه.
سأجادل في هذا المقال أنّ سوريا تقدّم حالةً مثيرةً للاهتمام. حيث أنّ تطوّر الدولة والمجتمع السوريّين من كونهما بُنىً وثقافة دولةٍ يهيمن عليها تأثير الثقافة والمفاهيم المستَلهمة من الإسلام بصورةٍ بارزةٍ، إلى بنية دولةٍ قوميّةٍ حديثةٍ ذات دستورٍ ومؤسّسات وتطوّرٍ اقتصاديٍ وتأثيراتٍ ثقافيةٍ مستوحاةٍ من الغرب، أمرٌ ذو أهمّيةٍ خاصّةٍ هنا. وتبرز أهمّيته بالخصوص في محاولة استكشاف التفاعل بين وجهات النظر الحديثة والمستوحاة من الثقافة الغربيّة وفرصةً لتحقيقٍ مقارَنٍ لمفهوم الترفيه من منظور بديل، مع التركيز على التفاعل بين الدولة والدين وأوقات الفراغ، وإمكانيّات إنهاء “استعمار الوقت” في إطار بيئةٍ عربيّةٍ وذات ثقافةٍ تستقي جذورها من الثقافة والتراث الإسلاميّين.
ما هو الترفيه؟
لا يبدو أنّ ثمّة إجماعاً أو تعريفاً عامّاً مقبولاً في الأدبيّات حول هذا الموضوع. ومع ذلك، يبدو أن مفهوم “الترفيه” غالباً ما يتمّ خلطه بمفهوم “وقت الفراغ.” يحذّرنا سيباستيان دي جرازيا في كتابه الوقت والعمل والراحة (١٩٦٢) بشدّةٍ من مثل هذا الخلط، مشيراً إلى أنّ “الترفيه […] ووقت الفراغ يعيشان في عالمَيْن مختلفَيْن تماماً” (دي جرازيا ١٩٦٢، ص. ٧). ويعتبر الوقت الحرّ (أو وقت الفراغ) “مفهوماً تطبيقيّاً للديمقراطيّة،” على عكس “الترفيه” الذي يمثّل بالنسبة إليه “نموذجاً مثاليّاً” يشير إلى “حالةٍ وجوديّة، واحدةٍ من حالات الإنسان، حالةٍ لا يرغب إلا القليلون في تحقيقها، ولا يتمكّن إلا القليلون في الوصول إليها” ( المرجع نفسه، ص. ٧—٨). يبدو هذا تمييزاً مثيراً للاهتمام ووثيق الصلة بالموضوع، إذ يبدو الخلط بين مفهومَيْ “الترفيه” و”وقت الفراغ” طاغياً على الأدبيّات.
على وجه العموم، يبقى كتاب ثورستين ڤيبلين المعنوَن نظريّة طبقة الرفاه (١٨٩٩) هو العمل المرجعيّ الأساس في مجال البحث المعاصر في موضوع الترفيه. وفيه، يعرّف ڤيبلين الترفيه بمصطلحاتٍ قائمةٍ على مفهوم “غياب العمل المأجور.” وعليه، يعرّفه بأنّه ذلك الوقت الذي “يُستهلك بشكلٍ غير منتِج [وذلك نابعٌ من] (١) الشعور بانعدام قيمة العمل المنتِج، (٢) كما أنّه دليل على القدرة الماليّة [التي تمكّن صاحبها من] خوض حياةٍ من الكسل والخمول” (ڤيبلين ٢٠٠٧، ص. ٣٣). وبناءً عليه، يعتبر أنّ “[توفّر] درجةٍ من الراحة، وعدم الاضطرار إلى خوض أيّة أعمالٍ منتِجة […] هي شروطٌ تمّ التوافق على أنّها […] أساسيّة لحياةٍ إنسانيّة جديرةٍ أو جميلةٍ، أو طاهرةٍ، حتى” (المرجع نفسه، ص. ٢٩). ويمكن توصيف منظور ڤيبلين إلى الترفيه باعتباره منظوراً “أداتيّاً”—بوصف الترفيه لديه رمزاً للمكانة والسلطة على الآخرين، إذ يقول بالحرف أنّ: “حياة الترفيه هي الدليل الأكثر وضوحاً وحسماً […] على المقدرة والنفوذ الأعظم [لدى مالكيها]” (المرجع نفسه، ص. ٣٠). ويقول أنّ هذا الترفيه يمكن استعراضه، إمّا من خلال امتلاك سلعٍ كماليّةٍ ملموسةٍ؛ أو بصورةٍ يسمّيها السلع “غير المادّية”—مثل “الإنجازات [الشخصيّة] شبه-العلميّة أو شبه الفنّية […] التي لا تضيف أي شيءٍ بصورةٍ مباشرةٍ إلى الحياة البشريّة” (المرجع نفسه، ص. ٣٤). ومن ضروبها، أنشطة من مثل تذوّق “النبيذ الفاخر والسيجار، وتربية الكلاب، والرياضة، وبعض قواعد الإتيكيت المتكلّفة، و[تعلّم] اللغات الميّتة [أو اللغات القديمة التي لم تعد مُستخدمةً، كتعلّم اللغة اللاتينيّة، مثلاً]” (سوردام ٢٠١٥، ص. xv).
