شهد الفضاء العام السعودي – بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر- في صحفه وقنواته الفضائية ومنتدياته الإلكترونية وفي الدواوين والمحافل الثقافية صعوداً مدويّاً لخطاب قدّم صيغة ديمقراطية ومنفتحة ومتسامحة لعلاقة الإسلام بالدولة والفرد والمجتمع متجاوزاً الصيغة الإقصائية والسلطوية والمنغلقة القائمة آنذاك بين السلطة وخطاب الصحوة الإسلامية. عُرف هذا الخطاب بأسماء متعددة، كالإسلام-الليبرالي، أو التيار العصراني، أو الخطاب المدني، ولكن المسمى الأشهر الذي التصق به – وهو الذي سنستخدمه هنا – كان “التيّار التنويري”. ورغم الصخب والحيوية التي اكتنفت صعود وانتشار هذا التيّار وما رافقه من معارك متنوعة، إلا أنه اليوم لا يكاد يذكر ، وذلك ليتسنى للسردية الكسولة السائدة اليوم والتي تنظر لتاريخ المشهد الفكري السعودي باعتباره قصة صراع بين الحداثة والتقليد، أو بين الليبرالية والصحوة، أو بين السلطة المتنورة والمجتمع المتخلف؛ أقول: ليتسنى لهذه السردية أن تنهض، فإن عليها أن تجتهد بإخفاء لحظة التنوير المهمة والمفصلية من تاريخنا السياسي والفكري والاجتماعي.
وإبّان فترة هذا التيار الذهبية، تشكلت نظرتان متباينتان في الأدبيات السعودية حول أثر هجمات الحادي عشر من سبتمبر على صعود التنوير. طرح إبراهيم السكران أولى هاتين النظرتين في بحثه الذي نشره في صيف عام 2007م بعنوان مآلات الخطاب المدني في مجلة العصر الإلكترونية. ففي مقدمته، يتذمّر السكران من التحوّل الذي حدث داخل الوسط الإسلامي في المملكة، فيقول إن كثيرا “من تلك الطاقات الشبابية المفعمة التي بدأت مشوارها بلغة دعوية دافئة أصبحت اليوم- ويا لشديد الأسف- تتبنى مواقف علمانية صريحة”. ويُرجِع هذا التحوّل الذي أصاب الوسط الإسلامي السعودي إلى ما يسميه بـ”الزلزال السبتمبري”. فبعد 11 سبتمبر، “تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدّت من انسيابه ودويه، وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس” ونتج منه فراغ أتاح المجال لهذا الخطاب التنويري بالظهور.
مقابل أطروحة “الزلزال السبتمبري” الذي تسبب بنشوء التيار التنويري، يقدم عبدالعزيز الخضر في كتابه السعودية: سيرة دولة ومجتمع الذي نشرته الشبكة العربية للأبحاث والنشر عام 2009م أطروحة مغايرة. بالنسبة له، لم تكن أحداث سبتمبر هي اللحظة الفارقة التي شكلت التيار التنويري، بل كانت الحدث الذي طمس ما يسميه بـ”السنوات المسروقة من تحولاتنا الفكرية”. وهو يقصد بهذه السنوات الفترة من عام 1998-2001م التي كانت “مرحلة هادئة غير مشحونة بمؤثرات سلبية وردود أفعال… كان فيها قلق إيجابي، ووعي بأهمية المراجعات…وكانت مرحلة لعودة بعض الإسلاميين الناشطين، وبداية تراجعهم عن مرحلة تشدد سابقة … ما أعطى حيوية لهذه المرحلة وحواراتها وأسئلتها الفكرية التي طمست ودفنت تحت أنقاض كارثة أيلول (سبتمبر)”.
كلا الأطروحتين متفقتان على أنه كان للهجمات تأثير على تطور التنوير في المملكة، لكنهما تختلفان حول طبيعة هذا التأثير: فالهجمات عند السكران شكلت الخطاب التنويري، أما عند الخضر فهي التي نزعت حالة الهدوء الذي كان ينمو ويتشكل فيه هذا الخطاب وعصفت به نحو مسائل وتحديّات طارئة جعلت من مخاضه وتكونه عملية صعبة ومشوهة.
في هذه المقالة، سأستفيد من هاتين النظرتين لتقديم رأيي حول تأثير هجمات الحادي عشر من سبتمبر على تحولات الخطاب الديني والفكري في المملكة. ولكن قبل أن أفعل ذلك، لابد من تقديم ملاحظتين منهجيتين، الأولى : أنه يجب أن نفرّق تحليليا بين نوعين من الآثار: الآثار المباشرة للحادثة، والآثار غير المباشرة الناتجة عن ردة الفعل الأمريكية على الحادثة المتمثلة بشكل رئيسٍ بإعلان الحرب العالمية على الإرهاب. فردّة الفعل هذه بشكلها ومداها وأساليبها التي تبنتها لم تكن نتيجة حتمية للهجمات، ذلك أنه يمكن تخيّل- كما فعل عالم السياسة كلاوس دودس في ورقته التي بحث فيها ماذا كان سيحدث لو كان آل جور رئيسا بدلا من بوش- أن ترد الولايات المتحدة بطريقة مختلفة عن الطريقة التي ردت بها. بالإضافة للتفريق بين أنواع التأثير، وهذه الملاحظة الثانية، لا بد أن نذكّر بأن عالم السياسة ليس مختبراً علمياً يمكن عزل الأسباب عن بعضها البعض لبحث تأثير كل واحدة منها على حدة، بل الأسباب متداخلة بشكل معقد، ولهذا لا نستطيع الجزم بشكل واضح أن نتيجة ما تعود للحادي عشر من سبتمبر وليست مثلا عائدة لصعود الانترنت، أو لارتفاع أسعار النفط وما شابه ذلك من عوامل.
