الكم الهائل من التحليلات السياسية حول الشرق الأوسط هو إنعكاس لحقيقة اختلال موازين القوى في المنطقة. بدءاً بالأحداث التي بدأت منذ الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م مروراً بالثورات العربية هزت الحكومات والمجتمعات. في خضم تلك الأحداث ظهرت تحليلات عن أفعال وردود أفعال كل دولة في الشرق الأوسط، وبعض هذه التحليلات تجادل بأن إيران تريد الهيمنة على المنطقة وتحليلات أخرى ترى أن بعض الدول العربية تتخذ سياسات ردة فعل لهذه الهيمنة بالمحاولة أيضاً للهيمنة على الوطن العربي لتدحر الهيمنة الإيرانية، وتحليل آخر يجادل بأن الولايات المتحدة هي المهيمن العالمي ويؤكد أنها أيضاً تهيمن على الشرق الأوسط كذلك. هذا يدعونا لطرح السؤال الرئيسي لهذا المقال: هل بالفعل هناك دولة شرق أوسطية تهيمن على المنطقة، وهل أمريكا هي المهيمن العالمي؟ للإجابة على هذا السؤال الرئيسي، سأستخدم نظرية المهيمن الإقليمي للدكتور جون ميرشهيمر، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيكاغو في الولايات المتحدة، أحد رواد المدرسة الواقعية الهيكلية في العلاقات الدولية، ومحاججتي في هذا المقال هي التالي: لا يوجد مهيمن في الشرق الأوسط، وما تشهده المنطقة هو ردود أفعال دول المنطقة لملئ الفراغ نتيجة غياب مهيمن. من المهم بمكان قبل الخوض في نظرية المهيمن الإقليمي وشرح ما يمكن أن تقدمه لتحليل سباق الهيمنة في المنطقة، لابد أن أبدأ بشرح المدرسة الواقعية وكيفية تطورها مع ذكر أيضاً المدرسة الفكرية المنافسة لها وهي الليبرالية، لأن المدرسة الليبرالية جزء مهم في تطور المدرسة الواقعية. سيكون ترتيب المقال كالتالي: سأبدأ بشرح المدرسة الواقعية والجدل الذي أحدثته مع المدرسة الليبرالية، ثم سأشرح ما يمكن أن تقدمه نظرية المهيمن الإقليمي لمنطقة الشرق الأوسط، وأخيراً سأذكر لانتقادات التي وجهت ضد نظرية المهيمن الإقليمي.
كل مدرسة فكرية تقدم لنا نظريات لتفسير سلوك الدول في الساحة الدولية. الواقعية تركز على اعتبار الدول أهم عوامل التأثير في الساحة الدولية، وأن الدول عبارة عن وحدات كامنة، حيث أن سياساتها الداخلية ليس لها أثرٌ على سلوكها في الساحة الدولية. والليبرالية الحديثة ترى عكس ذلك حيث أنها تركز على السياسيات الداخلية لتفسير السلوك والعلاقات بين الدول. قبل الخوض في السرد التأريخي عن المدرسة الواقعية، من المهم بمكان ذكر أهم مُسَلمات الواقعية في العلاقات الدولية كانت كلاسيكية أم الحديثة المصنفة بالهيكلية. الواقعية ترى أن الدول تسعى للبقاء، وعليه، الدول في صراع دائم على القوة من أجل ضمان بقائها. وفي خضم هذه البيئة الدولية، هذا يجعل الدول تتصرف بعقلانية وتسعى لضمان مصالحها دون الأخذ بالمعايير الأخلاقية في ضمان المصالح. بالاضافة، يؤكد رواد المدرسة الواقعية أن الدول هي اللاعب الأساسي في الساحة الدولية والمؤسسات والمنظمات الدولية هامشية ولا تلعب نفس قوة دور الدول.