وجهة نظرٍ أخرى حول الترفيه هي تلك الواردة في كتاب برتراند راسل بعنوان في مدح الخمول (١٩٣٢)، الذي يجد فيه أنّ “الترفيه أمر أساسيّ للحضارة” (راسل ١٩٣٢). حيث يبدو فيه أنّ مفهومه عن الترفيه مبنيٌّ كذلك على فكرة “غياب العمل المأجور،” أي ذلك العمل الضروريّ للحفاظ على الحياة والحفاظ على الحضارة. ويفترض راسل أنّه “باستخدام التقنيّة الحديثة، سيكون من الممكن توزيع الترفيه بشكلٍ عادل دون الإضرار بالحضارة” (المرجع نفسه). ومن ناحيةٍ أخرى، فمن الملفت أنّ كارل ماركس لم يتطرّق بتاتاً إلى الترفيه بصورةٍ صريحة؛ على أنّه ألمح إلى الطبيعة المستهلِكة بالكامل التي يحملها العمل الرأسماليّ، الذي “يُبعد الإنسان عن البشريّة” (ماركس ١٩٧٨، ص. ٧٥). وعليه، “يعيننا ماركس على إدراك الآثار الكاملة لـ “استعمار الوقت” من قبل رأس المال باعتباره ضياعاً للوقت [الذي لا بدّ من وجوده] لتنمية الإمكانات البشرية” (شيپن ٢٠١٤، ص. ١٣). وقد يشمل مفهوم “تطوير الإمكانات البشرية” هذا أنشطةً مرحةً وبسيطة، أو أنشطةً أكثر تعقيداً وجدّيةً ومحفّزةً على إدراك الذات، وتسهِم في ربط الإنسان بأخيه الإنسان، ومع الجنس البشريّ عموماً. وأخيراً، من بين علماء الحداثة الكلاسيكيّين يبدو أنّ ماكس ڤيبر، كذلك، لم يولِ كبير اهتمامٍ بالترفيه. فقد بدا في كتابه الأشهر الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة (١٩٣٠) أكثر اهتمامًا باستكشاف وتعريف الأصول المعياريّة للرأسماليّة الحديثة، التي تتبّع جذورها إلى مفهوم “الزهد البروتستانتيّ،” بحسب بحثه (ڤيبر ٢٠٠٥).
وبين الباحثين، يقدّم ستانلي باركر في كتابه الترفيه والعمل (١٩٨٣)، في رأيي، التعريف الأكثر شمولاً للترفيه. إذ يقترح، في الواقع، ثلاث طرقٍ رئيسةٍ يمكن من خلالها تعريف الترفيه. يسمّي التعريف الأول بـ “المتبقّي [Residual]” والذي يعتبره تعريفاً نفعيّاً. ووفق هذا التعريف، يمثّل الترفيه وحدةً زمنيّةً—أو “ذلك الجزء من الوقت المتبقّي بعد العمل” (باركر ١٩٨٣، ص. ٣). تعريفه الثاني هو تعريف هجين/مختلَط مفاهيميّاً، يجمع بين النفعيّة والجانب المعياريّ، وبموجبه لا يُعتبر الوقت المتبقّي ترفيهاً، إلا إذا “تضمنّ وصفاً إيجابيّاً لمحتواه أو وظيفته، وأحيانًا إذا أدّى [الوقت المتبقّي] إلى إضافة عنصرٍ قيَمي” (المرجع نفسه، ص. ٤). بمعنى أنّ نوعيّة النشاط الذي يتمّ خلال الوقت “المتبقّي” شديدة الأهمّية في تعريف إن كان يشكّل ترفيهاً أم لا: بعبارةٍ أخرى، إذا كان النشاط يضيف قيمةً معياريّةً (مثل تحقيق الذات بحسب ماركس، أو الشعور بالإنجاز الإيجابيّ، على سبيل المثال) للفرد، فإنه يُعتبر ترفيهاً. أمّا التعريف الثالث والأخير الذي يقترحه تعريفٌ معياريّ بالكامل، يؤكّد على “نوعيّة الترفيه” نفسه (المرجع نفسه، ص. ٦). أخيراً، في كتابها الُشار إليه أعلاه، تدافع نيكول شيبن عن الفهم الأرِسطي [نسبةً إلى الفيلسوف الإغريقيّ أرسطو] لقضاء وقت الفراغ الذي تقول إنه “مُعرَّف من خلال عدم نفعيّته [بمعنى عدم ضرورة تحقيقه نفعاُ أو عائداً ماديّاً]، لأنه يُعتَبر منفعةً في حدّ ذاته” (شيپن ٢٠١٤، ص. ٣٤). ويبدو هنا أنّ شيپن تتبنّى فكرة دي جرازيا عن الترفيه باعتباره “حالةً،” أي “حالة التحرّر من ضرورة العمل” (المرجع نفسه، ص. ٢٢). ومع ذلك، أجد أنّ إسهامها الأبرز في النقاشات حول الترفيه، هو طرحها عن الارتباط ما بين الدولة القوميّة ووجود مفهوم الترفيه، لا سيّما في السياق الحداثيّ المعاصر.
ولذلك فإنّني، إذ أتبنّى تعريف باركر الثاني (الهجين) للترفيه، أتّفق كذلك مع موقف شيپن القائل بأنّ “العلاقة بين الدولة والاقتصاد […] مركزيّة للإتاحة الكلّية للوقت الإضافيّ والاستقلاليّة الزمنيّة، للجميع” (المرجع نفسه، ص. ١٢). وعليه، فإنّ فهم وتوكيد مركزيّة هذه الرابطة سيوجّهان نقاشنا هذا.