وأخذا بالاعتبار لهذه الملاحظات، فإنني في هذا المقال سأتناول تأثير هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الخطاب الديني السعودي في الفترة ما بين 1998-2010 م، وذلك لعزل تأثيرات الربيع العربي وإن كنت سأمر سريعا على بعض ما حدث من مآلات بعد هذه الفترة. وما سأحاجج عنه هنا هو أن التأثير الرئيس لردّة الفعل الأمريكية على هجمات الحادي عشر من سبتبمر، تمثّل بانهيار صيغة الحكم التي أرسيت في عهد الملك فيصل (1964- 1975)م حول علاقة الدولة بالصحوة الإسلامية من جهة، وعلاقتها بأمريكا من جهة أخرى. ومفاد هذه الصيغة الفيصلية أن تمنح الدولة الحركات الإسلامية – المحافظة والإقصائية والمنغلقة – الهيمنة على الفضاءات العامة والاجتماعية والتعليمية والدينية وذلك دفعا لأي تهديد داخلي قد يأتي من التيارات القومية واليسارية والليبرالية الناشطة آنذاك مقابل ألا تتدخل هذه الحركات في السياسة ومسائل الحكم وخصوصا في العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية والتي أضحت منذ نهاية الستينات أحد أهم ركائز استراتيجية الدفاع السعودية ضد التهديدات الخارجية. تعرضت هذه الصيغة الفيصلية لأول تحد لها في حرب الخليج عندما انتقدت شريحة مؤثرة من الصحوة الإسلامية استقدام القوات الأمريكية أثناء حرب الخليج وطالبت بتغييرات سياسية، لكن ردة الفعل الحكومية على هذا التحدي تلخصت بالمعالجة الأمنية وإجراء بعض التعديلات وزيادة في التحكم على الصيغة الرسمية دون محاولة تغييرها. إلا أن التحدي الذي جاء مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر هو الذي قاد لتحطّم الصيغة الفيصلية وكان التيّار التنويري أحد أهم المعاول التي اغتنمت مناخ ما بعد سبتمبر لتحطيمها. ومثل أبطال الإغريق الذين لا يكتمل مجدهم إلا بالموت أثناء قيامهم بأجلّ أعمالهم فقد قضي على هذا التيّار في اللحظة التي أتم تحطيمه للصيغة الفيصلية.
تشظي الصحوة وظهور التنوير
مثلت السنوات الأربع الممتدة من غزو العراق للكويت في صيف عام 1990م وحتى حملة الاعتقالات التي شنتها وزارة الداخلية التي طالت الكثير من المنتسبين للصحوة الإسلامية في صيف 1994م، لحظة ملتهبة في المشهد السياسي والديني والاجتماعي في السعودية وأول تحد للصيغة الفيصلية في الحكم. ففيها كتبت بيانات ذات توجهات مختلفة مطالبة الحكومة بإصلاحات سياسية واجتماعية، وفيها حدثت أول مظاهرة نسائية تطالب برفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة، وفيها جرى نقاش صاخب شاركت فيه كافة النخب الثقافية والدينية حول استقبال القوات الأمريكية، وفيها تُحدّيت فتاوى هيئة كبار العلماء بشكل علني ومن قبل إسلاميين لأول مرة، وفيها أعلن الملك فهد عدداً من القرارات المتعلقة بإعلان النظام الأساسي للحكم، ونظام مجلس الشورى، ونظام المناطق، وفيها تشكلت أول جمعية أهلية للدفاع عن الحقوق في تاريخ المملكة، وفيها شنّت الحكومة للمرة الأولى في تاريخها حملة اعتقالات جماعية ضد منتسبين لتيار إسلامي سني شملت مجموعة من قيادات الصحوة آنذاك مثل سلمان العودة وسفر الحوالي وغيرهم، وفيها تشكلت وزارة الشؤون الإسلامية وبدأت الحكومة السعيَ بشكل فعّال لاحتواء المجال الديني والتحكم بالصحوة وتقليم أظفارها. باختصار، كان ردّ فعل الحكومة تجاه هذا التحدّي هو احتواء الصحوة وإخضاعها، ولو بالقوة لمنطق الصيغة الفيصلية، دون إجراء تغيير جذري لهذه الصيغة.
ما نتج عن هذه المعالجة الأمنية – بشكل غير متوقع – هو حدوث تشظّ في حركة الصحوة نفسها. فحملة الاعتقالات وتراجع القيادات الأخرى عن المطالبات السياسية والاكتفاء بالعمل الاجتماعي والدعوي، ساهمت بظهور ثلاث ردود فعل سيكون لها تبعات كبيرة في السنوات التالية ليس على الداخل السعودي فقط بل العالم أجمع. أما ردّة الفعل الأولى، فهي ظهور المعارضة الخارجية السنية الإسلامية السعودية وذلك بعد أن أدى الحلّ الأمني لإجهاض عمل اللجنة الشرعية للحقوق في الداخل حيث انتقل عضوان من أعضاءها، وهما سعد الفقيه ومحمد المسعري، إلى لندن لاستكمال عمل اللجنة في الخارج. لكن لم تمرّ فترة طويلة، حتى انفصلا وتغير خطابهما ليطالب بإسقاط النظام عوضا عن إصلاحه. وبعد أن كانا أول الأمر يبثّان المنشورات في الداخل عبر الفاكس، صارا يستفيدان من التقنيات ووسائل التواصل الجديدة مثل الفضائيات والمنتديات الإلكترونية وبرامج المحادثات الصوتية كالبالتوك وذلك للتأثير في الداخل، وهو الأمر الذي حقق بعض النجاح عندما خرجت مظاهرات محدودة في أكتوبر عام 2003م مناصرة لسعد الفقيه والتي اعتقل على إثرها العشرات.
