دلالة الليبرالية في الفكر العربي الراهن

حمد الريّس

كاتب المقالة

حمد الريّس

انشغل الفكر التقدمي في السياق العربي، منذ بواكيره مع رفاعة الطهطاوي، بمسألة التخلف الحضاري إزاء الغرب. وقد اتسم، عوضاً عن ذلك الهاجس العام، بافتقاره إلى هيكل نظري موحد ومنهجي، مما أهله للتأرجح بين مختلف المواقع الفكرية بشكل سلس نسبياً. مع إفساح الفكر القومي واليساري المسرح للخطاب الليبرالي، نصادف اليوم آخر حلقات مسلسل التقلبات الايديولوجية في الخطاب التقدمي العربي. قد يبدو المشهد بتأرجحاته المتناقضة عبثياً للوهلة الأولى، غير أنه يجد في الواقع التاريخي نقطة ارتكازه وبالتالي مفتاح قراءته.

لمفهوم الليبرالية حكاية شيقة في الفكر العربي الحديث، يمكننا التأريخ لها على الأقل منذ بدايات القرن العشرين مع تنويريّي النهضة المتأخرة من أمثال فرح أنطون، وأحمد لطفي السيد، وقاسم أمين، وطه حسين، وغيرهم (ولا نخطئ إن اقتفينا جذوره قبل ذلك بقرن). يجدر بنا الوقوف لبرهة على مدى تبلور رؤية واضحة لمفهوم الليبرالية في تلك الحقبة. فالواضح أن للمفهوم، أو لأبعاده الأساسية على الأقل، حضور طاغٍ وموجِّه لأفكار التيار الممثل عليه أعلاه، حيث كان الالتزام العملي بقيم الليبرالية الأساسية (أو السعي والمبادرة لذلك) مقدَّماً، في الأعم، على العناية بصياغة وتطوير الأصول النظرية لتلك القيم في سياقها التاريخي العربي. إذن بغض النظر عن استعمال مصطلح الليبرالية حرفياً للتدليل على مواقف هذه الطائفة من المفكرين، فإن القارئ يجد قيم الليبرالية، كما تبلورت تاريخياً حتى ذلك الحين، طاغية على كتاباتهم ومفصحة عن هواجسهم. للتحديد، نشير إلى قيم كالتسامح بين الأديان والمذاهب على المستوى الاجتماعي والحياد تجاههم على مستوى الدولة، والفصل بين السلطات (وبخاصة الفصل بين السلطة الدينية والمدنية)، والطبيعة العقدية للدولة العادلة، والدعوة للديمقراطية النيابية، وأسبقية الحريات الشخصية، سيما حرية الرأي والضمير.[1] عينياً، ترجِم الانحياز لهذه المنطلقات على الساحة الفكرية بعدد من الأحداث المفصلية، كالدعوات لإطلاق الحرية في البحث العلمي تزامناً مع محنة طه حسين في الجامعة المصرية إثر إصدار (ومصادرة) رائعته، في الشعر الجاهلي (1926م)، والتي شهدت عليها استقالة لطفي السيد من رئاسة الجامعة المصرية كفعل احتجاج، ودعوات هدى الشعراوي ودرية شفيق ومي زيادة وقاسم أمين وغيرهم لتحرير المرأة (التي لا نستوعب جرأتها إلا باعتبار سياقها التاريخي)، ومحاولات أحمد أمين في مراجعة الموروث من تاريخ الإسلام، بل وحتى بعض مواقف محمد عبده النازعة إلى تحرير التعليم الديني من سلطة النقل والحشو. لكن برغم هذه التفاعلات الحية لعدد من الأطروحات الليبرالية مع الواقع التاريخي العربي، بقيت الليبرالية في سياقها العربي مشروعاً “عملياً”، تستشف إرهاصاته في الانفعالات الصحفية والأكاديمية، فضلاً عن المواقف السياسية، دون أن يتم الالتفات بشكل جدي إلى تأصيل أصوله نظرياً.