الواقعية الكلاسيكية
جذور المدرسة الواقعية الكلاسيكية تعود لعام 416 قبل ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام، أي إلى ما قبل 2432 سنة. بدأت بالمؤرخ الإغريقي ثوسيديديس في كتابه “تأريخ حرب البيلوبونيسية” هذه الحرب التي كانت بين الإمبراطورية الأثينية واسبرطة. الحدث المهم في كتابه هو عن جزيرة ميلوس التي كانت تريد أن تكون محايدة أثناء هذه الحرب، لكن أثينا أرادت من ميلوس أن تتحالف معها بالقوة، والأخيرة لا تريد ذلك والنتيجة هي أن أثينا حاربت ميلوس وقتلت رجالها وأسرت نسائها وأطفالها. قام ثوسيديديس بتدوين الحوار الذي قام ما بين السفير الأثيني مع السفير الميليني قبل اندلاع الحرب، ولغة الحوار بينهما جسدت الفرق بين القوة والمثالية في العلاقات الدولية. السفير المليني أكد أن شعبه سينتصر لأنه مع العدالة والآلهة ستنصرهم، وجاء رد السفير الأثيني أن الآلهة والرجال لا يعترفون إلا بالقوة، ونحن نمتلك القوة ولذلك سننتصر. الشاهد في هذا الحوار أن الواقعية الأثينية المستندة على القوة هي التي انتصرت في الأخير، ومثالية ميلوس هُزمت، وما أراد وصفه المؤرخ ثوسيديدس هو أن القوة في العلاقات الدولية هي صمام الأمان لأي دولة قي علاقاتها مع الدول الأخرى.
أحد رواد المدرسة الواقعية الكلاسيكية، الفيلسوف الانجليزي توماس هوبز، الذي وضع مفهوم الواقعية في كاتبه “اللفاياثن” وتوصيفه للواقعية في كتابه هو نتيجة ما شاهده من ويلات الحرب الأهلية الإنجليزية بين عام 1642-1651م . الفوضى العارمة والقتل الذي شهده هوبز أكد عنده الطبيعة البشرية العدوانية الميّالة للشر أكثر منها للخير في ظل غياب سلطة مركزية، حيث أن أشهر جملة مقتبسة من كتابه تصف طبيعة الحياة البشرية من منظوره “حياة الإنسان انطوائية، فقيرة، قذرة، وحشية، وقصيرة” وأن الإنسان في قانون الطبيعة يقتل الآخر لضمان بقائه. لم يكتب هوبز عن العلاقات الدولية كثيراً، حيث أن كتابه يركز على السياسة الداخلية للدول وأهمية وجود سلطة مركزية لتقييد النفس البشرية العدوانية، إلا أن رواد المدرسة الواقعية يتخذونه مرجعاً لطبيعة الإنسان والتي تنعكس على طبيعة تصرفات الدولة في الساحة الدولية.
الليبرالية الكلاسيكية
يعود بعض العلماء لجذور هذه المدرسة الفكرية لما قبل إيمانيويل كانت، لكن في هذا المقال سأبدأ بكانت لا لأنني أعتقد أنه أول مُنِظر لليبرالية، لكن لأنه الأبرز في هذه المدرسة الفكرية. في عام 1795م نشر الفيلسوف الألماني إيمانيويل كانت بحثاً أسماه “السلام الدائم.” هذا البحث يضع نقاطاً أساسية لإصلاح العلاقات بين الدول للتقليل من احتمالية نشوب الحروب، وهذا يعني أن النقاط لا تصف العلاقات بين الدول كما هي، وإنما كما يجب أن تكون لإحلال وإدامة السلام العالمي. يمكن تلخيص النقاط الرئيسية كالتالي: تلغى المعاهدات السرية التي تحتوي على نية ضمنية لإحتمالية نشوب حرب مستقبلية. يتم حل جميع جيوش الدول ولا يحق لأي دولة، صغيرة أو كبيرة، أن تسيطر أو تهيمن أو تدخل في شؤون أي دولة أخرى، حتى أن كان ذلك لتحصيل الديون. وأخيراً، لا يحق لأي دولة أثناء الحروب أن تعين مرتزقة أو تحرض على الفتنة أو تحرض مواطني الدولة الأخرى على خيانة دولتهم. يبدو أن أثر نصائح كانت في “السلام الدائم” بعد أكثر من قرن، تحولت لمشروع سياسة خارجية للولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس ودرو ويلسون عام 1918م. عرض الرئيس الأمريكي ودرو ويلسون في المجلس التشريعي ما سمي “بالأربعة عشر نقطة” التي تضع معايير ونصائح أخلاقية لتنظيم العلاقات بين الدول، وسرعان ما ساهمت تلك النقاط بإنشاء عصبة الأمم عام 1920م في مؤتمر باريس للسلام الذي أنهى الحرب العالمية الأولى. هناك نظرية مهمة في بحث كانت والتي ركزت على ما هو كائن بين الدول وهي “نظرية السلام الديموقراطي” وهذه النظرية تحاجج بأن الدول الديموقراطية لا تشن حروب عدوانية ضد بعضها، لأسباب تعود للمحاسبة الشعبية وفصل السلطات التي تضع قيود على التصرفات الفردية من قبل الرئيس لشن الحروب.