ردّة الفعل الثانية تمثلت بصعود التيار الجهادي. فرغم أن مطالب الصحوة آنذاك لم تكن ديمقراطية ولا مناصرة للحقوق والحريّات، إلا أنها كانت رافضة لأي لجوء للعنف لتحقيق هذه المطالب. لكن بعد سجن قياداتها، بدأت مجموعة من العناصر الراديكالية اللجوء للعنف والذي امتدّ حتى وصل لأبراج التجارة العالمية في مانهاتن. ففي نهاية عام 1994م، ألقى عبد الله الحضيف أسيدا حارقا على وجه أحد رجال المباحث بعد انتشار أخبار في الأوساط الإسلامية عن تعرّض قيادات الصحوة للتعذيب، وهو الأمر الذي أدى إلى اعتقاله ثم وفاته في شهر أغسطس من عام 1995م داخل السجن في ظروف غامضة. وبعد وفاته بأقل من شهرين، نفذت مجموعة مقربة منه مكونة من أربعة أشخاص- هم عبدالعزيز المعثم، مصلح الشمراني، رياض الهاجري، وخالد السعيد- أول تفجير في تاريخ السعودية الحديث وذلك في مبنى تابع لشركة تدريب عسكرية أمريكية في حي العليا في الرياض. بعد هذا التفجير بسبعة أشهر، جاء تفجير آخر في مبنى تابع للجيش الأمريكي في الخبر نفذته مجموعة تابعة لحزب الله الحجاز. وبسبب هذه التفجيرات، بدأت السلطات السعودية بتشديد القبضة الأمنية وشن المزيد من حملات الاعتقالات التي شملت المئات من المنتمين للتيار الجهادي من الذين شاركوا في حروب أفغانستان والبوسنة والذين سيكونون فيما بعد من قيادات وعناصر القاعدة في المملكة مثل يوسف العييري. أما بالنسبة لأسامة بن لادن فقد فرّ للسودان بعد رفضه استقدام الحكومة للقوات الأمريكية، وبينما هو هناك جردته الحكومة من جنسيته عام 1994م. حينها، حاول توظيف مطالبات الصحوة لفترة قصيرة عندما أعلن تشكيل “هيئة النصيحة”، ليتلوها في عام 1996م بيانه الشهير الذي أعلن فيه الجهاد ضد أمريكا، ثم في مطلع عام 1998م، انضم إلى تنظيم الجهادي المصري أيمن الظواهري، ليشكل الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبيين. وبدأت أولى عمليات هذه الجبهة ضد أمريكا، التي تحول اسمها فيما بعد إلى “قاعدة الجهاد”، في 8 أغسطس 1998م، وهو اليوم الذي يوافق الذكرى الثامنة لاستقبال الحكومة السعودية للقوات الأمريكية، بتفجير سفارتي أمريكا في نيروبي ودار السلام، ليتلوها عدة هجمات أخرى وصولاً لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. وبعد الهجمات بفترة قصيرة استطاعت القاعدة فرض نفسها على المجموعات الجهادية داخل المملكة، والتي بدأ جزء كبير من عناصرها بالانخراط فيها وتشكيل فرعها في جزيرة العرب الذي بدأ بشن هجماته داخل المملكة من عام 2003م وحتى 2009م قبل أن يهزم وينقل مقرّ قيادته إلى اليمن.
أما ردّة الفعل الثالثة فكانت تشكّل وصعود التيار التنويري. فقد شهدت السنوات الأخيرة من عقد التسعينات تغيّرات سياسية وتقنية وبيروقراطية ساهمت بظهور هذا التيّار: فمن جهة أدى مرض الملك فهد لزيادة صلاحيات وسلطات ولي العهد عبدالله الذي كان محاطا بنخبة أكثر تسامحا وانفتاحا. من جهة أخرى ساهم ظهور الفضائيات، وخصوصا قناة الجزيرة بسقفها المرتفع، وبدء تقديم خدمة الإنترنت في السعودية مطلع عام 1999م بخلق فضاءات عامة جديدة وارتفاع سقف الحريّات الصحفية وضخّ دماء جديدة من الكتاب المنتسبين للتيار التنويري وذلك خصوصاً بعد إقالة وزير الإعلام ذو الخلفية العسكرية علي الشاعر وتولي فؤاد فارسي مكانه.
وهكذا بدأ عهد جديد للصحافة والإعلام السعودي، فبدأت مجلات مثل اليمامة والمجلة وصحف مثل الحياة باستكتاب عدد كبير من الكتاب الذين سيبدؤون بطرح آرائهم التنويرية، مثل حسن فرحان المالكي في مجلة اليمامة، عبدالله الحامد في الحياة، وسليمان الضحيان في مجلة المجلة، ومنصور النقيدان في صحيفة الحياة، ثم بعد ذلك تشكلت صحيفتان جديدتان: المحايد ذات العمر القصير (2000-2003)م والتي كان يرأس تحريرها عبدالعزيز الخضر، وصحيفة الوطن التي لعب فهد العرابي الحارثي، الذي كان رئيس تحرير مجلة اليمامة أيام معارك الحداثة الأدبية في الثمانينات، دورا رئيسا في تأسيسها حيث انطلقت عام 2000م برئاسة تحرير قينان الغامدي، واجتذبت قطاعا كبيرا من التنويريين، فكتب فيها على سبيل المثال لا الحصر كل من منصور النقيدان، سليمان الضحيان، عبدالعزيز القاسم، عبدالرحمن اللاحم، خالد الغنامي، يوسف الديني، خالد السيف، وغيرهم.
وبموازاة الصحافة والإعلام الرسمي، شكلت المنتديات الحوارية في الانترنت مساحة أكثر حرية وأكثر تعددية من حيث نوعية الجدالات والنقاشات وكذلك أنواع المتخاصمين والمتحاورين فيها. فظهرت منتديات الساحات السياسية الإماراتية، وشكل عثمان العمير صحيفة إيلاف الإلكترونية في شهر مايو 2001م. ثم تكاثرت المنتديات بشكل كبير، فأسس محسن العواجي، والذي كان فاعلا في التسعينات ثم اعتقل بعد ذلك، منتدى الوسطية، وأطلق كل من عادل الحوشان وعبد الرحمن بن مطرب منتدى طوى، ثم تشكلت الشبكة الليبرالية، وبعدها جاءت دار الندوة، وجسد الثقافة، ومنتدى محاور، لتتنوع المنتديات بعدها في اتجاهاتها وما يطرح فيها من آراء مختلفة ومتعددة. وهذه المواقع والمنصات لم تكن كلها حصرية للتيار التنويري، بل كان المنتمين لهذا التيار مشاركين فيها بكثافة بالإضافة لكتاب صحويين وليبراليين وغيرهم. ومن 2005م، بدأت المدونات الشخصية بالانتشار، فظهرت مدونات مشهورة آنذاك، كمدونة فؤاد الفرحان، وعصام الزامل، وأحمد العمران وغيرهم. ولم تنتهي السنوات العشر إلا ووسائل التواصل الحديثة تنتشر في السعودية، حيث تركّز السعوديون أولا في الفيسبوك، ثم ارتحلوا إلى تويتر مع انطلاقة الربيع العربي.
لم يكن التيار التنويري الذي نشأ وتشكّل ضمن هذا السياق الجديد تيارا متجانسا ذا رؤية واضحة متوافق عليها، بل كان يضم مجموعات مختلفة من الأشخاص بأجندات وأولويات متداخلة ومتعارضة فيما بينها. ويمكن توزيع هذه المجموعات على طيف يبدأ من أولئك الذين يركزون على تقديم تأويلات إسلامية تتجاوز انغلاق الصحوة في المسائل الاجتماعية المتعددة: تجاه المرأة، وتجاه المنتمين للمذاهب والأديان المختلفة، وتجاه حرية التفكير وتجاه جوانب الترفيه، وينتهي بأولئك الذين يركزون على تقديم تأويلات إسلامية لشكل جديد من العقد السياسي وعلاقة الدولة بالدين، فنظّروا للملكية الدستورية والديمقراطية والحريات السياسية من منطلق إسلامي، ويتوزع بقية التنويريين بين هذين الطرفين، فمنهم من هو أكثر قربا لنقد الصحوة ومنهم من هو أكثر قربا لنقد الدولة، ومنهم من يبدأ في الأولى ثم يتحول للثانية، ومن هم من يفعل العكس.