“تشارلز تايلور” ومفهوم “المخيال الاجتماعيّ”
يجادل تشارلز تايلور في كتابه عصر علمانيّ (٢٠٠٧)، بأنّ الحداثة الغربيّة نشأت من تبدّلٍ في فهم الأفراد والمجتمعات الغربيّة، في البداية، لحضور الله في العالم. ويحلّل بأنّ هذا الفهم المتبدّل كان نتيجةً غير مقصودةٍ على الإطلاق للإصلاح الديني البروتستانتيّ في القرون الوسطى، وبلغ ذروته فيما يسمّيه تايلور بحالة “الإنسانية الحصريّة،” أو العلمنة، بتعبيرٍ آخر. ويفترض أنّ هذه العلمنة ما هي إلا انعكاس لمخيالٍ اجتماعيٍ متغيّر، ويقول بأنّ الوعي البشريّ كان منغمساً قبل تلك المرحلة في حالةٍ “سحريّة” بفعل انتشار المنطق الدينيّ وقصص الأديان في مفاهيم المجتمعات البشريّة (والغربيّة منها، على وجه الخصوص، هنا)، ليتحوّل إلى حالةٍ “غير سحريّة” من النظر إلى الوجود ومن إدراكه. ويشير مفهوم “المخيال الاجتماعيّ” بحسب تايلور إلى تلك “الطريقة التي نتخيّل فيها حياتنا الاجتماعيّة، حتى لو كان ذلك من الناحية النظريّة، بصورةٍ جماعيّةٍ في عالمنا المعاصر” (تايلور ٢٠٠٧، ص. ١٤٦). أي أن “المخيال الاجتماعيّ” هو ما يُسهم في تقديم فهمٍ شاملٍ لكلٍ من “الذات” الفرديّة لكلٍ منّا، وللعالم الذي نوجد فيه. ويقول أنّه “يتكوّن من ذلك الفهم الذي يجعل من ممارساتنا الاجتماعيّة ممارساتٍ منطقية [ومفهومةٍ ومقنِعةٍ لكلٍ منّا]” (المرجع نفسه، ص. ٣٢٣). وبالتالي، فالمخيال الاجتماعيّ الغربيّ الحديث يتألّف من تداخل المجالات الاجتماعيّة والسياسيّة، بما في ذلك وجود عَقدٍ اجتماعيٍ مستوحىً من مفاهيم عصر التنوير. هذا المجال، أو الفضاء، العامّ “غير سحريٍ” وعلمانيّ؛ واقع اجتماعيّ سياسيّ شكّله اقتصاد السوق. أدّى هذا المسار في الغرب، إلى تطوّر المثُل الديمقراطيّة الليبراليّة (وبخاصّةٍ الحكم الذاتيّ، ومفهوم “المواطَنة”) باعتبارها النموذج المعياريّ السائد—حتى الآن، على كلّ حال. سأوظّف في هذا المقال مفهوم “المخيال الاجتماعيّ” بحسبما قدّمه تايلور، من ناحيةٍ أخرى، للقول بأنّ فهم المجتمعات العربيّة التقليديّ والمتوارث لذاتها وللعالم من حولها متكوّن، في الغالب، من الثقافة الإسلامية. لقد تمّ تشكيل هويّات السوريين تاريخيّاً وبصورتها المعاصرة على عدّة مستويات، ولا سيّما ثقافيّاً وفكريّاً، من خلال هذا التأثير الاجتماعيّ والثقافيّ التاريخيّ البارز.
من الجدير ذكره، ختاماً، أنّني سأشير في هذه المقالة إلى “الإسلام” باعتباره ظاهرةً اجتماعيّةً وثقافيّةً مكوِّنةً للهويّة. أي أنّني لن أتعامل مع الإسلام هنا باعتباره ديناً—أي لن أتعامل مع المعتَقد أو “الدوغما؛” بل كنظامٍ ثقافيّ كما قدّمه نيكلاس لوهمان في كتاب نظريّة النُظم في الدين (٢٠١٣). بمعنىً أدقّ، سأطرح فهماً للإسلام يتماشى مع تعريف تشارلز ليبمان وإليعازر دون-يهيا في كتابهما الدين المدنيّ في إسرائيل (١٩٨٣) للدين، باعتباره تكويناً يتألّف من نظامٍ من المعتقدات، والمدوّنات، والممارسات “التي توفر المعنى النهائيّ من خلال الإحالة إلى قوّةٍ متعاليةٍ[عن البشر].” وذلك لأن هدفي هنا ليس التركيز على الجوانب اللاهوتيّة أو الطقسيّة للدين؛ بل على الجوانب التي يسهِم الإسلام من خلالها في ربط أتباعه “بمجموعةٍ من المفاهيم العامّة، والمميّزة، للعالم” بحسب مفهوم كليفّورد چييرتز الوارد في مقالته الدين كنظامٍ ثقافيّ (١٩٩٣). وهذا ما يهمّ في بحثي هذا، إذ ينتج عن هذا المفهوم “نظرةٌ شاملةٌ للعالم [يعتبرها المسلمون] متوافقة مع ما هو إلهيّ” بحسب ما قدّم له توسيف آزيد ونجم الدين كيزيلكايا في كتابهما العمل في سياقٍ إسلاميّ (٢٠١٧).
الترفيه—المفهوم الإسلاميّ
من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن الأدبيّات الإسلاميّة لا تبدو منشغلةً، بصورةٍ عامّةٍ، بمفهوم الترفيه. بل نجدها تكرّس اهتماماً أكبر بكثير لصياغة موقفٍ أخلاقيٍ وعمليٍ من العمل. إذ يمكن للمرء، على سبيل المثال، بسهولةٍ أن يجد “عدداً معقولاً من المحاولات […] لمناقشة طبيعة العمل وسوقه وتحديد الأجور” (آزيد ٢٠١٧، ص. ٦) في الأدبيّات الإسلاميّة—من القرآن إلى الحديث إلى الإرث الثريّ للمدوّنة الفقهيّة. أما فيما يخصّ الترفيه، يخبرنا حلمي إبراهيم في مقالته الترفيه والإسلام أنّ “الإسلام لم يقدّس الوقت ولا استهجن الأنشطة الترفيهيّة” (إبراهيم ٢٠٠٦، ص. ٢٠٨). وقد صمت المصدران الأصليّان—القرآن والسنّة—عن أوقات الفراغ، ما يشكّل تحدّياً للعلماء المسلمين الذين يحاولون البحث في الموضوع، خصوصاً في المراحل المتأخّرة من التاريخ الإسلامي.
