ما زالت تداعيات المرسوم الملكي الصادر من قبل العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود في السادس والعشرين من سبتمبر/أيلول 2017 المنصرم، و الذي قضى بمنح المرأة حق قيادة السيارة في المملكة العربية السعودية ابتداءاً من منتصف العام المقبل، محل البحث والتقصي بين أولئك الذين اعتبروه انتصاراً جلياً للحراك النسوي في المملكة، وبين أولئك الذين أشاروا إليه كقرار براغماتي محض جاء في وقت سياسي و اقتصادي حرج.
فلقد تباينت القراءات لهذه الخطوة بين المؤيدين لهذا القرار، واختلفت الإجابات التوصيفية لسؤال ” لمن ينسب له الفضل في هذا ؟” بين الفئة التي أوعزت إقرار هذا المرسوم لجهود الناشطات السعوديات و ما تبعته من مطالبات و حملات هادفة لرفع الحظر عن القيادة والتي استمرت على مدى أكثر من ثلاثة عقود. و بين من قلل من تأثير هذه الجهود و آثر نسب الفضل في هذا للسلطة السياسية و للقيادة الجديدة على وجه الخصوص والمتمثلة في شخص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان و جهوده الرامية إلى تدشين نمط جديد من السياسة والإصلاحات النيوليبرالية.
وجراء هذا، فلقد أعادت التطورات المستجدة تداول جدلية فاعلية وجدوى الحركات الاجتماعية- ولا سيما النسوية منها – على عملية تغيير القرار السياسي. ناهيك عن تشكيك البعض بوجود حركة نسوية ناشطة ترقى لأن يطلق عليها “حركة اجتماعية” في المملكة العربية السعودية ،و اعتبارهم إياها جهوداً ومحاولات فردية متفرقة لا أكثر و لا أقل.
وبناءاً على ذلك فإنني أهدف من خلال هذه المقالة إلى إثراء الطرح النظري المتعلق بالنضال النسوي في المملكة العربية السعودية و الذي عادةً ما يوصم بعدم وجود إرث سابق له أو تاريخ مستدام لنشاطه. إذن فإن السؤالين اللذين سأسعى للإجابة عنهما هما: هل يمكننا إطلاق تسمية ” حركة اجتماعية” على الجهود النسوية في المملكة العربية السعودية في سياق حملات تأييد قيادة المرأة ؟ و هل تسعفنا النماذج النظرية المتواجدة حالياً في مجال الحركات الاجتماعية في تأطير هذا النوع من الحراك المتواجد في هذا السياق تحديداً؟
ولتحقيق هذه الغاية فإنني سأستهل مقالتي هذه بتقديم شرح موجز لمفهوم الحركات الاجتماعية، و أوجه القصور التي تفرضه نظرياته عند التعرض لتحليل الحركات النسائية نظرياً و إبستمولوجياً، بالإضافة إلى التعقيدات النظرية التي تواجهنا عند محاولتنا لتطبيق بعض عناصره على النشاط النسوي في المملكة. انتهاءاً باستعراض المناهج البديلة التي تخولنا فهم ديناميكيات العلاقة التشابكية بين الحركات الاجتماعية و الحراك النسوي بصورة أشمل و أدق.
الحركات الإجتماعية: موجز مبسط
تعتبر نظريات الحركات الاجتماعية من أبرز المساهمات الأكاديمية التي برهنت على قدرتها في فهم وتحليل أسباب بزوغ الحركات المطلبية و خصائصها إضافةً إلى آليات عملها في مناطق شتى من العالم. و ابتداءً ، فإنه يمكن الإشارة إلى الحركة بالمعنى الاجتماعي باعتبارها القيام بعدد من الأنشطة للدفاع عن مبدأ ما أو الوصول إلى هدف معين . حيث تشمل الحركة الاجتماعية مجموعات من البشر الذين يشتركون في حمل عقيدة أو أفكار متشابهة ، و يحاولون تحقيق بعض الأهداف العامة . كما يشير البعض إلى أن الحركة الاجتماعية هي محاولة قصدية لإحداث نوع من التغيير الاجتماعي،عبر تحدي سلطة النظام السياسي القائم من خلال استعمال خطاب مضاد يستهدف تحشيد الجماهير و تغيير المجتمع [١].