هجمات سبتمبر وانهيار الصيغة الفيصلية
في صباح الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، اختطف تسعة عشر عنصر من عناصر تنظيم القاعدة أربع طائرات كبيرة الحجم ممتلئة بالوقود (من نوع بوينج 757 وبوينج 767) من ثلاث مطارات في الشرق الأمريكي: لوجان في مدينة بوسطن، ومطار نيوآرك في نيوجيرسي، ومطار دالاس في واشنطن. كانت كاليفورنيا هي الوجهة الرئيسة لهذه الطائرات، لكنْ حرفها الخاطفون إلى أربعة أهداف ذات رمزية سياسية واقتصادية وعسكرية: فارتطمت رحلة أميركان إيرلاينز المغادرة من بوسطن ببرج التجارة العالمي الشمالي في مدينة نيويورك في الساعة 8:46 صباحا، وبعدها بسبعة عشر دقيقة ارتطمت رحلة يونايتد إيرلاينز المغادرة من بوسطن ببرج التجارة العالمي الجنوبي. وبعد 34 دقيقة، ارتطمت رحلة أميركان إيرلاينز المغادرة من مطار دالاس بواشنطن بمبنى البنتاجون (مقر وزارة الدفاع الأمريكية)، أما الرحلة الأخيرة التابعة ليونايتد إيرلاينز والتي يرجّح أنها كانت متجهة نحو البيت الأبيض فقد ارتطمت بحقل قرب بلدة ستونيكريك في ولاية بنسلفانيا. أدت الهجمات الأربعة لمقتل قرابة 3 آلاف إنسان، وانهيار برجي التجارة العالميين، وخسائر مادية مباشرة تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
كانت ردة الفعل الأمريكية على هذه الحادثة مزلزلة للركنين الرئيسين اللذين قامت عليهما الصيغة الفيصلية في الحكم في السعودية منذ الستينات: تقوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية لتأمين الحماية الخارجية، والتحالف مع الحركات الإسلامية في الداخل لتأمين الحماية الداخلية. فبالإضافة لمصري وإماراتيين ولبناني، كان خمسة عشر من عناصر القاعدة المنفذين للعملية من السعودية (خمسة من الباحة، وأربعة من جازان، وثلاثة من النماص في عسير، وعنصر من الرياض، وآخر من الطائف، وثالث من بلدة النخيل قرب المدينة)، وكذلك كان زعيم التنظيم سعوديا. والتنظيم ذكر الكثير من الأهداف للهجمات، أهمها ضرب العلاقات السعودية-الأمريكية، وإنهاء التواجد العسكري الأمريكي في السعودية. وبسبب هذا كله، ارتفعت نبرة العداء للسعودية في الإعلام الأمريكي لمستويات عالية وغير مسبوقة، رافقه تحوّل كبير في سياسات أمريكا تجاه المنطقة بعد إعلانها حربا عالمية على الإرهاب، والذي ترجم بغزو أفغانستان واحتلاله بعد بضع أسابيع من الضربات، ثم غزو العراق واحتلاله بعد سنة ونصف، والضغط على الحلفاء لإجراء تغييرات في السياسات المحلية تشمل ملفات الانفتاح السياسي، والتعليم، والمرأة، والأقليات، وما شابه.
وعلى خلاف أحداث حرب الخليج، لم تتمسّك القيادة السعودية المحيطة بولي العهد عبد الله آنذاك بالصيغة الفيصلية في الحكم، بل سعت إلى تجاوزها والتفتيش عن صيغة بديلة. وقد كان في الساحة طيف واسع من الخيارات للبديل الذي يمكن أن تتبناه المملكة: من البديل الجهادي إلى البديل التنويري أو الليبرالي أو الفاشي. وفي السنوات العشر الأولى التي تلت الهجمات، كان البديل التنويري هو المرشّح الرئيس لأن يحل مكان الصيغة الفيصلية، حيث صعد نجمه في السنوات العشر الأولى بعد الهجمات وحدث تقارب بين رموزه والمنتمين له والحكومة التي تبنت بعض مقترحاتهم وخياراتهم، إلا أن هذا التقارب بين الطرفين انتهى إلى قطيعة مع أحداث الربيع العربي.
كان مكمن الجاذبية في خيار التنوير هو أنه يقدم رؤية دينية منفتحة ونقدية لخطاب الصحوة في كثير من المسائل المتعلقة بالمرأة والأقليات والحقوق والحريات الاجتماعية، إلا أن مكمن التوتر فيه هو أنه يحمل رؤية دينية حول العلاقة السياسية بين الحكومة والشعب قائمة على نظرة تعاقدية تقع الديمقراطية وحقوق الإنسان في قلبها. ولهذا كانت العلاقة بين الحكومة وهذا الخطاب متوترة، فهي شجعت الجانب المتعلق بنقد الصحوة والانفتاح الاجتماعي وتعاملت بشكل متأرجح بخصوص المطالب والخطاب السياسي للتنوير. حسمت هذه العلاقة في الربيع العربي حيث انشطر خطاب التنوير وتحولت علاقة الحكومة مع الشق السياسي منه إلى علاقة عدائية بعد تبنيها لبديل آخر. وعند الحديث عن الحكومة هنا، لابد من التأكيد أننا نقصد النخبة السياسية المحيطة بولي العهد الأمير عبدالله- ثم الملك بعد 2005م- وبشكل أكثر تحديداً شخصيات مثل عبدالعزيز التويجري وغازي القصيبي، ذلك أنه لم يكن هناك توافق بين هذا التوجه والنخب الأخرى، خصوصا تلك المحيطة بوزير الداخلية نايف وابنه محمد والتي كانت تفضّل الاستمرار بالعمل وفق الصيغة الفيصلية مع احتواء وسيطرة أكبر على خطاب الصحوة.