رد الواقعية في القرن العشرين
مثالية الرئيس ودرو ويلسون التي تترجمت لمشروع سياسة خارجية في أمريكا في الربع الأول من القرن العشرين لقت انتقادات من المدرسة الواقعية. في كتابه “أزمة العشرون عام 1919-1939” انتقد إدوارد كار مثالية المدرسة الليبرالية واستدل على فشلها باندلاع الحرب العالمية الثانية رغم وجود منظمة عصبة الأمم. يحاجج إدوارد كار أن المثالية الليبرالية ماهي إلا نفاق معلن باطنه مصالح واقعية تريد تحقيقها الدول، ودور المدرسة الواقعية هو كشف هذا النفاق وتوضيح صورة واقعية لسلوك الدول النابع من النفس البشرية التي تسعى للقوة من أجل البقاء. مشكلة المثالية الليبرالية في نظر إدوارد كار أن تحليلها للسياسة الدولية بمعايير أخلاقية بعيدة كل البعد عن الواقع، وأنهم يجعلون الأخلاق توجه سياستهم، بينما الواقعيين يجعلون السياسة توجه أخلاقهم. مع ارتفاع وتيرة الانتقادات الموجهة ضد الليبرالية، نشر هانز مورجنثاو كتابه الشهير “السياسة بين الدول: الكفاح من أجل السلام والقوة” وهذا الكتاب يعد أول كتاب من المدرسة الواقعية الذي قدم مبادئ ومُسَلمات الواقعية في السياسة الدولية بوضوح. من أهم ما ورد في الكتاب هو المبادئ الستة للسياسة الواقعية وهي: 1) السياسة محكومة بطبيعة القوانين العقلانية لطبيعة الإنسان. 2) تعرف السياسة الدولية بالمصلحة النابعة من السعي لزيادة القوة. 3) المصلحة هي جوهر السياسة ولا تتأثر بالزمان أو الظروف أو المكان. 4) لا توجد أخلاق في السياسة الدولية وإنما تَعقُل. 5) الواقعية ترفض إحلال الطموح الأخلاقي لأي دولة مكان القوانين الطبيعية التي تحكم العالم. معنى ذلك أن لا الولايات المتحدة بقيمها وأخلاقياتها الليبرالية ولا الإتحاد السوفييتي (سابقاً) بقيمه وأخلاقياته الشيوعية يمكن أن يفرضان قوانينهما الأخلاقية على القوانين الطبيعية للعالم. 6) السياسة لابد أن تفصل عن التحليل الاقتصادي. هذه المبادئ الستة هي منظور وأداة تحليلية للمدرسة الواقعية في تفسيرها لواقع العلاقات الدولية. الجدير بالذكر أن إدوارد كار وهانز مورجانثاو يعتبران من المدرسة الواقعية الكلاسيكية لأن تحليلهما للسياسة الدولية يستند على الطبيعية البشرية.