ولقد تم طرح مفهوم الحركات الاجتماعية في الفكر الإسلامي المحلي ، فتداولها عدد كثير من الباحثين العرب في دراساتهم، فالحركة الاجتماعية تحت مظلة الفكر الإسلامي هي الحركة التي تخضع لها المجتمعات العربية بلا استثناء، وتشكل في الأساس عملا داخليا مرتبطاً بهذه المجتمعات هدفه إعادة تركيب نسيجها الاجتماعي وفق المقياس الأوحد المعترف به وهو الإسلام [٢].
كما وردت في الفكر الغربي و تناولها العديد من الأكاديميين الغربيين في دراساتهم أمثال: عالم الاجتماع الأمريكي “هربت بلومر” و “ بول ويلكنسون” وآخرين غيرهم. وفي السياق نفسه يعرفها عالم السياسة الأمريكي البارز تشارلز تيلي من خلال كتابه الحركات الاجتماعية (٢٠٠٤-١٧٦٨) بأنها : ”سلسلة مستدامة من التفاعلات بين أصحاب السلطة و أشخاص يضطلعون بالتحدث نيابة عن قاعدة شعبية تفتقد إلى التمثيل الرسمي، و ما ينطوي على هذا من مطالب واحتجاجات عامة مرافقة” . في حين أن تارو يشير إليها بكونها “تحديات جماعية، تقوم على مقاصد مشتركة وسلوك اجتماعي، في تفاعل مستمر مع النخب والمعارضين والسلطات على حد السواء [٣].
و يتبين مما سبق أنه لا يوجد تعريف محدد متفق عليه سلفاً بين المتخصصين في الحركات الاجتماعية ، إلا أنه يمكن الإشارة لعدد من الركائز المشتركة التي تبنى عليها ومنها : ١ – كونها عمل جماعي يستهدف التغيير. ٢- توافر درجة من التنظيم. ٣- -الشعور بعدم الرضا والسخط على الأوضاع الراهنة ٤- تمثيلها لشرائح مجتمعية يمكن حشدها و تعبئتها.
وقد تعددت النماذج النظرية المختصة بتحليل الحركات الاجتماعية ابتداء من نظرية السلوك الجمعي والتي تمخضت خلال أربعينات وخمسينات القرن الماضي، وربطت نشوء الحركات الإجتماعية بحدوث أشكال من الهستيريا و السلوك الاندفاعي الغير عقلاني، مروراً بنظرية الحرمان النسبي والتي استندت إلى فرضية شعور الأفراد الواعي بالحرمان من جراء احساسهم بالخيبة الناتجة عن عدم تطابق تطلعاتهم مع الواقع الفعلي. أما نظرية الاختيار العقلاني و التي انبثقت من علم الاقتصاد، فقد تبنت فكرة أن الأفراد عقلانيون في الأصل، و إنهم يقومون بالمفاضلة بين الخيارات المتوفرة إليهم و إجراء حسابات الربح والخسارة من أجل تحقيق المنفعة المتوقعة العظمى .ولهذا تدعي هذه النظرية قدرتها على توقع مآلات المسارات المختلفة للأفعال من خلال اتكالها على تعميم السلوك الفردي المنهجي الاستنباطي الذي يتبعه الأفراد.
بينما عدت نظرية تعبئة الموارد والتي تبلورت في ستينيات القرن العشرين نشوء وتطور منظمات الحركات الاجتماعية لاختلاف درجة توظيفها لموارد الحركة المتوفرة لها و التي تتكون عادةً من: الأصول والهياكل والأموال والقدرات البشرية [٤] , وصولاً لنظرية بنية الفرص السياسية و التي رأت أن الاختلاف في حدة وأنواع نشاط الحركة الاجتماعية يُفسر بالاختلافات في السياق (المحتوى) السياسي الذي تواجهه، فعدم استقرار التحالفات السياسية للنظام على سبيل المثال أو وجود نخب متعاطفة مع المعارضين،، يمثل فرصة ذهبية للمطالبين للتحرك واستهداف النظام لتمرير مطالبهم.