في السنوات العشر اللاحقة على الحادي عشر من سبتمبر، اتخذت الحكومة ممثلة بعبدالله ومن حوله عددا من القرارات والسياسات باتجاه تجاوز الصيغة الفيصلية. فبالإضافة لارتفاع سقف حرية التعبير، خطت خطوات نحو مزيد من الانفتاح السياسي والاجتماعي، مثل تأسيس مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في عام 2003م، والذي ضمت دوراته الأولى شخصيات من كافة الطيف السياسي والديني في المملكة، وشهدت نقاشات وحوارات حيوية حول قضايا حساسة لم يكن من الممكن خوضها في السابق، وكانت التوصيات الأولى التي خرجت بها هذه الحوارات جريئة، حيث طالبت توصيات دورتيه الأولى والثانية بـ”تسريع عملية الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة الشعبية من خلال انتخاب أعضاء مجلس الشورى ومجالس المناطق، وتشجيع تأسيس النقابات والجمعيات التطوعية ومؤسسات المجتمع المدني”، و”الفصل بين السلطات الثلاثة: التنظيمية والقضائية والتنفيذية”، و”الدعوة لتجديد الخطاب الديني؛ بما يتناسب والمتغيرات المعاصرة”، و”تعزيز دور المرأة في كافة المجالات”، و”تأمين المحاكمة العادلة أمام القضاء للمتهمين بقضايا العنف والإرهاب”، و”إدراك أن الاختلاف والتنوع الفكري وتعدد المذاهب واقع مشاهد”، والتأكيد على “أن مقاومة الاحتلال الصهيوني في فلسطين حق مشروع”. وبالإضافة لجلسات الحوار الوطني التي حركت المشهد الصحفي والإعلامي بنقاشات صاخبة، سمحت الحكومة بتشكيل جمعية أهلية لحقوق الإنسان، وأسست هيئة حكومية لحقوق الإنسان بعد عام، وفي عام 2003م، توسع مجلس الشورى وزادت صلاحياته بحيث أصبح بإمكانه اقتراح القوانين، وفي عام 2005م أعيدت الانتخابات البلدية بعد انقطاعها لخمسة عقود، وتأسست هيئة البيعة في عام 2007م لتنظيم عملية توارث الحكم. كما سرعت أحداث سبتمبر الإصلاحات القانونية في العديد من الملفات التي بدأت في نهاية التسعينات ولعل أهمها ملفي النظام القانوني السعودي وملف المرأة. ففي هذه الفترة، أُصلح نظام السجون بعد توقيع المملكة للميثاق الدولي ضد التعذيب الذي حسّن بعض الشيء من الأوضاع في السجون، وأُصدر نظام جديد للقضاء، ونظام جديد للإجراءات الجزائية ونظام للمحاماة. وخلال هذه الفترة بدأ الاعتراف الرسمي بالمرأة كمواطنة ذات استقلالية وذلك بإصدار بطاقات وطنية خاصة بها، وبدأ مشروع تمكينها في المؤسسات الحكومية ومراكز صناعة القرار وصولاً لتعيين نورة الفايز أول نائبة وزير في تاريخ المملكة وذلك بعد دمج رئاسة تعليم البنات بوزارة المعارف.
في ظلّ هذه التحركات الحكومية التي كانت تجري تحت شعار الإصلاح، تنامى وتضخم التيار التنويري في كافة الاتجاهات. ففي الاتجاه السياسي، بدأ عبدالله الحامد بالعمل على توجيه سهام نقده للسلطوية الكامنة في الصيغة الفيصلية في شقيها السياسي والصحوي، ومعه بدأت الحركة الدستورية السعودية الثانية بالانطلاق وذلك على مرحلتين. بدأت المرحلة الأولى قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وعلى خلفية الانتفاضة الفلسطينية، حيث تجمّع الناشطون الخليجيون في البحرين، وهناك اختمرت الفكرة بين عبدالله الحامد واليساري الشاعر علي الدميني والعروبي الليبرالي أستاذ العلوم السياسية متروك الفالح بقيادة المطالبات الدستورية في المملكة وذلك بتشجيع من الدعوات الإصلاحية الحكومية الرائجة في تلك الفترة. فكتب خطاب “رؤية لحاضر الوطن ومستقبله” عام 2003م والذي التقى ولي العهد عبدالله بالموقعين عليه حيث أخبرهم بأن “رؤيتهم هي رؤيته”. وفي ديسمبر من عام 2003م نشر الحامد ورفاقه الخطاب الآخر المعنون “نداء إلى القيادة والشعب معا: الإصلاح الدستوري أولا”، إلا أنه قُبض عليه عام 2004م، وحكم عليه بسبع سنوات، لكن عندما أصبح عبدالله ملكا في 2005م، أصدر عفوا شمل الحامد. وفي عام 2009م، تبدأ الفترة الثانية من الحركة الدستورية وذلك بتأسيس عبدالله الحامد ومحمد القحطاني ومجموعة من الناشطين الدستوريين جمعية الحقوق المدنية والسياسية (حسم) والتي مثلت نواة الحراك الدستوري الذي سيتعاظم ويتضخم في السنوات الأولى من الربيع العربي حتى يصل لنهايته بسجن القائمين على الحركة وحل جمعيتهم في 2013م. ظلّ الحامد في السجن حتى وفاته عام 2020م.
على الجانب الفكري، فقد تركّزت جهود التنويريين على نقد الخطاب الليبرالي والخطاب الصحوي، وإن كان التشديد على الأخير أكثر. فنقدوا رفض الليبراليين للديمقراطية وتمسكهم بالخيار السلطوي والقضايا الهامشية على حساب القضايا الدستورية الرئيسة، وأما نقدهم للصحوة فكان متنوعا شمل السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيره. وهذا الجانب من تاريخ التنوير السعودي غني ومتشعب، لهذا سأكتفي بذكر قصص بعض النماذج وتتبع مآلاتها. أما النموذج الأول فهي الشبكة العربية للأبحاث، وهي دار نشر أسسها تنويريّان: عبدالعزيز القاسم ونوّاف القديمي. أما الأول، فهو قاضٍ سابق تحوّل لمحامٍ وكان من المشاركين في لجنة الحقوق الشرعية في التسعينات والتي سجن على إثرها ليعود فيما بعد ليلعب دورا مهما في حركة التنوير. فكان أحد الموقعين على البيان الشهير الذي كتبه مجموعة كبيرة من النخب الفكرية السعودية ردّاً على المثقفين الأمريكيين حول موضوع الحرب على الإرهاب. وفي عام 2004م، كتب مع إبراهيم السكران بحثا مهما في نقد المناهج الدينية في المملكة. أما نواف القديمي، فقد كان مسؤولا مع مجموعة من أصدقائه عن ندوة فكرية في الرياض من عام 1999 حتى عام 2005م، وكانت نقطة تجمّع لكثير من التنويريين، يستضيفون فيها المثقفين والكتاب ويتعرفون على غيرهم ممن يشاركونهم الاهتمامات، ويناقشون خصومهم الفكريين من صحويين وغيرهم، وبعد تخرجه من شعبة الصحافة، عمل في صحيفة الشرق الأوسط حتى عام 2003م، ثم في 2004م، أشرف على تقديم برنامج موجه للنخب الثقافية في قناة المجد، لكن لم يستمر. بعدها نشر مجموعة من الكتب لعل أكثرها تأثيرا في الوسط الديني هو أشواق الحرية الذي سنتحدث عنه بعد قليل.