الواقعية الحديثة الهيكلية
تطورت المدرسة الواقعية الكلاسيكية لواقعية هيكلية بتغيير نقطة ارتكاز تحليلها من الطبيعة البشرية لهيكل النظام الدولي، وهذا يعني أن تفسيرهم لسلوك الدول في الساحة الدولية لم يعد نابعاً من طبيعة النفس البشرية ولكن ما يفرضه الهيكل الدولي على الدول هو ما يحدد سلوكها. الهيكل الدولي يعرف بتوزيع القوى بين الدول ومدى تمركز القوة في دولة واحدة أو عدة دول، فتمركز توزيع القوى في دولة واحدة ينتج عنه نظام دولي أحادي القطب، وتمركز توزيع القوى في دولتين يعني نظام ثنائي القطب، إلخ. أول ما وضع إرهاصات الواقعية الهيكلية هو كينيث والتز في كتابه “نظرية السياسة الدولية.” نظرية والتز بنيت على مُسَلمة مهمة في السياسة الدولية وهي الفوضى الدولية، والمقصود من الفوضى هو أنه لا توجد سلطة مركزية في الساحة الدولية يمكنها معاقبة الدول العدوانية أو أن أي دولة ما تكون ضحية عدوان لا يمكنها أن تطلب من سلطة مركزية لمساعدتها. في ظل هذه الفوضى، يحاجج والتز أن توزيع القوى بين الدول هو المنظم الوحيد لسلوك الدول، ويقول أن نظام القطبية الثنائية هو النظام الأكثر استقراراً في العلاقات الدولية. مثلاً، لم تقم حرب عالمية أثناء نظام القطبين في فترة الإتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، حيث أن التوزان الحاصل بين القطبين جعل من تحالفات الدول الأخرى خيارين إما التحالف مع القطب الأول أو الثاني. لكن نظام تعدد الأقطاب فترة ما قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية قدم عدة أقطاب للدول الأخرى التي يمكن التحالف مع أي منها، والمشكلة هنا يحاجج والتز، أن وتيرة التغيير والانشقاق من تحالف مع قطب لقطب آخر زادت مما أحدث ربكة لدى الأقطاب في ضمان مصالحهم مع الدول التي كانت متحالفة معهم. هذا يعني أن نظام تعدد الأقطاب غير مستقر، حيث أن احتمالية تغير التحالفات كبيرة بينما في نظام القطبين التحالفات أكثر ديمومة واستقراراً. الاستقرار في النظام الدولي لا يعني لوالتز أن الحروب بين الدول الصغيرة لا يمكن أن تحدث، ولكن الحروب التي تكون تبعاتها كارثية والتي تحدث اخلالاً في النظام الدولي هي الحروب التي تكون بين الدول العظمى. قد يسأل سائل: هل توزيع القوى بين الدول يمكنه أن يحدث تعاون بينها؟ يجيب والتز على هذا التساؤل بأن التعاون بين الدول مقيد لأن الفوضى هي من تقيده إذ أنه لا تضمن دولة معاقبة دولة أخرى في حال أخلت الأخيرة في التعاون ما بينهما، حيث أنه لا توجد سلطة عليا مركزية.
تأثُر الليبرالية الحديثة
التحول في الليبرالية الحديثة بدأ بإتفاقها مع الواقعية في مُسَلمة أن الساحة الدولية فوضوية، أي أنه لا توجد سلطة مركزية واحدة تحتكر حق استخدام العنف كما هو الحال داخل الدول. لكن ما تختلف المدرستان حوله هو امكانية التعاون واحقاق السلام بين الدول في ظل هذه الفوضى. ساهم هذا في تطور المدرسة الليبرالية من مرحلة توصيف ما يجب أن يكون إلى مرحلة وصف ما هو كائن في العلاقات الدولية. وهذا التطور هو نتيجة للانتقادات التي وجهت لها من المدرسة الواقعية. ما يُميز التطور في الليبرالية هو تركيزها على المتغيرات السياسية الداخلية في الدول، لتفسير انعكاسها على سلوك الدول في الساحة الدولية. في بحثه بعنوان “أخذ التفضيلات بجدية: النظرية الليبرالية في السياسة الدولية” يحاجج أندرو مورافشيك أن التوزيع لتفضيلات (Preferences) الأفراد يشكل سلوك الدول وليس توزيع القوى بين الدول، وهذا رداً على مُسَلمة لدى المدرسة الواقعية أن ما يحصل داخل الدول ليس له أثر على سلوك الدول في الساحة الدولية. يشرح مورافشيك حجته بأن كل فرد في أي دولة له ما يفضله من المصالح التي يطالب دولته بتوفيرها، والأفراد لهم ممثلين في المجالس التشريعية ملتزمون بجمع كل تفضيلات الأفراد ومحاولة تمرير تشريعات تعكس تلك المطالب. بالطبع لايمكن لكل فرد الحصول على جميع رغباته من الممثلين في المجلس التشريعي، لكن ما يؤخذ به من مجموع التفضيلات هو الحل الوسط بينها. بالتالي، يتم تمرير التشريعات للسلطة التنفيذية لكي تأخذ حيز التنفيذ، والتشريعات للسياسة الخارجية تشكل سلوك الدولة في الساحة الدولية. شرح مورافشيك معني بالدول الديموقراطية، أما الدول الشمولية فالوضع يختلف.