حريّ بنا اعتبار الحقبة التاريخية التي احتضنت التيار الليبرالي الأول. كانت تلك حقبة التغيرات الكبرى وأفول عصر الامبراطوريات، وفي ذيلها الامبراطورية العثمانية. أسفر انهيار الدولة العثمانية عن مخاض نظري خلاق، جراء الانفراج السياسي الذي أعقب الانهيار في الدول العربية الخاضعة لسيطرة العثمانيين سابقاً، تناول فيما تناوله أسئلة طارئة، لم تكن لتشكل موضوع نقاش جاد ومُلِحّ وذو نتائج قابلة للتطبيق حتى ذلك الحين، من قبيل علاقة السلطة بالخلافة (بعد فصل المجلس الوطني التركي الكبير للسلطتين عام 1922م، ومسألة ضرورة الخلافة من عدمها (بعد هرب الخليفة العثماني إلى مالطة واستغناء المجلس الوطني التركي عن الخلافة في 1923م، ثم إصدار المجلس للفيصل الأهم حول الموضوع، تحت عنوان “الخلافة وسلطة الأمة” عام 1924م)، وموقع التشريع الدستوري الوضعي من الشريعة الإسلامية (الذي تجلى في الصراع مع الأزهر حول تبني “قانون نابليون” في النظام القضائي)، وموقع الدين بشكل عام من الدولة (كما شهد عليه الصراع المحتدم حول إدراج بند “دين الدولة هو الإسلام” في الدستور المصري لعام 1923م).[2]

لكن التيار الليبرالي وهواجسه، الجليّة عملياً برغم ضبابيتها النظرية، لم يكتب له البقاء بنفس الزخم والحيوية، بل راح يضمحل مع ظهور حركات التحرر الوطني المتوَّجَة بثورات “الضباط” التي اكتسحت مراكز الثقل الكبرى في الوطن العربي في النصف الثاني من القرن العشرين، مصر وسوريا والعراق، والتوجه “الاشتراكي” الذي ساد في عدد آخر من الدول مثل اليمن وليبيا والجزائر، والتي اعقب توليها للحكم انسداد حاد في الأفق السياسي. يشير كمال عبد اللطيف إلى الدور الذي لعبه استناد هذه الأنظمة لـ”الشرعية الثورية” في تغليب استحقاقات التنمية الاقتصادية والوحدة القومية أمام الخطر الاستعماري على مطالب العملية الديمقراطية والحريات السياسية،[3] وأشير بدوري إلى الدور الذي لعبه دوران تلك الأنظمة في الفلك السوفييتي، مستلهماً لجملة استراتيجياته وأجندته، في تغييب أسئلة الحريات عبر إعطاء الأولوية لأسئلة من قبيل الهوية والعروبة والوحدة.[4]

فيما تعد هزيمة 1967م نقطة فارقة في انحدار اليسار العربي، لم يبرز نجم الشاغل الليبرالي ثانية في ذات السياق إلا في خضم غسق المشروع اليساري بالمجمل (بتفرعاته القومية والماركسية وغيرها) مع انهيار المعسكر الاشتراكي أواخر القرن العشرين. ولكن الأمر لم يكن عودة إلى ذي بدء، لا هي عودة إلى شواغل ليبراليي النصف الأول من القرن العشرين، ولا هي بطبيعة الحال عودة إلى منابع الليبرالية الكلاسيكية في أوروبا، وذلك، بديهياً، لاختلاف الظروف التاريخية المحدِّدة لتكوين الخطاب الليبرالي الراهن من أصله. إن التمايز التاريخي بين ليبرالية اليوم والأمس هو ما يشبِّع الخطاب الليبرالي الراهن بشحنة تاريخية مغايرة، لا يمكننا التعاطي معها بسطحيةٍ تُماثِل المتمايز استناداً إلى تشابه الظاهر من الشعارات والتعابير بين الأمس واليوم. هذه الشحنة يجب تفريغها، ولا يتم تفريغها إلا باستنطاق الجانب النقدي من الخطاب الليبرالي الراهن، وتناوله بالنقد بدوره لكشف حدوده ومسلماته الضمنية. لذا لا بد من قراءة هذه العودة للخطاب الليبرالي في ضوء التحولات التاريخية المشار إليها أعلاه، واستنطاق الخطاب عن مدى استغراق مبادئه المراد وسمها بالكليّة والكونية في جزئيات تاريخية آنية، لا مكان لها في تأصيل نظري جاد لخطاب تقدمي، بل وقد تجعل من الخطاب عرضة للاستغلال الايديولوجي، كما سيأتي.[5]

