تتطرق كثير من النقاشات في المجال العام إلى مصطلحين شهيرين في العلوم الإنسانية هما القومية والأمة. يلتبس هذان المصطلحان على كثيرين متوهمين ترادفهما، مع اختلاف دلالاتهما ومفهومهما. هذا التداخل المفاهيمي يؤكد أهمية فهم الفرق بينهما . أُحاجج في هذه المقالة أن الأمة تُعبّر عن مفهوم سياسي مختلف عن مفهوم القومية. وأبين حضور السياسية في مفهوم الأمة وغيابه في مفهوم القومية.
تدل كلمة “قومية” في نقاشنا على معنيين؛ الأول هو “الجماعة القومية” وهي مجموعة من الأفراد يتشاركون عناصر كاللغة والثقافة. تختلف حدود الجماعة القومية باختلاف نشأتها، وقد تشمل عناصرها عوامل كالدين والجغرافيا والأصل الإثني أو العرقي. ليست الجماعة القومية هنا كيانا سياسيا، إذ يمكن أن تظل الجماعة القومية رابطة ثقافية واجتماعية تجمع بين أفرادها بلا سعي لأي سيادة سياسية.
المعنى الثاني للقومية هو “العقيدة القومية” (Nationalism) ويقصد بها الفكرة الأيدولوجية الساعية لإضفاء البعد السياسي مع البعد الثقافي واللغوي للجماعة القومية. يقوم هدف بعض “الحركات القومية” على تسييس الجماعة القومية وتحويلها من جماعة غير سياسية إلى أمة سياسية ذات سيادة بتسييس هويتها، سواء أكانت الهوية طائفية أو دينية أو عرقية أو حتى لون البشرة .
حصل الخلط بين الجماعة القومية والأمة لنجاح كثير من الحركات القومية الأوربية في بناء أمم سياسية على أسس قومية كنموذج الوحدة الألمانية عام 1871 والتوحيد الإيطالي عام 1861 واستقلال بولندا عام 1918 وغيرها. لم تقم الأمم كلها على أساس قومي، وأعني بالأمة مجموعة الأفراد الذين يعيشون في حدود دولة ما ويشتركون في هوية وطنية واحدة، فتُصنع الأمة على يد الدولة بإنتاج خطاب وطني لأفرادها بوسائل متنوعة مثل تصميم العلم الوطني وابتكار المناسبات الوطنية والنشيد وتوحيد الاقتصاد ومناهج التعليم والحدود الترابية. فقد تتكون الأمة من أكثر من جماعة قومية كما هو الحال في سويسرا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية وجل دول أمريكا اللاتينية، حيث هوية المواطنة فيها ليست هوية عرقية أو لغوية.
يمكن من هذا التعريف ملاحظة أن العامل الجوهري في التمييز بين الجماعة القومية والأمة هو حضور الدولة. فالأمة جماعة سياسية استطاعت نيل سيادتها بإقامة دولة. لعل أهم هذه الأمثلة في عصرنا هو تحول اليهود في فلسطين من جماعة دينية واجتماعية إلى أمة سياسية استطاعت إقامة دولة تتعامل فيها مع اليهود المقيمين فيها أنهم مواطنون في دولة غير سائر يهود العالم.
تتنوع طرق تأسيس الأمة بين نماذج مختلفة. فبينما تقوم بعض الأمم على الوحدة القومية، هناك أمم متعددة القوميات تندمج فيها جماعات ذات هويات قومية متنوعة في دولة واحدة. فالتجانس القومي ليس شرطًا لتعريف الأمة، فيمكن بناء هوية وطنية جامعة تتجاوز الهويات القومية والدينية بأسس مختلفة، فبلدان مثل بلجيكا وكندا وسويسرا نجحت في بناء هويات وطنية شاملة تعزز الوحدة والتكامل بين مكونات مجتمعاتها المتنوعة، مما يبرز قدرة الأمة على تحقيق التجانس بإطار سياسي مشترك غير قومي.
ختامًا، تنشأ الجماعة القومية تلقائيًا من الروابط الثقافية والتاريخية، بينما تُبنى الأمة بعملية سياسية تهدف إلى تكوين هوية وطنية في إطار الدولة، ما يعكس التباين بين النشوء العفوي للقومية والتأسيس المنظم للأمة التي قد تشمل أكثر من جماعة قومية.