إضافةً إلى نظرية “الحركات الاجتماعية الجديدة” و التي تطورت في أوروبا لتضم تحت طائلتها الحركات الجديدة التي شهدتها الستينيات والسبعينيات كالحركة الطلابية والنسوية إضافةً إلى حركة السلام و حركة الحفاظ على البيئة وما رافقتهم من مظالم و متطلبات وتطلعات جديدة. و هي تختلف عن باقي الحركات الاجتماعية التقليدية فى كونها تستهدف التأثير على السلطة، لا الاستحواذ عليها [٥]، ووقوعها خارج إطار السياسة المنظمة سواء فى ذلك الأحزاب السياسية أو أجهزة الدولة. إضافةً إلى سعيها الحثيث لنشر عدد من القيم التي أشار إليها الباحثين “بالقيم ما بعد المادية” على المستوى المحلي والمجتمعي.
تبعات هيمنة نظرية “السياسات التنازعية” على الحراك النسوي بشكل خاص
و تعد النظرة السائدة حالياً في مجال الحركات الاجتماعية باعتبارها شكلا من أشكال “السياسات التنازعية” و التي ازدهرت في منتصف التسعينات، متأصلة في كتابات تشارلز تيلي و سيدني تارو و ماك آدم الذين عملوا على تطويرها سوياً. حيث يركز هذا النهج بشكل عام عند تطرقه للحركات الاجتماعية على أحداث الاحتجاجات العامة أو الأشكال الأخرى من الأفعال المطلبية العلنية كموجات الإضراب و الثورات، و العملية التفاعلية التي تقوم بين أصحاب المطالب و أصحاب القرار الذين ستتأثر مصالحهم في حالة إذعانهم لهذه المطالب.
و تباعاً، فإن هيمنة هذا المنظور على حقل الحركات الاجتماعية قد ساهم في إعطاء انطباع أن وهج الحركات النسوية في العالم آخذ في التلاشي و الخفوت، نظراً لتركيزه الضيق على المعنى التقليدي لقياس الحركات الاجتماعية وتحيزه النظري نحو دراسة التكتيكات التنازعية العامة و الاحتجاجات ، مستبعداً بذلك الحركات التي لا تتبنى منطق توظيف المظاهرات الحاشدة بشكل أساسي، و التي تلجأ لاستخدام تكتيكات أخرى عوضاً عنها من أجل إدراج مطالبها في الفضاء العام [٦] .
الأمر الذي أسهم في بروز إشكاليات نظرية فيما يتعلق بقياسه و تطبيقه على الحركات النسوية. أي أنه ليس من المعقول أن تقترن كل الحركات بوجود شرط التظاهرات الحاشدة من أجل اعتبارها حركات اجتماعية- و خصوصاً في الدول التي التي تقيد العمل الاحتجاجي. إضافةً إلى أن نهج “السياسات التنازعية” يغفل التطرق إلى الفروق بين الجنسين و أثر هذا على ديناميكيات العمل الجماعي الحاصل.
ناهيك عن بروز ذلك الافتراض الشائع بين أولئك الذين يتبنون نهج دورات أو مراحل الاحتجاج (Protest Cycles Approach) و الذي يشير إلى أن جميع الحركات الاجتماعية تتبع مسارات متماثلة تبدأ بتبنيها استراتيجيات سياسية معارضة خارج القنوات السياسية التقليدية ، مروراً بتطبعها بالطابع المؤسساتي الرسمي و احترافيتها، مما يؤدي لاختفاء الحركة وأفول نجمها [٧] . أي أن احترافية الحركات الاجتماعية هو أمر حتمي يؤدي إلى تحييد الحركة و تخفيف حدة مطالبها في نهاية المطاف.