الشرح السابق كان عن مراحل تطور المدرسة الواقعية والجدل الذي أثارته مع منافستها المدرسة الليبرالية. ويمكن تلخيص مراحل تطور الواقعية في أنها تحولت من اسناد الطبيعة البشرية الميالة للعدوان كنقطة ارتكاز تحليل وتفسير سلوك الدول في الساحة الدولية إلى الارتكاز التحليلي والتفسيري لسلوك الدول على الهيكل الدولي القائم على توزيع وتمركز القوى بين الدول. الآن، وقد اتضح للقارئ الكريم ماهية المدرسة الواقعية، الجزء الذي يلي سيستخدم إحدى نظريات الواقعية الهيكلية وهي نظرية المهيمن الإقليمي للإجابة على السؤال الرئيسي لهذا المقال:هل بالفعل توجد دولة شرق أوسطية تهيمن على المنطقة، وهل أمريكا هي المهيمن العالمي؟
نظرية المهيمن الاقليمي
في كتابه “مأساة سياسات القوى العظمى” قدم جون ميرشهيمر شرح لنظريته المهيمن الإقليمي، والتي تعد إحدى أهم نظريات المدرسة الواقعية الهيكلية الهجومية. نعم، ميرشهيمر والأدبيات الأكاديمية يصفون نظريته بالهجومية لأنها تحاجج بأن الدول لا تسعى لاحداث توازنات في القوى بين بعضها وخاصةً الدول العظمى، وإنما تسعى لإخلال التوازنات في القوى لتصبح الأقوى نسبةً لغيرها، وهذا عكس ما قاله والتز الذي يحاجج أن الدول تسعى لإحداث التوازنات في القوى لاستقرار النظام الدولي، وهذا ما يجعل نظرية والتز تصنف بالدفاعية في الأوساط الأكاديمية. يبدأ ميرشهيمر في نظريته بتقديم خمس مُسَلمات عن هيكل النظام الدولي وهم التالي: 1) الدول هي العوامل المسيطرة والرئيسية في الساحة الدولية ولا توجد سلطة مركزية عليا فوق الدول. المقصود هنا أن المؤسسات والمنظمات الدولية كعصبة الأمم سابقاً والأمم المتحدة حالياً تلعب دوراً ضئيلاً مقارنةً بالدور الذي تلعبه الدول، وعدم وجود سلطة مركزية هو نفس مفهوم المدرسة الواقعية عن الفوضى. 2) كل دولة تمتلك قدرة هجومية، مع تفاوت تلك القدرة بين الدول، لكن مجرد وجود بشر في أي دولة يعني أنهم يستطيعون الهجوم على دولة مجاورة حتى لو بالحجارة. 3) الدول غير قادرة على معرفة نوايا الدول الأخرى، أي أنه لا تستطيع دولة ما معرفة إذا ماكانت نية الدولة المجاورة عدوانية أم مسالمة، ونية الدولة المسالمة الآن لا يعني أنها قد تكون مسالمة مستقبلاً. 4) أكبر هدف للدولة هو البقاء، ثم يليه أي هدف آخر مثل الازدهار الاقتصادي، ولكن يبقى البقاء هو الأهم. 5) الدول عقلانية في سلوكها، حيث أنها تحسب تبعات قراراتها قبل الشروع فيها. يحاجج ميرشهير أنه عندما نجمع تلك المُسَلمات ينتج عن ذلك ثلاثة سلوكيات للدول العظمى: أولاً، الدول تخشى بعضها لأنها لا تعلم نوايا بعضها، في حين علمها التام بحقيقة قدرة أي دولة على الهجوم في أي وقت، وأيضاً لأن النظام الدولي فوضوي فلا تستطيع أي دولة ضمان المساعدة من أي دولة أخرى عند وقوع هجوم عليها. ثانياً، الدول تعلم أن الحل الوحيد للدفاع عن نفسها هو بالدفاع عن نفسها بنفسها، دون الاعتماد على الدول الأخرى. ثالثاً والأهم، أفضل حل للبقاء كدولة فعالة في النظام الدولي هو أن تصبح أقوى دولة، أي أن تصبح المهيمن. تلك السلوكيات الثلاثة تفرض على الدول العظمى أن تسعى للهيمنة على إقليمها لأنها لا تستطيع الهيمنة على العالم، فالحل الواقعي لضمان أمنها هو الهيمنة على إقليمها.