وعلى سبيل المثال، فالقرآن يقدّم رؤيةً عن الجنّة تبدو أقرب ما يكون في التعبير عمّا يمكن تصنيفه “رؤيةً ترفيهيّةً بالمفهوم الغربيّ. يُعلمنا وليام مارتين وساندرا ميسون في مقالتهما الترفيه في سياقٍ إسلاميّ (٢٠٠٤) بأنّ المؤمنين يتمتّعون، في الرواية القرآنيّة، في “جنّات النعيم” بكافّة وسائل الراحة والعديد من الملذّات” (مارتين وميسون ٢٠٠٤، ص. ٥—٦). ويمكننا العثور على التعابير التي تصوّر الترفيه (مثل تعابير “اللعب” و”الرياضة” و”اللهو”) في بعض الآيات في القرآن. ومع ذلك، يبدو أنّ القرآن اختصّها بدلالةٍ سلبيّةٍ في الغالب “للإشارة إلى عدم أهميّتها أو، ما هو أسوأ” (المرجع نفسه، ص. ٦). ففي سورة الأنعام الآية (٦)، على سبيل المثال، يُؤمَر المؤمنون بالتالي: “وذَرِ الذين اتّخذوا دينهم لعِباً ولهواً وغرّتهم الحياة الدنيا.” أمّا في الحديث، يبدو أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام يقدّم وجهة نظرٍ أقلّ حدّةً فيما يخصّ الترفيه. وغالباً ما يستشهد العلماء بدليلَيْن على وجه الخصوص في هذا الصدد. الأوّل، وهو الأشهر، حديثٌ شريفٌ منقولٌ عن ابن عمرٍ: “علّموا أبنائكم السباحة والرماية وركوب الخيل.” وأمّا الثاني، فحكمةٌ منسوبةٌ إلى الإمام عليّ ابن أبي طالب يقول فيه: “روّحوا القلوب ساعةً بعد ساعةٍ، فإنّ القلوب إذا كلّت، عَمِيَت.” وتجدر الإشارة إلى أن الحديث الأوّل يقصر الترفيه على ثلاثة أنشطة جسديّةٍ ذات قيمةٍ محسوسةٍ—والقليل المتبقّي من الترفيه. من ناحيةٍ أخرى، لم يولِ أبو العلوم الاجتماعيّة الإسلاميّة، ابن خلدون (١٣٣٢—١٤٠٦) في كتابه المقدّمة Prolegomena، مثَله مثَل العديد من العلماء المسلمين الآخرين، كبير اهتمامٍ بالرفاه والترفيه—إلا من حيث كونه علامةً على “الانحطاط،” ونذيراً بالانحلال الاجتماعيّ الوشيك. فمن وجهة نظره، فالترفيه مرادف للبذخ والأبّهة—المفهومان اللذان لم يعترض عليهما بحدّ ذاتهما. ومع ذلك، فقد “حذّر مراراً وتكراراً من مخاطر البذخ” (المرجع نفسه، ص. ٤٣). وكان مردّ ذلك تأكيده بأنّ البذخ سوف “يدمّر […] الدين والتماسك الاجتماعيّ والأخلاق” (المرجع نفسه). لامكان للترفيه، إذاً؟
بل العكس تماماً. إذ يشير الباحثون الذين يحاولون إيجاد تكييفٍ إسلاميٍ للترفيه إلى حقيقة أنّ “مجتمعات دمشق وبغداد […] فضّلت بوضوحٍ مجموعةً متنوّعةً من الأنشطة الترفيهيّة” (المرجع نفسه، ص. ٧). وشملت هذه الأنشطة، على سبيل المثال، شرب القهوة والتواصل الاجتماعيّ في المقاهي المستحدَثة في المراحل المتأخّرة في الثقافة الإسلاميّة. ومع ذلك، فحتى في غرّة وعزّ عصور الحكم الإسلاميّ، كان موضوع ما يُشكّل/أو لا يُشكّل ترفيهاً معترفٍ به إسلامياً—خارج نطاق الأنشطة المتعلّقة بالرياضة التي وردت في الحديث المشار إليه أعلاه—مسألة اختلافٍ وسجالاتٍ حامية الوطيس، في بعض الأحيان. وغالباً ما تُعتبر المقاهي مثالاً على شكلٍ مجتمعيٍ للترفيه في السياق الإسلاميّ. وقد باتت المقاهي—بحكم انتشارها في كل مكانٍ منذ دخولها إلى الشرق الأوسط في القرن السادس عشر للميلاد حتى اللحظة—بمثابة تقليدٍ أصيلٍ في المجتمعات الشرق-أوسطيّة. لكن ذلك لم يتحقّق على الفور، إذ يؤكّد رالف هاتوكس في كتابه البنّ والمقاهي، على سبيل المثال، أنّ “الصورة التي ارتبطت عموماً بالمقهى [كانت] صورة الترفيه” (هاتوكس ١٩٨٥، ص. ١٢٠). كانت المقاهي في تلك الحقبة مساحاتٍ للتواصل الاجتماعيّ، والنقاشات، والترفيه المسموح به اجتماعياً. كانت تمثّل “ساحةً عامّة”—أو “فضاءاتٍ عامةٍ،” بالمعنى الذي عرّفه يورغن هابرماس (١٩٩١)؛ أي “فضاءً للحوار، حيث يجتمع الناس من مختلف أجزاء المجتمع وينخرطون في نقاشاتٍ حول المسائل ذات الاهتمام المشترك