وجراء هذا، فقد انتقد الكثير من الأكاديميين نهج “السياسات التنازعية” مؤكدين في ذلك على أن الحركات الاجتماعية هي أشمل من ذلك بكثير [٨] . لا سيما الحركات النسوية منها و التي تتميز بطبيعتها الغير تقليدية و الغير جامدة من ناحية التكوين العملي، ومن ناحية استنادها على الشبكات والتحالفات الغير رسمية. فذخيرة أداءات الحركات النسوية الاجتماعية (Repertoires of Contention) قد تجمع فيما بينها المظاهرات، الحملات المطلبية، البيانات الصحفية، العمل البيروقراطي الروتيني المباشر، إضافةً إلى الأنشطة الثقافية الإبداعية و الحملات التوعوية التي تصبو إلى رفع درجة الوعي المجتمعي بقضايا النساء و مطالبهم. و لا ننسى منهم العمل الفردي المقاوم ( Micro Acts of Resistance) كالتي أشار لها جيمس سكوت.
الأمر الذي يدعونا لضرورة تبني نظرة تحليلة تدرج الفروق الجندرية في عين الاعتبار عند التعرض للحركات الاجتماعية النسوية، وذلك نظراً لتبنيها ذخيرة أداءات جندرية فيما يتعلق بأساليبها و تكتيكاتها (Gendered Repertoires of Contention) [٩] التي قد تستهدف السلطة وأفراد المجتمع على حد السواء. إضافةً إلى مراجعة النظريات الحالية المتواجدة لدينا والأخذ بعين الاعتبار الأنواع المختلفة من الحراك الاجتماعي و الأقل نزاعية من الناحية المطلبية عند تقييم التطورات في الحركة النسائية.
استعراض الحراك النسوي السعودي المتعلق بحملات تأييد قيادة المرأة
لقد مرت الجهود النسوية المناطة بحملات تأييد قيادة المرأة بمحطات عديدة، حيث يعود أصل هذه الجهود إلى السادس من تشرين الثاني / نوفمبر عام 1990 ، حين تجمعت حوالي سبعة و أربعون سيدة سعودية في موقف سيارات سوبر ماركت التميمي في العاصمة الرياض، و ما لبثن أن قدن 13 سيارة للمطالبة بحقهن في قيادة السيارة، مما انتهى باعتقالهن وفصلهن عن العمل ومنعهن من السفر.
و قد كان من بين المتظاهرات العديد من النساء المهنيات ذوات التعليم العالي، وعلى رأسهن عائشة المانع، أستاذة علم الاجتماع و الحاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة كولورادو في بولدر، و التي أكدت في مقابلةً لها مع صحيفة النيويورك تايمز في ذلك الحين على أن القيادة هي ضرورة أساسية للسيدات اللواتي يعملن ويدعمن أسرهن بالإضافة إلى استشهادها بالعبء الاقتصادي الذي يكلفه السائقون على ميزانية العوام. و قد عملت عائشة المانع مع الناشطة حصة آل شيخ في تأليف كتاب أطلقتا عليه “نساء السادس من نوفمبر” لتوثيق تجربتهما في ذاك الحراك.
و قد أعقب هذا محاولة الناشطة وجيهة الحويدر لقيادة سياراتها من البحرين إلى جسر الملك فهد عام ٢٠٠٦ والتي أدت لاعتقالها. وتلى هذا اشتراكها مع الناشطة فوزية العيوني في تأسيس جمعية الحماية والدفاع عن حقوق المرأة عام ٢٠٠٧ التي لم تحظ بترخيص من الدولة. و قد تكونت الجمعية من عدد من اللجان المختصة بمتابعة قضايا المرأة كالعنف الأسري و سن حد أدنى للزواج، بالإضافة إلى لجنة مختصة بمتابعة قضية السماح للمرأة بالقيادة والتي قامت برفع عريضة تحتوي على أكثر من ألف توقيع للعاهل السعودي الراحل الملك عبدالله بن عبد العزيز ملتمسةً في ذلك على ضرورة منح المرأة الحق في حرية التنقل. و لم تنتهي محاولات وجيهة الحويدر عند هذا الحد، فقد قامت بمحاولة ثانية لقيادة السيارة عام ٢٠٠٨ و تحميل تجربتها على موقع اليوتيوب ونشرها في المدونات، مما أثار ضجة كبيرة اضطرت في أعقابها على الاعتذار والتعهد بعدم القيادة مرة أخرى.