أرى في نقطة التحول إلى ومن الأنظمة القومية المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفييتي الحدث ذو الدلالة الكبرى في تشكيل “الشحنة التاريخية” المحركة للخطاب الليبرالي الراهن. وأعني بـ”الشحنة التاريخية” تلك المسلمات المتراكمة في عينة فكرية ما (خطاب، مفهوم، مصطلح، إلخ.) بشكل ضمني عبر توظيف تلك العينة في سياقات تاريخية متمايزة. تلك المسلمات هي التي توجه استعمالات العينة الفكرية وتحدد صداها لدى المتلقي، استذكاراً أو استشرافاً، بصورة متوارية وغير مباشرة، من شأنها أن تنآى بتلك المسلمات عن الفحص والتناول بالنقد، فيما تظهر العينة الفكرية المعنية وكأنها بريئة من ومستقلة عن مقدماتها التاريخية. أرى أن ما يميز الدلالة الراهنة لمصطلح “الليبرالية” عن الدلالة التي حظي بها في زمن ما قبل الأنظمة القومية يكمن تحديداً في تلك المسلمات المتوارية التي يتضمنها المصطلح في توظيفاته الراهنة، وهي تلك المسلمات التي نتجت كتفاعل مع التجربة التاريخية للأنظمة القومية، والتي أدت إلى صعود نجم “الليبرالية” في الساحة الفكرية العربية ثانية.

فمنذ انهيار “المعسكر الاشتراكي”، ظهر مصطلح الليبرالية كبديل لاصطلاحات تقدمية أخرى لم تعد مستساغة، كما يبدو، لعلاقتها باليسارية (التي صارت مقرونة بفشل التجربة السوفييتية) أو القومية (التي أفرزت أنظمة شمولية اعتنت بالاقتصاد على حساب الإنسان)، وكلتاهما (اليسارية والقومية) مقرونتان بالانضواء في فلك موسكو زمن الحرب الباردة. من هنا يمكننا تلمس جذور العلاقة المتمايزة بين ليبرالية اليوم ويسارية الأمس، مثلاً، وهي علاقة تتلخص في تركيز الخطاب الليبرالي على السياسي وشواغله، بما فيها فصل السلطات ومدنية الدولة (العلمانية) والحريات الشخصية، فضلاً عن توسل خطاب حقوق الإنسان في أحيان كثيرة، في مقابل الهاجس الاقتصادي-الاجتماعي الذي شكل المحور الأبرز لمشاريع اليسار عربياً في القرن العشرين، وإن كان على حساب أسئلة الحريات الفردية والاستحقاقات الديمقراطية.

في سياقنا الراهن، تظهر الليبرالية في ثوب البديل الأحدث للمشروع اليساري أو، في أفضل الحالات ربما، النسخة المنقحة والمزيدة من ذلك المشروع. الإشكال في هذه الرؤية يكمن في معارضتها بين غايات يسار الأمس وشواغل ليبرالية اليوم. في هذه المعارضة تتلخص الشحنة التاريخية التي تميز ليبرالية اليوم عن ليبرالية الأمس. يتجلى هذا في المسكوت عنه داخل الخطاب الليبرالي الراهن، وتركيزه على المطالب السياسية دون الالتفات إلى السؤال الاقتصادي. كما أسلفت، في رأيي أن هذا الاستقطاب نحو السياسي هو نفسه جزء من إرث المشاريع القومية واليسارية التي اندرجت في الفلك السوفييتي خلال القرن العشرين، والتي قلما التفتت إلى سؤال الحريات والديمقراطية بشكل فعلي، بحيث جاء الالتفات إلى السياسي كتصحيح لإشكالية الأمس.

إن نقد المشروع اليساري في سياقه العربي في القرن العشرين لتجاهله إشكالات الحرية الفردية والسياسية هو نقد لا شك في محله. ولا نأخذ عليه وصوله متأخراً، بقدر ما نشير إلى أن حضوره هكذا في معزل عن تلك الأنظمة – أي بعد اضمحلال تلك الأنظمة وركود الزخم اليساري عربياً – يضفي عليه صبغة أحادية، بدورها تهتم بسؤال الحريات (السياسي) على حساب المسألة الاقتصادية. فالأمر في سياقنا الراهن لم يعد ولا يمكن له أن يكون تقويماً لتلك الأنظمة العربية “التقدمية” المندثرة. والإشكال يكمن في كون هذا النقد إنما يدور في الفجوة التي خلفتها تلك الأنظمة، دون أن يسعى لملء فراغ الهاجس الاقتصادي الذي تضاءل صوته مع خفوت نجم التيارات اليسارية والأنظمة القومية.