تحوّلت الشبكة العربية للأبحاث بعد تأسيسها بسرعة لواحدة من أهم منصات النشر والترجمة لمجموعة من الكتب المتعلقة بالسعودية ولمؤلفين منها وكذلك لعناوين مرتبطة بالتنوير الفكري. حيث نشرت لعدد كبير من الكتاب السعوديين، جلّهم من المنتسبين للتنوير السعودي. وضمت قائمة الكتاب كل من عبدالعزيز الخضر، ومسفر القحطاني، ومحمد بن صنيتان، وإبراهيم الخليفة، وسعد الصويان، وخالد الدخيل، وناصر الحزيمي، ومحمد العبدالكريم، وحاتم العوني، وتوفيق السيف، وعبدالله المالكي، ومحمد الأحمري، ومصطفى الحسن، وزكي الميلاد، وعلي الظفيري. وبدر الإبراهيم ومحمد الصادق. كما ترجمت الكثير من الكتب المهمة عن السعودية، مثل كتاب زمن الصحوة، والجهاد في السعودية، وعلماء الإسلام، والنساء والفضاءات العامة. إلا أنه في معرض الرياض للكتاب لعام 2014م، صودرت كتب الشبكة، ثم حُظرت بعد ذلك من دخول المملكة، الأمر الذي أدى لفضّ الشراكة بين القاسم والقديمي، لتكمل الشبكة مسيرتها بقيادة الأخير بعيدا عن المملكة ومعارضها ومكتباتها.
أما النموذج الثاني فهو الدكتور محمد الأحمري. ففي فترة التسعينات كان يكمل دراسته العليا في الخارج، وكان جزءا من حراك الصحوة الإسلامية في الولايات المتحدة وبريطانيا، حيث لعب دورا في تأسيس التجمع الإسلامي في شمال أمريكا. ولكن بعد هجمات سبتمبر، عاد للمملكة ليلعب دورا مهما في الحراك التنويري. فبالإضافة لدوره كمستشار للنشر والترجمة في مكتبة العبيكان مما مكنه من تقديم العديد من العناوين للقارئ العربي، لعل أهمها الكتب الناقدة للسياسات الأمريكية مثل كتب تشومسكي وديفيد هارفي وغيرهم، إلا أن تأثيره الرئيس كان في المنصتين اللتين أشرف على تأسيسها: الأولى: الديوانية المفتوحة التي كان يعقدها في منزله ويحضرها التنويريون والصحويون وغيرهم من المثقفين والشخصيات والتي عقد فيها نقاشات صاخبة امتد أثرها إلى الساحات الافتراضية. أما المنصة الأخرى فكانت مجلة العصر التي نشر فيها إبراهيم السكران نقده للتنويريين المذكور في مقدمة هذا المقال، ففي هذه المجلة استكتب الأحمري مجموعة من الكتاب والمثقفين التنويريين الذين نشروا على صفحاتها أفكارهم وتعليقاتهم حول الأحداث الجارية، وسأكتفي هنا بذكر نموذجين للنقاشات المستفيضة التي خرجت من رحم مجلة العصر وبتأثير مباشر من محمد الأحمري. ففي عام 2006م، وأثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وبينما كانت تيارات الصحوة ترفض التعاطف مع حزب الله باعتباره حركة شيعية، كتب الأحمري مقالة بعنوان “خدعة التحليل العقدي“، ثم أخرى بعنوان “حصاد التحليل العقدي”، ثم ثالثة بعنوان “رؤية في المعضلة الشيعية”. ولّدت هذه المقالات سلسلة من الردود امتدت لست سنوات، لعل أشهرها مقالة بندر الشويقي بعنوان “خدعة التحليل السياسي”، وسلسلة مقالات علي العميم عن الأحمري في عام 2012م على صفحات الشرق الأوسط والتي كان عنوان أحدها “الأحمري… خدعة التحليل العقدي والسرورية”. وفي عام 2008م، عندما فاز أوباما بالانتخابات الأمريكية كأول رئيس أسود، كتب الأحمري مقالا بعنوان “انتصار الديمقراطية على الوثنية في الانتخابات الأمريكية” والتي ولّدت العديد من الردود شارك فيها كل من ناصر العمر وبندر الشويقي وفؤاد الفرحان، لكن المشاركة الأهم كانت لنواف القديمي بكتيب بعنوان “أشواق الحرية” والذي حظي بانتشار صاخب، لتتوالى الردود وتتسع رقعة المشاركات في الإنترنت والصحف، خصوصا الملحق الديني في صحيفة عكاظ الذي يشرف عليه الصفحي عبدالعزيز قاسم والذي كانت له مجموعة بريدية تحفز لمزيد من النقاشات. وبينما هو منخرط في الشأن الفكري لم يكن منفصلا عن الشأن السياسي المحلي، فمجلة كانت إحدى المنصات الرئيسية التي ناصرت فؤاد الفرحان عندما تم اعتقاله كأول مدون سعودي يعتقل في 2007م، وفي نفس السنة كتب الأحمري “نداء لخادم الحرمين الشريفين”، يدعو فيه للإفراج عن معتقلي النشاط السياسي. في أكتوبر 2008، انتقل الأحمري من السعودية إلى قطر، ثم تخلى عن جنسيته السعودية مقابل الجنسية القطرية.