ويكوّنون، بالتالي، “الرأي العامّ،” ويتوصّلون—إذا أمكنهم ذلك—إلى [صياغة] أحكامٍ مشتركةٍ حول [موضوع] حوارهم هذا” بحسب مقالة ثقافة المقاهي العثمانيّة الحديثة المبكّرة للباحثين أمين كارابابا وغوليز غول (٢٠١١). باتت المقاهي، بالتالي، أماكن “توفّر المتعة الاجتماعيّة، المتعة التي يتشاركها الناس عندما يجتمعون” (المرجع نفسه، ص. ٧٤٥)؛ ولكنّها شكّلت كذلك فضاءاتٍ “تتلاقى فيها السياسة بالمجتمع” (المرجع نفسه، ص. ٧٤٦)، بصورةٍ حتميّةٍ، ربما. وقد أبدى العديد من الشخصيّات الدينيّة معارضةً لهذا النشاط لأنّهم اعتبروا أن التردّد على المقاهي يمثّل نشاطاً “ذا طبيعةٍ فاسدةٍ وفاسقة” ولم “يعتبروه [نشاطاً] مثمراً […] فما كان كسل مرتادي المقاهي جديراً بأيّ ثناء” (المرجع نفسه). وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى جانبٍ بارزٍ آخر في النظرة الإسلاميّة للترفيه: الطبيعة الجندريّة لأنشطته—وللآراء الاجتماعيّة حولها. فمن اللافت للنظر حقيقة أن ثقافة العالم الإسلاميّ ذات نزعةٍ يهيمن عليها الحضور الذكوريّ—والغياب الأنثويّ—في الفضاء العامِ، بصورةٍ شديدة الوضوح إذ “يتمّ الفصل بين الرجال والنساء في حيواتهم الاجتماعيّة؛” وحيث أنّ ارتياد المقاهي والأماكن العامّة الأخرى كما وكافّة الأنشطة الترفيهيّة الأخرى في الفضاء العامّ، بالتالي، “كانت على الدوام مجالاً [محصوراً بـ] الرجال” (إبراهيم ٢٠٠٦، ص. ٢٠٧). وفي حين أنّ هذا الجانب بالذات بدأ يتغيّر بصورةٍ متسارعةٍ في العديد من المجتمعات ويستحقّ، بالتالي، بحثاً منفصلاً ومفصّلاً؛ إلا أنّ هذا خارج نطاق هذه المقالة.
أخيراً، أجد أنّ أهمّ ما تجدر الإشارة إليه هو دور سلطة الدولة في العالم الإسلاميّ في السماح بخلق مساحاتٍ للترفيه في المجتمعات الإسلاميّة وفرض الرقابة عليها. يتحدّث روبرت ستيبينز في كتابه العمل والترفيه في الشرق الأوسط (٢٠١٣) عن هيمنة الدولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مشيراً إلى تجلّي هذه “الهيمنة” بصورةٍ ساحقةٍ في مجالَيْ الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة—وبصرف النظر تماماً، ما إن كان ذلك في معرِض الاسترشاد الفعليّ بالتعاليم الإسلاميّة لاعتباراتٍ دينيّةٍ، أو في معرِض اعتبارات سياسة القوّة المجرّدة، وحسب. وإذ تعود هذه الظاهرة إلى التاريخ الإسلاميّ المتوسّط، إلا أنّها أصبحت أكثر منهجيّةً وقوّةً وانتشاراً في ظلّ الدولة القوميّة الحديثة—والتي تتصّف بالعلمنة، واللادينيّة في تطبيقها لسلطتها إلى حدٍ كبير. تَنظُم الدولة الحديثة الترفيه بصرامةٍ إذ تخشاه، بحسب تعبير ستيبينز، باعتباره يمثّل “أكثر مؤسّسات المجتمع حرّيةً.” وتحقّق الدولة هيمنتها على الترفيه عن طريق تقديم “مجموعةٍ يوميّةٍ من الموانع [أو المحظورات] على أوجه [الترفيه]” (ستيبينز ٢٠١٣، ص. ٦). فقد كان المقهى، ذلك المنتدى العامّ الذي أشرنا إليه أعلاه، على سبيل المثال، ومنذ القرن السادس عشر حتى اليوم، هو أحد المساحات التي خضعت لقسوة تدخّل الدولة وهيمنتها. وعلى سبيل المثال، فقد أبدت السلطات العثمانيّة الأولى قلقها من أنّ “أحاديث المقاهي لم تكن [أحاديث] “فارغةً” بالكامل” (هاتوكس ١٩٨٥، ص. ١٠١)؛ وضيقها من تحوّل المقاهي إلى منتدياتٍ “لنشر الأخبار والآراء والمظالم المتعلّقة بالدولة في العلن” (المرجع نفسه، ص. ١٠٢). وحتى في العقود القليلة الماضية، باتت مقولة أنّ “أكثر من انقلابٍ انطلق من أحد المقاهي، أو تمّ التآمر عليه فيها” (المرجع نفسه) مقولةً شبه-بديهيّة. لذلك، أصبحت المقاهي أماكن مشبوهةً، وتعرّضت للاختراق من أجهزة المخابرات، وتمّ استخدامها لنشر الأخبار والشائعات المؤيّدة للدولة وفي حال فشل كلّ أمرٍ آخر، تمّ قمعها وإغلاقها.