ميرشهيمر يحاجج بأنه لا يمكن لأي دولة الهيمنة على العالم بسبب الجغرافية، حيث أن البحار تحول دون تمكن الدولة الواحدة من بسط هيمنتها على جميع قارات العالم، لذلك، المهيمن الإقليمي لا يستطيع الهيمنة إلا على إقليمه، لأن الهيمنة على العالم تحتاج موارداً بشرية ومالية وعسكرية هائلة تفوق كل الاعتبارات الواقعية، ولا تستطيع أي دولة القيام بذلك. لكن هذا الواقع يشكل هاجساً لدى المهيمن الإقليمي، حيث أن عقدة المهيمن الإقليمي أنه لا يريد لأي دولة أخرى أن تهيمن على إقليمها كما أنه مهيمن على إقليمه. يقول ميرشهيمر في كتابه، أن الولايات المتحدة الأمريكية في التأريخ الحديث، هي الدولة الوحيدة التي استطاعت الهيمنة على إقليمها (كندا وأمريكا الاتينية)، والدول الأخرى سعت لأن تهيمن على إقليمها لكن لم تستطع. سعي أمريكا للهيمنة على إقليمها بدأ منذ بداية حربها مع بريطانيا لتحرير مستعمراتها الثلاثة عشر و اعلان الاستقلال عام 1776م. التمدد الأمريكي للهيمنة توسع بعد ذلك للاستيلاء على جميع الولايات في القارة الأمريكية وتخلل ذلك طرد القوى الأوروبية من القارتين أمريكا الجنوبية والشمالية منذ بداية عام 1823م عندما أعلن الرئيس الأمريكي جيمز مونرو سياسة خارجية لبلاده بأن وجود قوات الاحتلال الأوروبية في القارتين يعني تهديداً رسمياً للولايات المتحدة. ويحاجج ميرشهيمر أنه مع مطلع القرن العشرين استطاعت الولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة التامة على إقليمها ببناء قوة عسكرية ضخمة جداً لا تضاهيها دولة أخرى، وببناء اقتصاد إنتاجي متين جعل الناتج القومي لأمريكا الأعلى عالمياً، وأخيراً طرد جميع القوى الأوروبية من إقليمها. بعد تمكن الولايات المتحدة من الهيمنة التامة على اقليمها، بدأت في القرن العشرين بدحر أي دولة منافسة لها بالهيمنة على الاقاليم الأخرى. في العام 1917م حاربت الولايات المتحدة ألمانيا الامبريالية لأن -يحاجج ميرشهيمر- ألمانيا كانت تسعى للهيمنة على أوروبا ورأت أمريكا أن دحرها هو الحل المناسب، وتكرر ذلك في العام 1941م ضد ألمانيا النازية أيضاً لإيقافها من الهيمنة على أوروبا. وفي القارة الآسيوية أرادت اليابان أن تهيمن على آسيا لكن أمريكا حاربتها في العام 1941م أيضاً لإيقاف محاولتها للهيمنة. ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية تمركزت القوات الأمريكية في أوروبا لصد الاتحاد السوفيتي عن نيته للهيمنة على آسيا وأوروبا معاً، وأمريكا استخدمت جميع الوسائل الممكنة دون الحرب المباشرة لاسقاط الاتحاد السوفييتي، وحصل ذلك مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي. يقول ميرشهيمر في كاتبه أن كل هذه الأدلة توضح أن الولايات المتحدة كمهيمن إقليمي لا تريد صعود أي مهيمن إقليمي آخر في العالم منافس لها.