بينما شهد أيار/ مايو 2009 حملة جديدة من نوعها، عندما أطلقت أريج خان وهي طالبة سعودية في التصميم الجرافيكي في الولايات المتحدة حملة مبتكرة على الإنترنت أسميت بـ “N7nu” – نحن النساء. و ركزت هذه الحملة على توظيف وسائل التواصل الإجتماعية كاليوتيوب و الفيس بوك وفليكر من أجل تشجيع أفراد المجتمع على إبداء النقاش و تعزيز الحوار بينهم حول هذا الموضوع من أجل إعادة النظر في الحظر المفروض على السائقات في المملكة. بينما انطلقت حملة سأقود سيارتي بنفسي في السادس عشر من يونيو ٢٠١١ على أعقاب الربيع العربي لتشجيع النساء اللواتي يمتلكن رخص قيادة دولية على القيادة، و انضمت إلى هذه الحملة وجوه نسائية عديدة كمنال الشريف ووجيهة الحويدر و عشرات النساء اللاتي قمن بقيادة سياراتهن في المدن الرئيسية و توثيق تجاربهن تباعاً.
و قد لاقت هذه الحملة الأخيرة و ما رافقها من نشاط إلكتروني مكثف في وسائل التواصل الاجتماعية، حيث تم إدارتها على الإنترنت خلال الصفحات الإلكترونية الخاصة بها على الفيس بوك و عبر حسابات الناشطات عبر التويتر، أصداءً إعلامية واسعة، مما سهل على مؤيديها الإحاطة بتكتيكاتها الإستراتيجية. و لقد تم إحياء الحملة مجدداً في ذكرى مضي سنة على مرورها في يونيو ٢٠١٢ ، وأعقب هذا حملة السادس والعشرين من أكتوبر ٢٠١٣ و التي حملة راية رفع الحظر عن قيادة المرأة مجدداً و شهدت اعتقال بعض من الناشطات اللواتي أيدن الحملة. و في عام ٢٠١٤ قامت الناشطة لجين الهذلول بقيادة سيارتها من دولة الإمارات عابرةً بذلك الحدود السعودية، قبل أن تعتقلها السلطات لأكثر من سبعين يوماً.
الإشكاليات الناجمة عن محاولة تأطير الحراك النسوي السعودي نظرياً
إذن يمكننا من السياق السابق ملاحظة وجود مجهود عام منظم على شكل حملات، يُمْلِي مطالب جماعية على السلطات المستهدفة. و هو ما يتوافق مع تعريف الحراك النسوي الذي يعرف من منطلق: ” تواجد مجموعة من النساء اللواتي يتصرفن بشكل جمعي لتقديم مطالب عامة منبثقة من هويتهم الجندرية كنساء” و هو تعريف له بعدان، أولهما: وجود خطاب أو مطالبات خاصة بالمرأة، و ثانيهما: اقتران المطالب بجهود من قبل النساء لإدراج هذه المطالب علنا” [١٠].
إلا أنه لا يخفى علينا بروز بعض الإشكاليات النظرية إذا ما ارتأينا تطبيق منظار الحركات الاجتماعية على الجهود النسوية في هذا السياق، فهذه النظريات التي نشأت في الغرب تفتقر العناصر التي تخولها فهم تعقيدات الوضع الاجتماعي السياسي في البيئات و الأنظمة المختلفة كما هو الحال في المملكة العربية السعودية. فعلى سبيل المثال، وضع المجتمع المدني فيما يتعلق بتواجد مؤسسات المجتمع المدني النسوية هو مختلف في مثالنا أعلاه بالمقارنة مع المؤسسات المدنية النسوية التي قد تتواجد في سياقات أخرى. أي أن التحالفات والشبكات الغير مؤسسية و التنظيمات غير الرسمية – سواءً التي تنشأ عبر العلاقات الشخصية أو عبر طيات الفضاء الإلكتروني- و ما يحدث بينها من تفاعلات هي نقطة التمركز هنا نظراً لندرة وجود أشكال تنظیمیة تقلیدیة لتقنين النشاط النسوي . ولهذا اقتضى بنا الأمر العمل على تكريس مزيد من الاهتمام لتأطير السياق الوطني والمجتمعي المرتبط بانبثاق هذه الحركات و ضمه إلى هذه النظريات.