وهنا أزعم أنّ الترفيه في السياق الإسلاميّ بقي محصوراً في واحدٍ من ثلاثة أنواع رئيسةٍ: (أ) الترفيه باعتباره نشاطاً اجتماعيّاً خاضعاً لرقابةٍ صريحةٍ من قبل الدولة، باعتباره “مُعرَّفًا على أنه نشاطٌ منحرفٌ بشكلٍ خطيرٍ، عملاً تخريبيّاً” (ستيبينز ٢٠١٣، ص. ٦)؛ (ب) الترفيه كنشاطٍ مسموحٍ به دينيّاً—وتحديداً في نطاق بعض الألعاب الرياضيّة والأنشطة التي يهيمن عليها الذكور، حصراً؛ (ج) أوقات الفراغ غير الخاضعة للرقابة أو غير الممنوعة صراحةً—أنشطة غير محدّدة، واقعةٍ في منطقةٍ “رماديّة” لكنّها، في نهاية المطاف، في مصافّ الأنشطة “المشبوهة” والمتنازع في “شرعيّتها،” شرعاً وقانوناً.
الترفيه في عهد الأسد
بناءً على ما سبق، أجادل في هذا المقال بأنّ حياة الغالبيّة المطلقة من السوريّين تحت حكم حزب البعث (١٩٦٣—١٩٧٠)، وبصورةٍ أكثر تحديداً في ظلّ نظام الأسدَيْن (١٩٧٠—٢٠٠٠ في عهد “حافظ،” ومن العام ٢٠٠٠ حتى اللحظة، في عهد ابنه “بشار”) اتّسمت بعدّة طبقات من “الاستعمار” لحياتهم ولوقتهم. أول أشكال هذا “الاستعمار،” ناتجةٌ عن الأصل الاستعماريّ/الكولونياليّ للدولة الحديثة نفسها. فبالنسبة لعموم السوريّين كانت، ولا زالت، الدولة الحديثة تمثّل لهم في رأيي واحدةً من بقايا الفرض الاستعماريّ، ظاهرةً خارجةً عن حياتهم ومعاديةً لهم ولها؛ ظاهرةً تتعدّى—بصورٍ مختلفةٍ وعلى مستوياتٍ متعدّدة—على مخيالهم الاجتماعيّ وثقافتهم وتقاليدهم الاجتماعيّة ذات الجذور والأصول الإسلاميّة. وفي هذا المجال، يشبه السوريّون بقيّة المجتمعات في منطقتهم وفي الجنوب العالميّ، على العموم. وثاني أشكال هذا “الاستعمار،” ناجمٌ عن قمع الدولة الأسديّة (على الطريقة الاستعماريّة) مفرط الشراسة للمجتمع السوريّ. إذ تتميّز الدولة الأسديّة بنظرةٍ معاديةٍ للمحكومين بحسب ياسين الحاج صالح (٢٠١٧). وتتجلّى هذه النظرة في محاولاتها النشِطة لإخضاع المجتمع وممارسة سيطرةٍ شاملةٍ وهيمنةٍ تامّةٍ عليه في جميع الأوقات. تترجم الدولة الأسديّة أبسط أفعال الترفيه البسيطة والتقليديّة في المجال العامّ، إذا مورِسَت خارج سيطرة الدولة المباشرة أو معرفتها، على أنّه فعل مقاومةٍ وتحدٍّ لسلطتها؛ بوصفه ليس أقلّ من عملٍ تخريبيٍّ خطيرٍ، حتى. وتقوم الدولة “الأسديّة،” بالتالي، إمّا بملاحقة، أو إحباط، أو القضاء المبرم على مثل هذا العمل المتحدّي—مهما بلغ من الضآلة. وأخيراً، فثالث أشكال هذا “الاستعمار،” يتجسّد في “استعمار” الدولة “الأسديّة” لوقت السوريّين—أي لفضائهم العامّ، مثَلها في ذلك مثّل باقي الدول الحديثة ضمن الإطار العالميّ لأنماط الإنتاج الرأسماليّة. وهو ما تشير إليه “شيبين” على أنّه “استعمار الوقت” (شيبين ٢٠١٤، ص. ١٣)؛ بمعنى قيام الدولة في الاقتصاد الرأسماليّ باستعمار وقت الأفراد “ليس فقط من خلال [تشغيلهم في] عمليّات الإنتاج، بل كذلك من خلال [أنماط] الاستهلاك” (المرجع نفسه، ص. ٩٥). وترى “شيبين” أنّ هذه العمليّة لا تؤدّي إلّا إلى “إعادة بناء الفهم الاجتماعيّ [لمعنى وقيمة] الوقت،” يتضمّن “التقليل من شأن التسليم الإنسانويّ الكلاسيكيّ [بحقّ الأفراد] في الترفيه” (المرجع نفسه ص. ١٤).