هل يوجد مهيمن إقليمي في الشرق الأوسط؟
بناءً على نظرية المهيمن الإقليمي، هل توجد دولة ذات هيمنة إقليمية في الشرق الأوسط؟ يجاوب على هذا السؤال ميرشهيمر في محاضرته في مؤتمر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. يعرف ميرشهيمر المهيمن الإقليمي بالدولة القادرة على السيطرة التامة على جميع الدول في إقليمها، وأن تكون هي الدولة الأقوى بكل المقاييس، والشروط التي لابد أن تتوفر لدى المهيمن الإقليمي هي امكانية صنع الأسلحة واقتصاد انتاجي متين ينافس الولايات المتحدة. إذاَ، معيار وجود مهيمن إقليمي حسب نظرية ميرشهيمر يكون بمقارنة قدرته على منافسة الولايات المتحدة في قدرتها على طرد جميع القوى من إقليمها وامتلاك قوة عسكرية ضخمة واقتصاد انتاجي قوي جداً، من حيث قدرته على الحصول على ناتج قومي قريب أو يتعدى الناتج القومي الأمريكي، والدولة المرشحة لأن تصبح مهيمناً إقليمياً حسب تلك الشروط هي الصين، وهذا ما يقلق أمريكا، يقول ميرشهيمر.
يحاجج ميرشهيمر أن الولايات المتحدة، كمهيمن إقليمي على إقليمها الجغرافي (كندا في الشمال والقارة اللاتينية في الجنوب) لاتستطيع أن تهيمن على العالم، لأن البحار، كما ذكرت سابقاً، تحول دون امكانيتها في فرض هيمنتها على العالم بكل تكاليفها المادية والبشرية. كيف يفسر ميرشهيمر التدخل الأمريكي في منطقتنا في حين أنه يقول أنها لا تستطيع الهيمنة على المنطقة؟ يقول في محاضرته، أن المهيمن الإقليمي لا يريد ولا يطيق ظهور أي مهيمن إقليمي آخر، والشرق الأوسط تعد منطقة استراتيجية للمصالح الأمريكية. عليه، ما تستطيع فعله أمريكا هو اتباع سياسة خارجية تدخلية في المنطقة لكي تحافظ على مصالحها وتحد من صعود مهيمن إقليمي آخر للاستحواذ على مصالحها. ويضيف ميرشهيمر أن السياسات الخارجية التدخلية الأمريكية التي بدأت منذ الحادي عشر من سبتمبر مروراً بالعدوان على العراق إلى يومنا هذا هي سياسات فاشلة بكل المقاييس وتخريبية، وهذا نتيجة لعدم استطاعة أمريكا الهيمنة على المنطقة، وإن افترضنا جدلاً أنها مهيمنة على الشرق الأوسط لما كانت سياساتها غير متزنة.
لكن، من هو المهيمن الإقليمي الذي قد يصعد ويتدخل في منطقتنا والذي يشكل هاجس لدى أمريكا؟ يقول ميرشهيمر أن الصين هي التي يتضح أنها ستصبح مهيمناً إقليمياً على إقليمها واحتمالية تدخلها في منطقة الشرق الأوسط هو ما يربك أمريكا، فالسياسات الأمريكية في منطقتنا هي محاولات للحد من النفوذ الصيني. حسب نظرية ميرشهيمر، لا إيران ولا دولة أخرى في منطقتنا تمتلك جميع المقومات التي تمكن أي دولة في الإقليم لتصبح مهيمناً إقليمياً، وإن حاولت أي دولة في الشرق الأوسط الهيمنة كاليابان وألمانيا سابقاً، ستصل أمريكا إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة كما فعلت في الحرب العالمية الأولى والثانية، وذلك لأن المهيمن الإقليمي لا يريد صعود أي مهيمن إقليمي آخر. إذاً، إمكانية إيران أو أي دولة أخرى في الإقليم من الهيمنة التامة على المنطقة ضئيلة حسب نظريته، وذلك لعدم وجود المقومات اللازمة عند أي دولة لتصبح مهيمناً إقليمياً. ولفهم واقع الصراعات في المنطقة لابد من توسيع دائرة تحليلنا لتشمل ردود أفعال أمريكا كمهيمن إقليمي لا يستطيع الهيمنة على المنطقة فيتبع سياسيات تدخلية قد تكون صحيحة أو فاشلة، لكن الفاشلة منها أحدثت فراغاً ودماراً في المنطقة، وما تقوم به دول المنطقة هو السعي لسد الفراغ في ظل عدم امكانية هيمنة دولة واحدة من المنطقة على الإقليم، إذاً، النزاعات في المنطقة هي فعل ورد فعل، دون القدرة على فرض الهيمنة التامة. يقول ميرشهيمر في محاضرته أن الاتفاق النووي الإيراني يعد سياسةً احتوائية من أمريكا لتصد النفوذ الصيني الذي قد يطال إيران. قد يسأل سائل في الأخير ماذا عن روسيا، أليست قوة إقليمية؟ نعم روسيا قوية عسكريا بلا شك وتصنع أسلحتها بنفسها، لكن اقتصادها يحول دون امكانية وصولها للهيمنة على إقليمها، والاقتصاد الصيني يمكن الصين من الهيمنة الإقليمية وليس روسيا.