إضافةً إلى أن البعض قد يعترض إذا ما حاولنا تأطير هذا الحراك النسوي تحت مظلة نظريات الحركات الاجتماعية بحجة تمسكهم بفرضية أن من أجل اعتبار الحراك النسوي حراكاً اجتماعيا فإنه يتوجب عليه أن يتسم بوجود جهاز رسمي تنظيمي داعم له، و قيادة موحدة ذات علاقات هرمية، و أعداداً هائلة من المؤيدين الذين يتدفقون إلى الشوارع، و هذا لا يتطابق ببساطة مع ما نشهده الآن من حركات مجزأة غير مكتملة النصاب ، ومن دون قيادة مركزية كما هو الحال مع حملات تأييد قيادة المرأة للسيارة في المملكة العربية السعودية، التي رأيناها تارةً تنظم ميدانياً، و تارةً أخرى تنظم عن طريق وسائل التواصل الاجتماعية، أو عن طريق استهداف وسائل الإعلام أو شخصيات عامةً مؤثرة في المجتمع الدولي لها القدرة على فرض الضغط على أصحاب القرار.
وجراء هذا، فإننا ما نلبث إلا أن نلحظ عدم تناسب بعض الأطر الكلاسيكية المهيمنة في نظريات الحركات الاجتماعية مع هذا النوع من الحراك، فنظرية تعبئة الموارد على سبيل المثال لا تتوافق مع مثالنا أعلاه ، نظراً لتحيزها النظري للجانب التنظيمي المؤسساتي التقليدي المرافق للحركة (Social Movement Organization) وتسليمها بوجود منظمات و تكوينات تقليدية تنظيمية داعمةً للحركات الاجتماعية في مطالبها من غير تقديم أي تفسير كافي لبزوغها [11]. فضلاً عن تقليصها وحدها من حجم الحراك النسوي. ومثيل ذلك ينطبق على نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة التي من العصي علينا قولبتها وتطويعها لدراسة الحركات التي تشهدها منطقتنا العربية نظراً لأنها مختصة أساساً بالمجتمعات التي نشأت بعد الطفرة الصناعية في الغرب، و لاختلاف جوهر القيم المراد تحقيقه في هذين السياقيين.
الخاتمة: ضرورة تجديد نظرتنا لمفهوم الحركات الاجتماعية
إذن السؤال الذي يطرح نفسه في هذه الحالة، كيف نؤطر هذا النوع من الحراك الذي نشهده حالياً؟ هل من الأفضل أن نستبعد النظر إليه كحركة اجتماعية نظراً لأنه بالكاد يتناسب مع النماذج الكلاسيكية القائمة في علم الحركات الاجتماعية، أم نعده كنوع فرعي منها؟
و الإجابة على هذا السؤال تكمن في تحليل طيات خصائص الحراك النسوي ذاته، أي إنه من الواضح ملاحظة أن الحركات النسوية المعاصرة التي نشهدها في سياقنا هذا – كحملات تأييد القيادة و ما شابهها من حملات لرفع الوصاية عن المرأة السعودية- والتي أفرزتها الحاجة ، والتطورات التكنولوجية إضافةً إلى تركيبة و خصائص البيئة السياسية المتواجدة فيها ، هاهنا نراها تتحدى التقسيمات النظرية الجامدة و الثنائيات التحليلية -التي قد يعدها البعض نقيضة لبعضها – لما هو ينتمي للمجال العام (Public Sphere) و ما هو ينتمي للمجال الخاص (Private Sphere) ، و ما يمكننا اعتباره فعلاً سياسياً (Political Act) أو غير سياسي ، و ما الذي يشكل مفهوم الحركة الاجتماعية و ما الذي يشكل مفهوم الجهة التنظيمية في المقابل. إلى جانب اختلاف طريقة تعاطيها مع السلطة، فتارةً نراها تتعامل مع السلطة كحليف استراتيجي مؤثر ، وتارةً أخرى نراها تتعامل مع السلطة كجهة مستهدفة للمطالبات.