أقدّم في هذا المقال فكرةً مفادها أنّ حياة السوريين في ظلّ الدولة القوميّة الحديثة، وبخاصّةٍ في ظلّ الدولة “الأسديّة،” تتكوّن من مستويَيْن من “الثنائيّات،” يتواجد واحدهما فوق الآخر. فمن ناحيةٍ، نجد البنية الفوقيّة للفضاء العامّ، المتكوّنة من بُنىً فوقيّة علمانيّةٍ تهيمن عليها، أو “تستعمرها” بالأحرى، أيديولوجيّة بعثيّة علمانيّة حازمة، وإن بصورةٍ رمزيّةٍ وحسب، وجهاز دولةٍ حديث—مهما ضعُفت كفاءته. إذ لا يعني وجود جهاز الدولة “الحديث” هذا بالضرورة وجود دولةٍ مهنيّةٍ أو بيروقراطيّةٍ كفوءةٍ وفعّالةٍ بالمعنى الذي نظّر له ماكس ڤيبر. هذه، في الواقع، مؤسّسةٌ متخلّفة، دونما هويّة دولةٍ ناجزةٍ أو تقاليدها، ملآى بالفساد، وأداؤها البيروقراطي أقرب إلى الارتجال وضعف الكفاءة، إن لم نقل انعدامها. هذا فيما خلا ذراعها الأمنيّ الذي يتمتّع وحده بكفاءةٍ معقولة، وفي حدود حاجات النظام للحفاظ على بقائه وهيمنته، وحسب. وبسبب طبيعة النظام، وضعف سيطرته وضيق قاعدة سلطته الضيقة—يتمّ تجسيد هذا الأداء بمنح أجهزة الأمن هذه دوراً كلّي القدرة، ووحشي الأداء، ودونما رادعٍ تقريباً. ويتميّز هذا المستوى من الفضاء العام بازدواجيّته الخاصّة بين العلمانيّة والحداثة، بكافّة زخارفها المادّية/الملموسة، والرمزيّة. ومن ناحيةٍ أخرى، تستمرّ الغالبيّة العظمى من السوريّين في العيش في إطار بنيةٍ تحتيّةٍ تتمثّل في فضاءاتهم الخاصّة (الآخذة في الانكماش بصورةٍ متزايدة)، والتي تتألّف من أقاربهم وعائلاتهم الصغيرة والممتدّة. ولكن، حتى هذا الفضاء الخاص لم يكن بمعزلٍ عن بعضٍ من التأثّر ببعض الجوانب العميقة أو الشكليّة للحداثة، وكان أبرز دليلٍ مرئيٍّ درَج استخدامه للاستدلال على تسرّب مفاهيم الحداثة—حتى لو كان هناك اختلاف في مدى صحّة هذا الاستدلال من عدمه—هو التغييرات في قواعد اللباس. فما بين الخمسينيات والثمانينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال، توقّفت غالبيّة واضحة من النساء السوريّات في المدن الكبرى، حتى اللائي جئن من خلفيّاتٍ دينيةٍ أو تقليديّة، عن ارتداء الحجاب التقليديّ. وحتى مع عودة التحجّب بصورةٍ واضحةٍ وبارزة مع مطلع التسعينيّات، فقد كانت الأزياء المنتشرة ذات نمطٍ هجينٍ ما بين أنماط الأزياء الغربيّة والزيّ التقليديّ في دلالةٍ مرئيّةٍ على عمق بعض التغييرات في الثقافة العامّة. ومع ذلك بقي الفضاء الخاصّ للسوريّين، على الرغم من انحساره المستمرّ، وكأنّه لم يتغيّر تقريباً ومحكوماً بثنائية الإنسان الضعيف الكسير، والله كلّي الوجود. وحتى رغم وجود فضاءٍ يفصل بين الله والإنسان لكنّه كان دائماً شديد الضيق؛ ضيّق إلى درجة أنّ القرآن يصفه بأنّه “أقرب إليه [الإنسان] من حبل الوريد” كما ورد في سورة قاف، الآية ١٦. وهذا لم يترك مجالاً كبيراً لأيّ دولةٍ أو أيديولوجيّةٍ أو مفاهيم الحداثة حتى—وأصبح كذلك خطّ الدفاع الأخير للكثير من السوريّين ضدّ تعدّيات الدولة الحديثة، و”المستعمِرة” لوقتهم وحياتهم.
يمكن، بالتالي، فهم شعور السوريّين المستمرّ بـ”الاغتراب،” بكونهم محاصرين. يعيش السوريّون ما يسمّيه الباحث بسّام الطيبي “التزامن غير المتزامِن” [أو كما يكتبها بالألمانيّة، Gleichzeitigkeit vom Umgleichzeitigen]؛ وهي حالةٌ تتميّز بـ “الوجود المتوازي لنمطَيْن اجتماعيّيْن وسياسيّيْن، يأتي الأصل الاجتماعيّ لكلٍ منهما من حقبةٍ تاريخيّةٍ مختلفةٍ تماماً” (الطيبي ١٩٩٠، ص. ١٢٨). السوريّون، بهذا المعنى، “عالقون” ما بين مخيالهم الاجتماعيّ التقليديّ وما بين واقعهم الزمنيّ والسياسيّ الحديث، وكلٌّ منهما يفرض عليهم نظرةً متمايزةً للعالم—ولا يمكن التوفيق بينهما، في بعض النواحي. فمن حالةٍ كانوا فيها “منفتحين ونَفوذين [كالمسامات، بحسب تشبيه تشارلز تايلور] وعُرضةً لعالم الأرواح” (تايلور ٢٠٠٧، ص. ٢٧) دُفِع بالسوريّين فجأةً إلى عصر ما يدعوه “تايلور” بـ”الفردانيّة المنعزلة.” تعطي الهويّة “المنعزلة” الأولويّة لـ “التفاني والانضباط الشخصيّ [والذي، بالتالي، يزيد] المسافة، وتفكيك الهويّة، وحتى العِداء للأشكال القديمة من الطقوس والانتماء الجماعيّ” (المرجع نفسه، ص. ١٥٦). لقد امتلك المخيال الاجتماعيّ السوريّ التقليديّ رؤيةً محدّدةً لما يسمّيه “تايلور” بـ”الاندماج الاجتماعيّ:” أي، بمعنىً آخر، “عدم القدرة على تخيّل الذات خارج مصفوفةٍ معيّنة” (المرجع نفسه، ص. ١٤٩—١٥٠)؛ وفي سياقنا هذا، خارج منظومة القيَم الثقافيّة ذات الأصول الحضاريّة الإسلاميّة.