الانتقادات
من أهم الانتقادات التي وجهها جون هال ضد نظرية ميرشهير هي عن طبيعة الاقتصاد العالمي المعولم والهيمنة الأمريكية العالمية. يجادل هال أن طبيعة الاقتصاد في زمن العولمة يحتم على الدول المشاركة في الاقتصاد العالمي لكي تنعش اقتصاداتها الداخلية، فالاقتصاد الانتاجي الضخم للولايات المتحدة يرتبط ويعتمد على الاقتصاد العالمي. فأمريكا لا تمتلك جميع الموارد والقوى العاملة في أراضيها كي تتمكن من الاعتماد على نفسها، وفرضية أن حروبها الخارجية فقط لدحر أو للحد من صعود أي مهيمن إقليمي آخر لا تتماشى واعتماد اقتصادها على دول أخرى. هذا يعني أنه من الصعب على أمريكا محاربة دول عندما يكون عند تلك الدول موارد تحتاجها أمريكا، فهذه مخاطرة على اقتصاد أمريكا في المقام الأول. هذه المعلومة مشابهة لما جاء في نظرية الاعتماد المتبادل المعقد لروبرت كوهين وجوزيف ناي في كتابهما “القوة والإعتماد المتبادل” حيث أنهما يجادلان أن احتمالية نشوب الحروب أصبحت صعبة ومكلفة في ظل الاعتماد المعقد بين اقتصادات الدول مع بعضها. وانتقاد جون هال الثاني هو عن محاججة ميرشهيمر أن الولايات المتحدة لا تستطيع الهيمنة على العالم، حيث يجادل أن القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة حول العالم تدل فعلياً على أن الولايات المتحدة تهيمن على العالم، والبحار لم تقف عائقاً أمام إرساء هذه القواعد العسكرية.
اختبر براندون فاليريانو في بحثه الإحصائي فرضيات نظرية ميرشهيمر، ومن أهم النتائج التي توصلت إليها دراسته أن الدول العظمى الديموقراطية ليست هجومية، وهذا تحدي لحجة ميرشهيمر أن النظام الداخلي للدول لا يغير من سلوكها، خاصةً الدول العظمى. بالاضافة، أثبتت الدراسة أن نظرية ميرشهيمر صحيحة فيما يتعلق بارتفاع مستوى النزاعات بين الدول العظمى مقارنةً بالدول الأخرى، لكن ميرشهيمر يحاجج أن انتصار أمريكا في حروبها يعني زيادة وضمان لقوتها، ودراسة فاليريانو أثبتت أنه فقط 14% من النزاعات بين الدول العظمى انتهت بانتصار حاسم لطرف واحد أدى لزيادة وضمان قوته. وهذه النسبة ضئيلة، مما يعني أنه في الغالب الدول العظمى لم تستفد من نزاعاتها بقدر ما ذكر في كتاب ميرشهيمر.
في النهاية، ما تم شرحه وتقديمه في هذا المقال هو فقط نظرية واحدة من المدرسة الواقعية الهيكلية، وهناك مدارس فكرية مختلفة في العلاقات الدولية يتضمنها نظريات كثيرة. ومن المتعارف عليه في الأوساط الأكاديمية أن العلوم الاجتماعية لا تستطيع أن تقدم نظرية صحيحة بنسبة 99% لأن دراسة سلوك البشر أكثر تعقيداً من دراسة العلوم الطبيعية. ومع هذا القصور، رأيت أن نظرية المهيمن الإقليمي هي النظرية الأنسب نسبياً في تفسير الهيمنة في الشرق الأوسط.