إذن، فلقد بات جلياً إدراك أن مفاهيمنا و تصوراتنا القديمة لما يمثل “حركة اجتماعية” أضحت قاصرة عن استيعاب وتحليل ما يحدث من حراك نسوي معاصر. و لهذا فإنه من الأجدر بنا الاعتراف أولاً بأن التغيير الحاصل في شكل وخصائص الحراك نفسه لا ينفي صفة الحركة عنها و لا ينقص من قيمة وتأثير هذا النوع من الحراك. و أن ما نشهده من حراك نسوي هو حركة اجتماعية فعلاً يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، حتى و أن لم تسعفه النماذج النظرية الكلاسيكية المتواجدة حالياً.
أي أن عدم انطباق خاصية تبني هذا الحراك لاستراتيجية تنظيم المظاهرات الضخمة، أو استهداف السلطة بشكل صدامي مباشر لا يعني بأنها لا تعد حركة اجتماعية بحد ذاتها، فالحركات النسوية عموماً قلما تعتمد على هذه الاستراتيجيات، ناهيك عن ذكر المناخ السياسي في حالتنا هذه و الذي يمنع تبني هذه الاستراتيجيات في المقام الأول. أما ردنا على أولئك الذين يقرنون الحركات الاجتماعية بتواجد هياكل و مؤسسات تنظيمية كلاسيكية ( Brick and Mortar Model)، فيتمثل في عدم اعتمادية الحراك النسوي المعاصر الآن على هذا النمط التنظيمي التقليدي ولجوئه لبدائل تنظيمية أخرى عوضاً عنه كالبدائل التنظيمية التي يوفرها الفضاء الإلكتروني وما يصاحبه من وسائل اتصال اجتماعية تنظيمية حديثة. بينما إجابتنا لأولئك الذين يقللون من تأثير هذا النوع من الحراك على عملية إحداث التغيير السياسي والمجتمعي، فتتلخص في الاعتراف بأن تعقب العلاقة السببية التي قد تربط منهجياً بين تأثير الحراك النسوي الفعلي على إحداث التغيير و المتمثل – في حالتنا أعلاه – بقرار السماح بالقيادة الأخير، يبقى عصياً نسبياً نظراً لعدم توفر البيانات المتعلقة بهذا الشأن. إلا أنه يمكننا القول بأن حملات تأييد القيادة الأخيرة و ما لاقته من أصداء إعلامية واسعة قد شكلت تحولاً ملحوظاً في الخطاب السعودي المجتمعي حول هذه المسألة، مما قد ساعد في تهيئة المناخ العام والرأي العام السائد لتقبل هذا القرار متى ما تم تطبيقه. أي أن الحراك النسوي في هذه الحالة كان مستهدفاً للأفراد عن طريق إذكاءه للمناقشات و المحاججات العامة حول هذا الموضوع، وصانعي القرار على حد سواء من خلال تعامله مع هذه المسألة كورقة ضغط تجاههم.
وخلاصة الأمر تتمثل في أنه يتوجب علينا التعاطي مع الحراك النسوي كحراك اجتماعي عن طريق تداول لغة جديدة أكثر مرونة لقراءته و تحليله. و على إثر هذا فإننا نضم صوتنا لأصوات الباحثين المطالبين بتبني تعريف أدق و أشمل لمفهوم الحركات الاجتماعية و الذي يخولنا النظر إليها كشبكة من الأفراد و التحالفات الموجهة نحو أهداف محددة نسبياً، التي قد ترتبط مع بعضها البعض بطرق تقليدية وغير وغير تقليدية على حد سواء، وتتيح لأعضائها حرية المشاركة من دون الاعتماد على هيكل تنظيمي كلاسيكي ، و ليس بالضرورة كأجزاء متكاملة من حركة واحدة. متبنيةً في ذلك ذخيرة من الأفعال المطلبية التي تتناسب مع البيئة السياسية التي تواجهها.