على أنّ تجربة السوريّين التاريخيّة مع الترفيه قبل وجود الدولة القوميّة الحديثة لم تختلف كثيراً عنها بعد قيامها. إذ تجدر الإشارة إلى كيف أن الترفيه—باعتباره نشاطاً يضيف قيمةً معياريّةً ويوفّر فضاءً عامّاً خالياً من تدخّل الدولة—لم يتمكّن تاريخيّاً من أداء وظيفته المتمثلة في توفير “مكانٍ ثالثٍ” (كارابابا وغوليز ٢٠١١، ص. ٧٣٨)، أي بتوفير فضاءٍ عامٍّ مستقلٍّ وبعيدٍ عن السيطرة القمعيّة للدولة. فقد كانت نظرة التقاليد الإسلاميّة، كما اكتشفنا أعلاه، شديدة التناقض فيما يتعلق بالترفيه. حيث نظرت إليه باعتباره نشاطاً ناشزاً وشاذاً أو أنزلته منزلة الشكّ والمنطقة الرماديّة، غير الواضحة، لكنّها في الغالب مشبوهة، في أحسن الأحوال. وهذا يعني أنّ السوريّين لم يمتلكوا حقّاً أي توجيهٍ إسلاميٍّ واضحٍ لا لُبس فيه فيما يتعلّق بما هو ترفيه مقبول وما هو غير ذلك؛ وبالتالي، لم يجدوا طريقةً مستقلّةً لتشكيل فضائهم العامّ الحرّ. كان الفضاء العامّ، تقليديّاً، هو المسجد: ليس فقط باعتباره مساحةً للصلاة والتعبّد، بل وللنقاشات والسياسة والأعمال والتجارة، ولإنتاجٍ أدبيٍ محدود (دينيٍّ بصورةٍ أساسيّة)، والتواصل الاجتماعيّ على مستوياتٍ متعدّدة. على أنّ المسجد نفسه، ومنذ المراحل الأولى للدولة الإسلاميّة تحت حكم الأمويّين في القرن الثامن وما بعده، ووصولاً إلى الدولة القوميّة الحديثة، بقي هو نفسه تحت تأثير وسيطرة العلماء—الذين بقوا بعيدين كل البعد عن الاستقلال في مواجهة السلطة. فقد كان هؤلاء العلماء، في الغالب، مُحابين طوعاً أو خاضعين بالإكراه مباشرةً لهيمنة الدولة، أيّاً كانت وفي أية حقبةٍ وجِدت.
يواجه السوريّون، مثَلهم في ذلك مثَل مجتمعات الجنوب العالميّ الأخرى، ازدواجيةً أخرى وأخيرة في نظري. تتمثّل هذه “الازدواجيّة” في مواجهة التحدّيات التي يفرضها عليهم النظام الرأسماليّ المعولَم، الذي “يستعمر” وقتهم ويحدّ من حرّيتهم من خلال التعدّي المتزايد على فضائهم العامّ. لكنّهم، بالإضافة إلى ذلك، يواجهون تحدّياً لا يقل صعوبةً في تحديد واختيار وصياغة شكل فضائهم العامّ: هل سيكون علمانيّاً حديثاً، مستنيراً بأفكار ومُثُل عصر التنوير وحداثة ما-بعد الصناعة؟ أم أنّه سيكون إسلاميّاً تقليديّاً، وأقرب إلى مخيالهم الاجتماعيّ التقليديّ؟ أم أنّه سيكون مزيجاً هجيناً من الاثنين يسترشد، بحسب ما يقدّمه كيث واتينبوه (في كتاب الحداثة في الشرق الأوسط، ٢٠٠٦) ببعض “العمليّة البراغماتيّة الجديدة [القائمة على] التكيّف/المواءمة المحلّية مع الحقائق الاقتصاديّة والسياسيّة والتكنولوجيّة [العولميّة] الملموسة؟” يواجه السوريون هذه الأسئلة، وهم يتعاملون مع ما لا تُضطرّ مجتمعات الشمال العالميّ إلى مواجهته: أن يتعاملوا مع دولةٍ متوحّشةٍ ووحشيّةٍ وعنيفةٍ فيزيائيّاً، يبدو أنّ فهمها لدورها وأدواتها محصورٌ في القمع الجماعيّ والمفرط في العنف (على النمط الاستعماريّ/الكولونياليّ) لأيّة مظاهر للاستقلاليّة في الفضاء العامّ. وما الوحشيّة الساحقة التي قوبل بها أبسط أفعال المطالبة بنفس الحقوق الديمقراطيّة التي باتت من المسلّمات في شمال الكرة الأرضيّة إلّا دليلاً على مدى القمع العنيف الذي ستوغل فيه هذه الدولة. كما أنّه مؤشّر على مدى ضعف قدرة المجتمع على المقاومة وانكشافه أمام القوة القمعيّة المفرِطة للدولة.
وفي مثل هذا السياق، قد يجد الكثيرون أنّ أيّ نقاشٍ حول الترفيه يبدو، بهذا المعنى شكلاً من أشكال السفسطة، والسطحيّة، والعبثيّة—أو، بمعنىً آخر، شكلاً من “الرفاهية” البعيدة عن متناول وهموم غالبيةٍ كبيرةٍ من السوريّين.