شخصيتنا التنويرية الثالثة تخلى أيضا عن جنسيته السعودية، لكن هذه المرة مقابل الجنسية الإماراتية، وهو منصور النقيدان. فمنصور الذي نشأ ضمن إخوان بريدة- وهم مجموعة من الزهاد الرافضين للمنتجات والمؤسسات الحديثة والمحافظين اجتماعيا- مرّ بمرحلة متطرفة هاجم خلالها محلات الفيديو ( بالحرق ) فسجن على إثرها، ثم لمّا خرج مرّ بمرحلة تحوّل فكري جعلته من أوائل مشعلي حركة التنوير في المملكة. نشر له أول مقال في صحيفة الحياة عام 1999م، بعنوان “هل كان ابن أبي دؤاد مظلوما؟”، لتتوالى بعدها المقالات ثم في سبتمبر 2000م، عمل محررا متفرغا في القسم الثقافي في صحيفة الوطن عند انطلاقها، ومن خلال هذه الصفحة استكتب كثيرا من الكتاب التنويريين وقدمهم للفضاء العام. استمر النقيدان في منصبه لمدة سنتين، وبعد خلاف مع رئيس التحرير انتقل للعمل في صحيفة الرياض والكتابة فيها حتى عام 2006م، ثم انتقل منها لصحيفة الوقت البحرينية لعامين، ثم عاد للرياض حتى عام 2012م. كانت فترة كتابته الأولى الأكثر جرأة في الطرح، أما فترة كتابته في صحيفة الوقت كانت الأكثر نضجا وجمالاً. ففيها كتب سلسلة مقالات يقارن فيها الوهابية بالبروتستانتية (كمقالتي “الوهابية والأخلاق البروتستانتية” ، ومقالة “لوثر وابن عبدالوهاب“). وفيه كانت آخر مقالاته المؤيدة للحراك السياسي الإصلاحي في المملكة. فهو في 2003، كتب مقالا في الجزيرة بعنوان “مشكلة الحريات الفكرية والصحفية في السعودية” على خلفية اعتقال الحامد والدميني والفالح، وفي 2007، كتب لصحيفة الوقت مقالة يساءل فيها معنى الوطنية وعلاقتها بالوصولية والنفاق بعنوان “خائن لوطني“.
لكن ابتداء من سنة 2008م، بدأت حياته بالتغيّر مع زيادة ارتباطه بتركي الدخيل. فتركي الدخيل كان أحد الشخصيات المهمّة في هذه الفترة، فهو دخل عالم الصحافة مبكرا وعمل في التسعينات لعدد متنوع من الصحف والإذاعات، لكن بعد هجمات سبتبمر أصبح مذيعا لبرنامج إضاءات على قناة العربية والذي كان أحد أهم البرامج المتابعة في المملكة والذي من خلاله قدم الكثير من الشخصيات الفكرية المحلية ومنهم شخصيات تنويرية متعددة، والذي امتد من 2003 واستمر طيلة الفترة الحالية. وخلال هذه الفترة، أسس تركي مجموعة من المنصات والمؤسسات، فأسس أهم المنتديات السعودية كمنتدى الإقلاع ومنتدى جسد الثقافة، كما أسس مركز المسبار في الإمارات عام 2005م وهو مركز متخصص بدراسات الجماعات الإسلامية، وفي 2010م أسس دار مدارك للنشر. وخلال هذه الفترة أيضا أنهى دراسته للماجستير في لبنان بإشراف رضوان السيّد والتي كانت عن سلمان العودة، حيث نشرها في كتاب بعنوان “سلمان العودة من السجن إلى التنوير”. وخلال هذه الفترة، وبسبب إقامته في الإمارات، نسج تركي الدخيل علاقات قوية مع الحكومة الإماراتية. وهذه العلاقات والمؤسسات التي توفر عليها تركي الدخيل هي التي ستحدث تغيّرا عند منصور النقيدان بعد 2008م، عندما بدأ يعمل في مركز المسبار، حتى أصبح مديره. وكان منصور من أكثر التنويريين جرأة في طرح أفكاره، حيث سئل في برنامج إضاءات عن دينه، فأجاب بأنه الإنسانية، وبسبب هذه الجرأة لاقى أصنافا متنوعة من الهجوم والأذى. ولهذا كله قرر الانتقال بشكل دائم للإمارات، ثم عندما انطلق الربيع العربي قابله بمنصور بتوتر وتردد كبيرين، حتى حسم خياراته فيما بعد بالانضمام للمعسكر المعادي له، وتخلى عن جنسيته، وأصبح إماراتيا. أما بالنسبة لرفيقه الدخيل، فهو قد واصل صعوده، حيث أصبح مديرا للعربية، ثم في 2019 أصبح السفير السعودي في الإمارات.
الجانب الأخير للتنوير الذي أريد استعراضه هو الجانب الاجتماعي. وهذا الجانب نجد أمثلته في برامج تلفزيونية كانت تبثها مجموعة الإم بي سي ومجموعة القنوات التي يمتلكها الوليد بن طلال مثل روتانا والرسالة وغيرها. فعلى هذه المنصات، وجد مجموعة من السعوديين الفرصة لتقديم صورة أكثر انفتاحا للتدين من النموذج الذي تقدمه الصحوة، وذلك مثل برنامج خواطر الرمضاني لأحمد الشقيري، أو سلسلة البرامج التي قدمها فهد السعوي وعبدالله المديفر في شبكتي روتانا والإم بي سي. إلا أن أهم المؤثرين في مجال التنوير الاجتماعي في تلك الفترة كان سلمان العودة. فبعد أن كان أحد صقور الصحوة في الثمانينات والتسعينات حيث عقد أثناءها محاكمة فكرية للمفكر الإسلامي المصري محمد الغزالي بسبب آرائه التي اعتبرها العودة حينها منفتحة، بدأ مرحلة تحوّل في بداية الألفية. فأسس مؤسسة الإسلام اليوم، التي كان لها موقع على الانترنت، ومجلة أسبوعية، وكان يظهر على شاشة الإم بي سي من عام 2005م أسبوعيا في برنامج الحياة كلمة، وبرنامج حجر الزاوية الرمضاني اليومي حجر الزاوية. فعبر هذه الوسائل المتعددة، استطاع سلمان العودة الانتقال من رداء الداعية الصحوي، إلى الداعية لتدين أكثر انفتاحا وتسامحا وإن كان بعيدا عن الطرح السياسي أو الطرح الفكري العميق، فقد تبنى خلال هذه الفترة خطابا يركز على تطوير الذات، وحسن الإدارة، بل حتى البرمجة اللغوية العصبية، وكان ظهوره المتكرر على هذه الوسائل قد خلق له جماهيرية واسعة وكبيرة تجاوزت المحيط السعودي. ولكن عندما بدأ الربيع العربي، بدأ العودة بدعمه بشكل كبير، وعقد حلقتين خاصيتين حول الأحداث على شاشة الإم بي سي، وهو الأمر الذي أدى لاستغناء الإم بي سي عنه. لكن هذا لم يمنعه من الانتقال لوسائل التواصل الاجتماعي واستغلالها للوصول إلى جمهور كبير والاستمرار بتأييد الربيع العربي، لدرجة أنه نشر كتابه “أسئلة الثورة”، ليمنع من السفر بعد ذلك، وفي بداية تولي الملك سلمان الحكم انتعش سلمان العودة لفترة قصيرة، فرفع عنه حضر السفر، وقال مقولته الشهيرة أن “قواعد اللعبة تغيرت”. لكن لم تلبث هذه الفترة طويلا، حيث اعتقل ولا يزال إلى اليوم في السجن منذ عام 2017م.