إذن فالواقع يفرض علينا إعادة التفكير في الحدود الفاصلة بين الحراك الاجتماعي و الحراك النسوي و الحراك السياسي التنازعي، و أن تتبنى منهجاً مُتَعَدِّدُ الاختصاصات (Interdisciplinary Lens ) عند التعرض لهم. فأنا شخصياً قد ارتأيت إدماج بعض المفاهيم التي تنتمي لدراسات الإعلام الجديد، السياسات الخطابية (Discursive Politics ) ومنهج التحليل الشبكي من أجل تحليل العناصر المشاركة في الحراك أعلاه ، والكشف عن سلسلة العلاقات والروابط المعتمدة بينهم، إضافة إلى طبيعة المحتوى الذي يتم إنتاجه و أنماط تداوله المعتمدة، و علاقة هذا بالجو السياسي العام السائد التي قد يؤثر على كيفية استجابة جهة القرار للمطالب.
وختاماً، فإنني أتمنى أن تساهم هذه النظرة المتجددة في خروجنا عن النص الذي يفرضه علينا حالياً الاتجاه العام السائد مجال العلوم الاجتماعية ، والهادف لجعل الدراسات الأكاديمية التي تتمحور حول الحركات النسوية الاجتماعية أكثر صرامة ومنهجية عن طريق اقرانها بأدوات قياسية تسفر عن الوصول إلى نتائج يمكن تعميمها على نطاق واسع، بدلاً عن تجديد علم أصول المعرفة البديلة والأساليب والنظريات المتعلقة بها.
المصادر
[١] نولة درويش «هل نحن إزاء حركة بالفعل أم إزاء منظمات محددة؟» الحوار المتمدن-العدد: 765 – 2004 / 3 / 6 – 08:38 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=15507
[٢] علي الكنز ، الإسلام والهوية، والدين في المجتمع العربي ، بيروت : مركز درسات الوحدة العربية ، 1990 ، ص .95
[3] Tarrow, Sidney. 1988. “National Politics and Collective Action.” Annual Review of Sociology 14: 421-40.
[4] McCarthy, J. D., and M. N. Zald. 1973. The Trend of Social Movements in America: Professionalization and Resource Mobilization. Morristown, N.J.: General Learning Press.
[5] Klandermans, B.1991. New social movements and resource mobilization: The European and the American approach revisited. In D. Rucht (Ed.). Research on social movements. The state of the art in western Europe and the USA (pp. 17-44). Frankfurt am Main, Germany: Campus Verlag.
[6] Taylor, Verta, and Nella Van Dyke. 2004. “’Get Up, Stand Up’: Tactical Repertoires of Social Movements.” Pp. 262-293 in The Blackwell Companion to Social Movements, David A. Snow, Sarah A. Soule, and Hanspeter Kriesi, eds. Oxford: Blackwell.
[7] Meyer, David S. & Tarrow Sidney.1998. “A movement Society: Contentious Politics for a New Centuary”. in: The Social Movement Society: Contentious Politics for a New Century. Rowman & Littlefield.
[8] Staggenborg, Suzanne, and Verta Taylor. 2005. Whatever happened to the women’s movement ? Mobilization 10:37-52.
[9] Ferree, Myra Marx, and Carol Mueller. 2004. “Feminism and the Women’s Movements: A Global Perspective.” In The Blackwell Companion to Social Movements, ed. David A. Snow, Sarah A. Soule, and Hanspeter Kriesi. Oxford: Blackwell
[10] Silke Roth .2016. Contribution to dialogue on “New directions in studying women’s movement strength”, Politics, Groups, and Identities, 4:4, 695-701.
[11] Melucci, A. (Ed.). 1984 Altri Codici. Aree di Movimento nella Metropoli (Other codes. Areas of Movement in the Metropolis). Bologna: I1 Mulino.