بدأ الاستشراق حقلاً أكاديمياً يهدف إلى دراسة الشرق وثقافته بمنهج علمي موضوعي، لكنه كان يحمل – بغير وعي – في طياته رؤى فلسفية عن الغرب “الأنا” والشرق “الآخر”. نتجت تلك الرؤى الفلسفية المسبغة هالةً من القداسة على “الأنا” والُمهمِّشة “الآخر” من مصادر فلسفية مختلفة كنظرية التفوق العرقي، ونظرية التحديث، وغيرها من النظريات المحدِّدةِ معيار الخير والشر. شكَّلت تلك الرؤى العلاقة بين السياسة ممارسةً والأخلاق معياراً، مما حال دون الفصل بينهم. ويعد فيلم جسد من الأكاذيب (Body of lies) من تجليات الفكر الاستشراقي في المجال الثقافي، ما يُعلي شأن عرض رؤية نقدية للفيلم تبرز المضامين الاستشراقية في العلاقة بين الأنا والآخر، وذلك بعرض أسلوب الثنائيات المتضادة في الفكر الاستشراقي.
قصة (Body of lies) عن عميل في المخابرات الأمريكية اسمه “فيرس” يكلَّف بملاحقة إرهابيٍّ يُدعى “السليم”، متورط بعدة تفجيرات في العالم، بمشاهد درامية بين العميل فيرس مع رئيسه “إدوارد هوفمان” اليميني المتعصب، و”هاني سلامة” ضابط المخابرات الأردني. يبرز الفيلم السياسات غير الأخلاقية لجهاز المخابرات الأمريكية في “الشرق الأوسط”، مع توضيح سمات الجماعات الإرهابية، التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية التخلص منها؛ وتُعدّ هذه رسالة الفيلم. صدر الفيلم في (2008) بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (2001) و”الحرب على الإرهاب” التي شنها جورج بوش الابن.
في بداية الفيلم يدور نقاش بين المسؤولين في المخابرات المركزية الأمريكية، “وإدوارد هوفمان” مسؤول قسم “الشرق الأوسط” قائلا عن الجماعات الإسلامية المتطرفة: “إن هؤلاء الناس لا يريدون التفاوض أبداً، يريدون أن تقام الخلافة العالمية على وجه الأرض، ويريدون لكل كافر أن يهتدي، أو يموت”. تبرز هنا كيف يرسم الفيلم الآخر بين ثنائيات الخير والشر، وإن استدعينا مقولة كارل ماركس الشهيرة: «إنهم لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولا بد أن يمثلهم أحد». تبيَّ كيف يقوم “الأنا” في المشهد الأول بتمثيل “الآخر” والتحدث نيابة عنه، وإضفاء صفات سيئة متخيلة عليه، وإلباس مصطلحات دينية كالخلافة وإقامتها بالإرهاب والعنف، وهو ما يوضحه قول “فيرس” في مشهد آخر: “إذن فهو يصلي الصلوات الخمس، يؤمن بالله، فكيف سيتعامل مع كافر مثلي”، فالفيلم يصوِّر أن الالتزام بالمظهر السطحي للدين يجعل المسلم خطرًا!!. في استحضار للخبرة الأوروبية في صراعها مع الدين وعدِّه مصدراً للرجعية والشرور وإسقاط تلك الخبرة على الشرق.
تظهر تجليات رؤية الاستشراق الاختزالية للآخر بوصم الفيلمِ الشوارعَ والأسواق والمستشفيات في الدول العربية بالفوضى والعنف والأمراض، وفخر الأنا “الدول الغربية” بالشوارع النظيفة والبيئة السلمية؛ في استحضار لثنائية التقدم والتأخر.
ومن التجليات المهمة في الفيلم إبراز الآخر متخلفاً حضاريًا وسياسيًا. ففي مشهد حديث “فيرس” مع “هاني سلامة” يتضح كيف يرى رجلُ السياسة الغربي النظمَ العربية، إذ يحاول “فيرس” إقناع “هاني سلامة” بمساعدته على الوصول للملك، فيخبره هاني بأنه هو الملك في الأمور الأمنية!. فالفيلم يصور النظم السياسية العربية نظماً أمنية غير ديمقراطية مبرزاً الأثر الكبير للأجهزة الأمنية فيها.
لا يستطيع المنطق الاستشراقي رسم نفسه بلا تحديد الآخر، وبما أنه ينظر أنه الأعلى والأرقى وحامل لواء الحضارة، فإن أي اختلاف معه “الأنا” يصيّر المختلف “الآخر” بربرياً معادياً للتقدم والتحضر تجب محاربته، فهي علاقة تلازم حتمية يقوم المنطق الاستشراقي الحداثي بإنتاجها؛ لذلك تصبح النتيجة المنطقية هي استهزاء “إدوارد هوفمان” برغبة “فيرس” في البقاء في الشرق الأوسط قائلًا : “لا أحد يحب الشرق الأوسط”.