خاتمة
إن تتبع هذه المسارات لهذه الشخصيات ومآلاتهم تعكس الحيوية والفاعلية التي عاشها هذا التيار العريض بمستوياته المتعددة في السنوات اللاحقة للحادي عشر من سبتبمر، وتعكس كذلك العمل المكثّف الذي بذله هذا التيار في نحت كثير من المفاهيم وتبيئة غيرها من الأفكار وتطبيع كثير من الممارسات وشنّ العديد من الهجمات على الصيغة الفيصلية في الحكم. وفي نهاية الأمر تمكّن هذا التيار من الانتصار، والقضاء على الصيغة الفيصلية، التي لم تعد صيغة ممكنة للحكم في السعودية. إلا أن مأساته تمثلت في أن لحظة انتصاره كانت هي أيضا لحظة القضاء عليه، فهو كتيار لم يحل بديلا للصيغة الفيصلية التي قضى عليها. أي أن ما حدث لهذا التيار على مستوى الفكر والخطاب مشابه لما حدث للقوى الثورية التي أسقطت الكثير من الأنظمة العربية، فانتصارها هذا لم يسمح لها بتشكيل النظام السياسي بعدها.
سرد تاريخي مصحوب بتحليل متعدد الأبعاد لأثر هجمات سبتمبر على المشهد الثقافي السعودي وشكل صيغة الحكم والتحولات التي طرأت عليها.. من أجمل المقالات التي قرأتها في هذا الجانب.. وأعتقد أن هذا النص يستحق أن يكون مشروع كتاب وليس مجرد مقال..
من العوامل أيضاً : غير تثاقف النخب الذي أشار إليه الكاتب، وعلى جانب شعبي في فترة التسعينات وما تلاها كان الخطاب يرتكز على التعبئة العاطفية على حساب الوعي السياسي والتقعيد الفكري مما مهد لظهور حركات العنف والجنوح للمواجهة القتالية كحل ، إضافة لعدم وجود متنفس صحي لطرح الأفكار .
على صعيد آخر حسن فرحان المالكي ، ومنصور النقيدان كانوا يصادمون الثوابت الفكرية للمجتمع فقط بما يشبه النقمة على المجتمع والقفز للحرق والتدمير فقط بلا بناء فأين التنوير؟.
الكاتب فيما يبدو يحصر التنوير في (المرأة، العلاقة مع الأديان الأخرى وأتباعها، حرية التفكير، الترفيه) بينما مقاله انحصر في تثاقف النخب وتأثيرها على بعضها ، يعني كان يفترض يركز على المحورين اللذين أشار لهما إشارة فقط وهما (العقد السياسي، علاقة الدين بالدولة) وفي هذان المحوران ماذا يعني النقيدان وحسن فرحان المالكي ؟
كما أني فهمت من حديث الكاتب عن حرية التفكير أنه يقصد حرية المعتقد؟ يعني إمكانية تعبير المخالف عن معتقده بلا خوف من تبعات ذلك من تبديع وتفسيق وزندقة أو تكفير وهو ما كان ظاهرة في المشهد الثقافي لوهلة من الزمن الذي حدده المقال.
على أن بعض الأسماء التي ذكر لا تعترف أصلا بمعتقد المجتمع ولا تصرح بذلك لكن تلمح تلميحا بأنها على دين آخر، مما يجنح بالمنظور إلى أن المشهد تثاقف أديان وليس تثاقف نخب ثقافية ذات دين واحد في مجتمع واحد ، ولكن صراع هوية ،، فهل يبدو كذلك؟ لكن يزيل هذا اللبس استبعاد تلك الأسماء التي شط بها النجعة لأبعد من الهوية.
وداخل إطار الهوية كل طرح يؤدي إلى التثاقف هو طرح تنويري ، هذا عن حرية التفكير أو حرية المعتقد.
أما عن المرأة فنحن أمام معركة تقاليد طويلة الأمد شديدة المراس ، ولا يتمثل الحل بمحاولة تقوية المرأة على حساب الرجل والطفل والأسرة مما سيخلق حتما عنصرية بغيضة بين الذكر والأنثى لن تؤدي إلا إلى مزيد من الرسوب في قاع المشكلة، ومعركة التقاليد لا تعني الردة عن الهوية، كانت المرأة في ظل إحاطة محكمة تحاول الحفاظ عليها تقديسا وتنزيها ولكنها أدت لعزلتها التامة وجهلها في الغالب وضياع حقوقها بشكل عام ، وليس الحل لذلك هو التفريط التام فيها للفضاء المفتوح بلا إحاطة ولا عناية هذا أيضا فيه إضاعة لحقوقها ، الحل داخل أطار الهوية في مقام بين الحالين لم يهتدي إليه المجتمع بعد.
ثم الترفيه ، كيف يكون من محاور تقييم التنوير؟
لو نظرنا مثلا لطريقة احتفالنا بأعراسنا كيف كانت عام 1405هـ وكيف هي اليوم 1443هـ تجد انها تغيرت واصبح الناس أكثر وضوحا في التعبير عن مشاعر الفرح لديهم ، ولو قارنتها مثلا بأفراح الكرد أو الهنود أو أي ثقافة أخرى لوجدت أننا لا نزال لا نعرف كيف نفرح ونحتفل، ربما ذلك بسبب عزلة المرأة سابقا.
وخذ مثلا آخر أسفارنا، أين كنا نسافر وكيف كنا نستعد وماذا اصبحنا الآن؟ وقس عليه
أو مالترفيه المقصود إن لم يكن طريقة هذا المجتمع العفوية في تعبيره عن الفرح والاحتفال؟ بعيدا عن المجون والابتذال يعني داخل إطار الهوية.
أعود لأقول : (داخل إطار الهوية كل طرح يؤدي إلى التثاقف هو طرح تنويري).
شكرا سلطان
لم يتم القضاء على الصيغة التفصيلة بل تم قمعها بقوة شرسة ، واليوم تتخلى للولايات المتحدة عن المنطقة تدريجاً و عودة التيار الإسلامي للمنطقة مجرد وقت .
على سيبل المثال فوز و اكتساح الأخوان في مصر رغم عصور طويلة من التنوير ، وكان الحل الوحيد هو القمع و القتل و التنكيل .
وكذلك تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن حكومة كامل و حكم طالبان .
و اليوم الصين قوى عظمى منافس للولايات المتحدة .
المنطقة تتغير .