في المحصلة، يبدو أن الخطاب الليبرالي استبدل الانهماك في السؤال الاقتصادي والاجتماعي بانهماك مضاد في السؤال السياسي والفردي، وكأن الفكر غير قادر على توحيد السؤالين في رؤية شاملة لفلسفة الحق. ليس الغرض هنا اتهام الخطاب الليبرالي العربي الراهن بتجاهل البعد الاقتصادي، فالخطاب لا يتجاهل هذا الجانب. الغرض هو الإشارة إلى غياب الهاجس الاقتصادي الجذري في هذا الخطاب، وأعني بذلك غياب إمكانية التفكير بالنظام الاقتصادي في حد ذاته كأحد أسس حالة الفوات أو التراجع أو التخلف التاريخي (سمها ما شئت) التي تحول دون تقدم الشعوب العربية حضارياً. فالاقتصادي يعود ليطل برأسه ولا ريب داخل أفق الخطاب الليبرالي الراهن، إنما من الباب الخلفي، أي: كإشكال، في صيغة مسألة “العدالة الاجتماعية”، مثلاً، التي عادة ما يتم التطرق إليها كمسألة مستقلة (إن لم تكن ثانوية)، فيما تقترح لها الحلول بشكل تجزيئي (إن لم نقل “ترقيعي”)، من قبيل اقتراح برامج المراقبة والمحاسبة المالية، والدعوة إلى المزيد من الشفافية في المعاملات، وباقة جاهزة ومعروفة من التنظيمات الاقتصادية والضوابط التجارية والآليات. هذه، تعريفاً، حلول سطحية، لا تلتفت أبداً إلى إمكانية كمون المشكلة في مبادئ النظام الاقتصادي نفسه، وليس في طرق تطبيقه في الواقع. لا يخفى على أحد كيف يمكن استغلال هذا التوجه ايديولوجياً لسد الأفق أمام تفكير يطرح إشكالات أكثر جرأة.

تبين لنا هذه اللمحة التاريخية العامة كيف تأرجح الفكر التقدمي في سياقه العربي من تغليب أولويات الليبرالية الكلاسيكية، السياسية في المجمل، في بدايات القرن العشرين، إلى التغليب أحادي الجانب للاقتصادي في أواسط القرن (حسب المنهج السوفييتي)، وعودةً إلى ترجيح كفة السياسي مرة أخرى مع الخطاب الليبرالي المتداول اليوم.

قد يقال أن السبب وراء هذا التأرجح يكمن في بقاء الفكر عندنا انفعالياً، أسير سياقه التاريخي واستحقاقاته. لكن ألا يقدم هذا التعليل النتيجة على السبب؟ أليس الأرجح أن تلك الانفعالية نفسها هي إحدى أعراض غياب التأسيس النظري المنهجي لأولويات التيار التقدمي، بدءاً من أسئلة الحق والعدالة، التي عز أن نجد من يتصدى لها بمستوى الإلحاح والإحاطة الذي طبع أعمال رفاعة الطهطاوي، مثلاً، مطلع القرن التاسع عشر؟ لا نرى، بعد تأرجح دام لأكثر من قرنين من الزمان، في مثل هذا التأسيس الفلسفي ترفاً.

 

[1]  راجع: Albert Hourani, Arab Thought in the Liberal Age 1798-1939, Cambridge University Press, 1983, pp. 260 ff.

[2]  راجع: مقدمة نصر حامد أبو زيد لعلي عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، دار التنوير، بيروت، 2013. وإبراهيم العلاف، الإسلام والعلمانية في تركيا المعاصرة، مركز الدراسات الإقليمية، الموصل، 1996.

[3]  كمال عبد اللطيف، “نحو حداثة سياسية عربية: مقدمات وأسئلة” في الحداثة والحداثة العربية، دار بترا، دمشق، 2004. – غير أنني لا أرى في صعود هذه الأنظمة إلى سدة الحكم “تراجعات كبرى” كما يذهب إليه عبد اللطيف، لأن في ذلك حكماً معيارياً ضمنياً (بالإيجاب) على قيمة الخطاب الليبرالي السابق للأنظمة “الاشتراكية” والقومية العربية، وهو خطاب في رأيي يعاني من ذات أُحادية الأنظمة الاشتراكية، إنما ميلاً إلى السياسي بدلاً من الاقتصادي، كما سأشير أدناه.

[4]  للمزيد، راجع: عبد الإله بلقريز، نقد الخطاب القومي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2010 وهاني عواد، تحولات مفهوم القومية العربية من المادي إلى المتخيل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2013.

[5]   ليس الغرض هنا التعرض لأي مفكر على وجه التحديد، إنما تناول توجه معين نقرأ عنه ونسمع في وسائل الإعلام والتواصل، فضلاً عن الكتابات الفكرية والأبحاث الأكاديمية، بشكل متزايد في الآونة الأخيرة. جل ما أودّه هو الإشارة إلى أهمية الالتفات للشحنة التاريخية الكامنة في هذا المفهوم الذي صار يطل برأسه في كل نقاش فكري حول السياسة والمجتمع. أما التعرض لاجتهادات فكرية معينة فمكانه بحث أكاديمي مفصل، ليس مقامه تدوينة مقتضبة كهذه.

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *