حرصت شركة والت دزني على تكريس مبادئ أمريكية في عقول جمهورها حول العالم، وهذا ما يؤكده المؤسس في افتتاحه لمدينة الألعاب دزني لاند في ولاية كاليفورنيا عام ١٩٥٥م “ستكرس دزني لاند المبادئ والأحلام والحقائق الثابتة التي بنيت عليها أمريكا والتي نأمل أن تكون مصدراً للفرح والإلهام للعالم بأسره”، وحتى بعد موته عام ١٩٦٦م استمرت الشركة بنفس خط زراعة الأفكار، فقد بدأت دزني بإنتاج أفلام خارج الإطار المعتاد حيث أبطال قصصها كانوا من حضارات وثقافات أخرى لكن بتصور أمريكي لتكون قيم المجتمع الأمريكي هي المقياس ومصدر الإلهام للشعوب الأخرى.
ولتبيان طريقة شركة دزني بتصدير مبادئها وأهدافها، يطرح هذا المقال تأثير الحراك النسوي على أجندة الشركة خصوصاً رغبتها بتصدير هذا الحراك لمجتمعات الجزء الآخر من العالم، من خلال طرح ثلاثة أفلام نموذجاً وهم: فيلم الحسناء والوحش (١٩٩١م)، علاء الدين (١٩٩٢م) ومولان (١٩٩٨م)، وبعد استعراض هذه الأفلام سنفهم الطرق والأساليب المتبعة من الشركة لترسيخ مبادئ جديدة لمجتمعات بعيدة.
تجاهلت دزني في هذه الأفلام مقاييس الجمال المعتادة، وأبعدت الشرور البشرية عن جنس الإناث، واقتبست الحكايات من تراث الحضارات الأخرى، فعلاء الدين مقتبس من قصص ألف ليلة وليلة، ومولان من التراث الصيني حيث ذكرت مولان في قصيدة في القرن السادس ميلادي، تعرض هذه الأفلام التمرد حلاً لمجتمعات الجزء الآخر من العالم ولكن بتصويرهن بصورة أمريكية، وبهذا الشكل أرادت دزني إلهام نساء المجتمعات الأخرى.
الموجات النسوية الثلاث والمرأة الأمريكية
قسم المؤرخون النضال النسوي إلى ثلاث موجات لتسهيل عملية التحليل والفهم، وميزوا كل موجة بسمات وإنجازات خاصة بها، ففي دراسة الباحث الأكاديمي د. صالح سليمان عبدالعظيم نشرت في مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية عام ٢٠١٤م شرح كل موجة موضحاً سماتها واختلافها عن الأخرى، وقد وصف الموجة الأولى بأنها النسوية الإصلاحية، وهي الموجة التي طالبت بحق الاقتراع للنساء في الولايات المتحدة الأمريكية، محققة أول إنجازات الحراك النسوي عام ١٩٢٠م بنيل المرأة حقها بالاقتراع، اهتمت الموجة الأولى بالرؤية الاقتصادية، فقد كانت النظرية النسوية الليبرالية والنسوية الماركسية الاشتراكية أبنائها.
وصف عبدالعظيم الموجة الثانية بالنسوية المقاومة، ولعلها كانت الأشرس برأيي والأكثر إنجازاً من بين الموجات الثلاث، فقد نالت المرأة حقوقها المدنية عام ١٩٦٤م، وأيضاً نجحت بالضغط لإقرار قانون حظر التمييز الجنسي في الأماكن العامة والنقابات وأماكن العمل، ونجحت في الستينيات بتأسيس جمعيات نسائية، لكل واحدة منهن مهامها الخاصة منها السياسية والوظيفية،.. وهلمّ جرا.
أما الموجة الثالثة فجاءت مختلفة عن سابقاتها من عدة جهات؛ فمن جهة كانت محتضنة لكل الفئات محاولة رأب الصدع بين الجماعات المختلفة، متقبلة لكل الأعراق والألوان من خلال نظريتها النسوية متعددة الأعراق، والثانية أنها لم تكن محصورة برقعة جغرافية، بل سعت لتصدير الأفكار والحراك إلى أجزاء العالم الأخرى، دون اعتبار للاختلافات التاريخية والاجتماعية بين المجتمعات، ولا ترى أمامها سوى هدفها وهو تحرير المرأة من الظلم الواقع عليها، ومن جهة ثالثة، اختلفت هذه الموجة مع سابقاتها في كونها لم تعد تتبنى خطابات الضحية، وولدت منها روح التمرد وماتت روح الإصلاح، ولهذا السبب يطلق عليها عبدالعظيم نظريات النسوية المتمردة، وكانت هي الأجرأ من بين الموجات، أرادت فيها النسوية التحرر من كل القيود الأخلاقية والاجتماعية، من خلال إعادة تعريف الكثير من المصطلحات مثل الأنوثة والجنس والجسد، فقد دعمت المختلفين بميولهم الجنسية، وشجعتهم على التعبير عن هذه الميول رغم رفض المجتمعات، وأعادت تعريف الفاسقة وحولتها لوصف إيجابي يعبر عن القوة والثقة بالنفس، حتى إنهم أحياناً يصفون أنفسهم بهذا المصطلح تعبيراً إيجابياً ، أيضاً اختلفت هذه الموجة مع أخواتها السابقات في النضال في مسألة أحمر الشفاه والكعب العالي، فقد رفضت النسويات السابقات معالم الأنوثة هذه لأنها شعرت أنها مفروضة من المجتمع الذكوري عليها، ولكن الموجة الثالثة طالبت المرأة بالتمرد وعدم الاتلفات للمجتمع ونظرته، وهذا ما تذكره الصحفية هزار نجار في مقالها المنشور على نون بوست، موجات الفكر النسوي: نقاط التقاء واختلاف، وتعتبر النظرية النسوية ما بعد الحداثة هي الأوضح والأشمل في هذه الموجة.
المرأة الأمريكية ما بعد الحداثة في دزني: ثلاثة أفلام
قبل أن أبين كيف أثرت الموجة النسوية الثالثة على أفلام ديزني الثلاثة المنتجة في التسعينات، سأقوم في البداية باستعراض هذه الأفلام بإيجاز، لنبدأ بفيلم “الحسناء والوحش”، فأحداث هذا الفيلم تدور حول أمير وسيم أناني متكبر يسكن قصراً في الغابة، تأتي عجوز طالبة منه اللجوء في قصره مقابل وردة ويرفض بقسوة، تطلب منه ألا يحكم على الأمور بشكلها الخارجي، لكنه لم يأبه لأمرها فتتحول لامرأة جميلة وتحوله لوحش عملاق مرعب، وتعطيه مرآة سحرية مع الوردة التي لو سقطت آخر بتلة منها سيبقى بهذه اللعنة هو وخدم منزله الذين تحولوا لجمادات متحركة، ولن تحل هذه اللعنة إلا إن وجد فتاة تحبه لذاته وجوهره بعيداً عن شكله المرعب، وعلى جانب آخر في قرية فرنسية هناك فتاة تدعى بيل يشهد أهل القرية بجمالها ولكنها مختلفة عنهم فهي محبة للقراءة والأدب، وأهل القرية يرون اهتمامها بالقراءة أمراً يدعو للغرابة، وكانت تشعر بالغربة كذلك. أعجب بها أوسم رجال القرية وأكثرهم قوة “قاستون” وقرر أن يتزوجها رغم رفضها له لجهله وسطحيته واستهزائه بوالدها المخترع لآلة تقطيع الخشب البخارية. يذهب والدها لأحد معارض الاختراعات ويضيع طريقه فيسقط في قصر الوحش ويعاقبه الوحش على دخوله ويقوم بأسره، فتذهب بيل لإنقاذ والدها وتطلب من الوحش أن تُسجن مكان والدها ويوافق الوحش لأنه وجد فيها الأمل الذي يحل اللعنة، يعود والدها للقرية ليطلب المساعدة من قاستون ولم يصدقه أهل القرية وأطلقوا عليه لقب المجنون، ويقرر قاستون ابتزاز بيل بوالدها فإما أن تقبل الزواج منه أو يزج بمصح عقلي، وفي هذه الأثناء بدأت بيل ببناء علاقة مع الوحش والتقرب منه وبدأت تحبه، ولأنه أحبها سمح لها أن تذهب لزيارة والدها، فذهبت لتجد والدها مهدداً بالمصح العقلي لأنه يتكلم عن الوحش، ولما أرتهم الوحش بالمرآة السحرية قرروا أن يذهبوا لقتله لأن قاستون شعر بحبها للوحش، وبعد قتال بين أهل القرية والوحش والخدم مات قاستون بعد أن طعن الوحش ليموت الوحش ويعود الأمير الوسيم ليتزوج من بيل.
أما فيلم “علاء الدين” فيحكي قصة أميرة وصلت لسن الزواج ولكنها ترفض كل الأمراء الذين يتقدمون لخطبتها، يحاول والدها أن يقنعها دون إجبارها، ولكن الوزير الملكي الشرير ينتظر بفارغ الصبر زواج الأميرة ليسيطر على حكم المملكة بسحر السلطان، يملك هذا الوزير سراً عن مغارة يوجد بها مصباح سحري وبها كنوز كثيرة، ولكن لا يدخلها سوى لص ذي نية طيبة، حاول مع عدة لصوص ولكنه فشل لأنه لم يجد الشخص المطلوب وهو علاء الدين لص المملكة المتسبب بالمشاكل، والذي لم يُقبض عليه لأسلوبه الخاص بالإفلات منهم دائماً، وكان ذا قلب رحيم يساعد الأطفال الجائعين والنساء في السوق، وفي يوم تقرر الأميرة ياسمين الهروب من القصر دون عودة حتى لا تجبر على الزواج، فترى نفسها في مأزق بعد أن أعطت طفلة جائعة تفاحة وهي لا تملك المال، ليأتي علاء الدين ويخلصها من العقاب، علم الوزير الملكي جعفر أن علاء الدين هو الشخص المطلوب لدخول المغارة عن طريق السحر، فقام بإلقاء القبض عليه بتهمة خطف الأميرة، وأخبرها أنه نفذ فيه حكم الإعدام وفي الحقيقة فقد أخذه للمغارة بعد خداعه بأنه سيعطيه كنزاً ليستطيع الزواج من الأميرة، ولكنه يحبسه في المغارة مع صديقه القرد وبساطه السحري الذي تعرف عليه في المغارة بصحبة المصباح، وبعد أن اكتشف أن له ثلاث أمنيات من الجني طلب أن يكون أميراً ليستطيع أن يتزوج الأميرة، وافق عليه السلطان واعترض الوزير الملكي جعفر لرغبته بالزواج منها ليكون هو السلطان، وقرر أن يتخلص من علاء الدين ولكن جني المصباح ينقذه، ثم يعود ليتزوج من الأميرة ويتخلص من الوزير الخائن، يقوم جعفر بالسيطرة على المصباح ويتمنى أن يملك سلطة فوق السلطان ويذل السلطان وابنته، يقوم علاء الدين بإنقاذهم منه ويوافق السلطان على زواج ياسمين وعلاء الدين.
أخيراً، يتناول فيلم “مولان” حكاية من التراث الصيني عن فتاة تحمل اسم مولان.
تعيش مولان في الصين وتشعر بالغربة بسبب اختلافها عن بقية الفتيات في مجتمعها، لم تكن قادرة على أن تجلب الفخر لعائلتها عن طريق تزويجها على يد خاطبة، تفشل بأن تكون مثل الفتيات الأخريات وهذا ما يحزنها، خاصة وأنها تريد أن تكون شيئاً آخر غير المرسوم لها رغماً عنها ولكن لا تعرف الطريق وليست متأكدة مما تريد، يغزو الهون الصين مما جعل الإمبراطور يطلب من كل بيت جندي لمواجهة الغزاة، وقد سبق لوالد مولان المحاربة ورجله مصابة وهو كبير بالعمر، فتحاول إيقاف والدها عن المشاركة ويرفض ذلك غاضباً، حاولت إقناعه بالبقاء بالمنزل ولكنه أصر على الذهاب، مما جعل غضب مولان يزداد فانتظرت حتى نام والدها، لتأخذ لبس والدها العسكري وتقص شعرها وتذهب مكان والدها على أنها جندي، ولما علم والدها خاف أن يلحق بها فتكشف وتقتل، لذلك تركها لتتدبر أمرها، تدربت مع مجموعة من الجنود حتى أصبحت تملك إمكانيات القتال، وفي أول معركة لها تحقق انتصاراً للجيش الصيني، ولكن تكشف أنها فتاة، ولأنها أنقذت قائدها عفى عنها ولم يقتلها، وفي طريق عودتها رأت الهون يتقدم بطريق المدينة، حاولت إخبار زملائها الجنود وقائدها ولم يصغ أحد لها لأنها فتاة، حاولت أن تخبر العامة ولم يسمعها أحد، حتى بدأ الهون هجومهم وأسروا الإمبراطور فتقوم هي بقيادة فصيل لإنقاذه وتنجح بذلك، فيقوم بتكريمها وتوظيفها في القصر، اكتفت بالتكريم ورفضت الوظيفة لتعود لمنزلها، شعر أهلها بالفخر واعتزوا بها، وأتى قائدها ليتعرف عليها أكثر ويبني علاقة معها فتاةً لا جندياً من جنوده.
– مقاييس الجمال والشرور البشرية:
نلاحظ في الأفلام الثلاثة عدة جوانب متشابهة تجعل طرح دزني ما بعد الحداثي مختلفاً عن طرحها السابق. أولى هذه الجوانب طريقة معالجة مسألة جمال المرأة. اختلفت دزني بعد الحداثة بطرح شخصياتها الرئيسية، فقد كانت بيل فتاة من قرية فرنسية، أخذت من اسمها نصيب، فـ (Bella) كلمة فرنسية ترجمتها الجميلة لكن هذه الجميلة لأول مرة لم تكن شقراء تشع بياضاً، كانت فتاة ذات شعر بنيّ، كل القرية تتحدث عن جمالها، أما ياسمين فقد كانت سمراء عربية ذات شعر أسود طويل، تتميز بجمالها العربي ذات عينين واسعتين تأسر الألباب، ومولان الصينية ذات البشرة الصفراء لها جمالها الخاص، لم تحدد دزني في أي من الأفلام الثلاثة مقاييس لجمال البطلات.
كانت البطلات جميلات؛ ملكت كل واحدة جمالها الخاص، وتعددت أعراقهن حيث إنها شملت الجزء الآخر من العالم، وهذا الذي تدعو له النسوية المتمردة فأحد مبادئها الدفاع عن حق كل امرأة مظلومة في أي جزء من الأرض، سواء كانت بيضاء أوروبية أو سمراء عربية أو صفراء صينية، وركزت على جمالهن الداخلي المتمثل في ثقافتها مثل بيل، أو في تمردها كياسمين أو في قوتها كمولان.
أما الجانب الآخر، فهو تصوير النساء في كافة الأفلام الثلاثة على أنهن متمردات. شعرت كل من البطلات بالغربة في ديارهن بسبب تهمشهن، ومعاملتهن على أنهم شيء غريب، فمثلاً بيل المثقفة المحبة للأدب والروايات والكتب، كان أهل القرية يرونها غريبة أطوار، وهي كانت تشعر أنها لا تنتمي لهذا المكان، ويظهر ذلك في أول مشهد تظهر فيه وهي ذاهبة للمكتبة تختار كتاباً جديداً، ولكن أمين المكتبة يخبرها أنها أنهت كل الكتب الموجودة، ولم يصل جديد بعد، وكل القرية تنظر لها بنظرة استغراب، وفي مشهد قاستون وهو يتقرب منها يرى الكتاب ويقلبه ويخبرها أنه لا يحمل صوراً، لتجيبه هي: البعض يملك الخيال.
أما ياسمين فقد كانت متمردة حتى عندما سلبت منها ومن والدها سلطاتهم، فقد قام الوزير جعفر بأخذ كل السلطات وطلب منها ومن والدها الركوع والخضوع له، رفضت ياسمين الركوع لجعفر بعكس والدها، حتى إن جعفراً اضطر لاستخدم السحر ليجبرها على طاعته.
مولان ملكت القوة التي لم يملكها أحد من رجال الجيش، ورفضت مقاييس الجمال في مجتمعها الصيني، فلما أرادوا تجهيزها لتكون عروساً كبقية البنات في بلدتها، كانت تجبر نفسها على هذه الأفعال لتجلب الشرف لأهلها، عن طريق نقل الموعظة التي يجب عليها حفظها على يدها، ولكن بعد فشلها بإقناع مدبرة الزواج أنها تصلح للزواج، عاشت مولان أوقات عصيبة لتفهم نفسها وهل هي فعلاً جلبت لأهلها العار لشعورها بالاختلاف عن مجتمعها. لم تستطع مولان أن تتعرف على نفسها وماذا تريد، كل ما تحس به هو الضغط النفسي بسبب مجتمعها والشعور بأنها مسجونة، وفي مشهد ذهابهم للمعركة مع الجنود، كان كل جندي يتكلم عن طموحه في العودة ليتزوج من فتاة أحلامه، ولم يذكر أي منهم جانباً داخلياً أو فكرياً، بل جميعهم كانوا يطالبون بالأمور السطحية، وعندما سألتهم مولان عن الجانب الفكري للمرأة، أجابوها ومن يهتم لعقل المرأة، أما عسكرياً فقد تفوقت على الفصيل الذي انضمت إليه لمواجهة الهون، فبعد فشل الفصيل كاملاً بالوصول للهدف الذي طلبه منهم القائد أصرت مولان على أن تبلغ الهدف، ووصلت وحازت على إعجاب الفصيل بها، وفي وسط معركتهم مع الهون قاربت المتفجرات على النفاد، فاستجمعت مولان قوتها وذكائها لتسلط المتفجرات المتبقية على جبل من الثلج لتحدث انهياراً جليدياً يقضي على الهون الذين تفوقوا عددياً على فصيلها، وقد ظهر ذكاؤها منذ البداية في مشهد تجهيزها عروساً، بينما كان رجلان كبيران بالسن يلعبان لعبة شعبية ساعدت أحدهم الذي كان يشعر بالخسارة ليصبح هو الفائز، بهذه المشاهد أرادت دزني خلق صورة جديدة لبطلاتها.
لم تقتصر الجوانب المشتركة الجديدة على طريقة تصوير المرأة، بل امتدت كذلك لطريقة تصوير الرجال، فقد كانوا في الأفلام الثلاثة شخصيات رئيسية لهم صفات واضحة وملامح تركز في ذاكرة المشاهد، وتميزوا بالجمال الداخلي فقد كان الوحش بشعاً من الخارج إلا أنه يحترم المرأة واهتماماتها وقدرها، ويظهر ذلك في مشهد إهداء بيل مكتبة كبيرة شكراً لها لتطبيبها جراحه، لأنه علم أنها تحب القراءة والكتب، وكان علاء الدين لصاً فقيراً ذا ثياب بالية ولكنه رجل طيب صافي القلب، حتى إن المغارة التي تحتفظ بالكنز لا تفتح إلا للص نبيل وكان هو ذاك، ويظهر نبل علاء الدين بمشهد سرقته لرغيف الخبز ونجاحه في ذلك بعد عناء طويل ومطاردات مع الأمن، ومع جوعه أعطى الرغيف لطفلة فقيرة تشعر بالجوع تبحث عن بقايا الطعام هي وأخوها، وقد ظن علاء الدين أنه سيفشل بكسب قلب ياسمين بفقره ولكن عندما أصبح أميراً فاحش الثراء لم تهتم له ياسمين، بل على العكس شعرت بالنفور منه.
وبينما كانت ديزني تربط بين الشر والمرأة في أفلامها السابقة، نجدها في هذه المرحلة تعكس الصورة وتربطه بالذكور. ففي فيلم الحسناء والوحش كان قاستون هو الشخصية الرئيسية الشريرة، ومساعد قاستون هو الشخصية الشريرة من الدرجة الثانية، ومالك العيادة النفسية هو الشرير من الدرجة الثالثة، حمل قاستون العديد من الصفات السيئة فقد كان مغروراً لا يقبل الرفض وشعور الاستحقاق لديه طاغياً، وظهر ذلك من أول المشاهد عندما طلب من بيل أن تكف عن التفكير بأي شيء وتتفرغ للتفكير فيه، ولما عرض عليها الزواج جهز طقوس عقد القران قبل موافقتها، وعندما رفضت شعر بالإهانة وأصر على أن تقبل، أما مساعده فهو يفعل أي شيء ليرضي سيده وإن كان فيه ضرر للآخرين، فالهدف من وجوده هو تأييد قاستون بأعماله، ويظهر ذلك في مشهد التجهيز لعقد قران قاستون وبيل، ومحاولة رفع معنويات قاستون بعد تعرضه للرفض من خلال التعدي على الموجودين في الحانة، أما مشهد صاحب العيادة الجشع الذي يتاجر بصحة البشر مقابل المال، كما فعل معه قاستون ليبتز بيل بوالدها لتقبل به، وبحضور مساعدة يلخص لنا مثلث الشر في الفيلم، ويختم الشر في تهييج قاستون القرية ضد الوحش وترهيبهم به ليعاونوه على قتل الوحش.
أما في فيلم علاء الدين فقد تمثل الشر بالوزير جعفر وطائر البغبغاء يده اليمنى، واحتوى الفيلم على مشاهد السحر والشر الكثيرة، حيث أن فيلم علاء الدين أكثر الأفلام عنفاً في ديزني، وذلك يرجع للصورة النمطية عن العرب في هوليوود يتناولها جاك شاهين في كتابه ( Reel Bad Arab )، فمنذ بداية الفيلم وُصفت المدينة التي تدور فيها الأحداث بالبربرية، وصولاً إلى مطاردة علاء الدين فحاملو السيوف مستعدين لقتله بسبب رغيف خبز، ثم إلى مشهد ياسمين وهي على وشك فقدان يدها بسبب إعطائها تفاحة للطفلة، وكل المشاهد في الفيلم تأكيد على صورة العرب الأشرار التي وضعتها هوليوود منذ الأفلام الصامتة وأفلام الأبيض والأسود.
تمركز الشر في سياق القصة بالوزير الملكي والبغبغاء، حيث إن جعفراً الراغب في السلطة المسيطر على السلطان بعصاة سحرية لم يكتفِ بمنصبه، بل أراد أن يسيطر على المصباح السحري ليتخلص من السلطان وابنته ياسمين، وأنهى نفسه عن طريق تمنيه أن يختم الشرور البشرية بشخصه، فقد أصبح السلطان ونزع الملك من السلطان وابنته، ثم أصبح أقوى ساحر على وجه الأرض، وجعلهم أدواتاً لتسليته عن طريق إذلالهم، وذلك يظهر في مشهده بعد أن أصبح يملك كل السلطات وجعل ياسمين خادمته، ووالدها دمية له وللبغبغاء الذي انتقم من السلطان الذي كان يطعمه البسكويت رغماً عنه، ولم يكتف بذلك فبعد أن استغل علاء الدين جشعه وأخبره أن الجني يملك قوة أكبر من قوة السحر، تمنى أن يكون أقوى جني وأنهى نفسه بتلك الأمنية لأن الجني يكون عبداً لصاحب المصباح، ولا يستطيع تحرير نفسه.
في فيلم مولان كان الشر يتمثل في قائد الهون شان يو وجيشه الجرار، والشخصية الثانوية هو مستشار الإمبراطور تشي فو، الذي لم يثق منذ البداية بقيادة لي شانغ للفصيل الذي سيواجه الهون، وكان يريد إثبات عدم قدرته على الإدارة، ولما تعرف على جنس مولان أراد قتلها، حتى بعد أن أنقذت الإمبراطور، ولكنه كان مجبراً أن يطيع أوامر الإمبراطور بتقدير مولان.
كان تمثيل الشرور في أفلام دزني ما بعد الحداثة أكثر منطقية، وأكثر قرباً للذات البشرية فالإنسان بطبيعته يحمل جانبين أحدهما خيّر والآخر شرير، وهو من يقوّم جانباً على آخر ليصل للأخلاق والقيم العليا، ففي فيلم الحسناء والوحش لم يستطع قاستون التغلب على غروره، ولم يستطع مساعده أن يتوقف عن إرضائه في مضرة غيره وجعل مصلحته الشخصية تتفوق على إحقاق الحق، واستسلم صاحب العيادة لجشعه مقابل المال، وفي فيلم علاء الدين لم يستطع جعفر كبح نفسه عن الطمع والرغبة في الوصول إلى السلطة، وفي فيلم مولان اغتر جيش الهون بنفسه وظن أنه لا يقهر، وكل هذه الأمور يعيشها الإنسان بداخله ويحاول أن يقوّم نفسه للأفضل، أما بما يخص اختزال الشر في الذكور فذلك بسبب رغبة دزني بتعديل الصورة النمطية التي زرعتها في أفلامها السابقة لعام ١٩٩٠م.
انتصار المرأة المتمردة على المجتمع والقانون:
أظهرت دزني تمرد المرأة في النماذج التي مثلت نساءً من الجزء الآخر من الأرض، لاعتقاد الموجة النسوية الثالثة في أمريكا وأوروبا بأن نساء العالم الآخر بحاجة لمن يدلهن على الظلم الواقع عليهن وكيف يتخلصن منه، فتقوم ياسمين المتمردة في مشهد رفضها لأحد الأمراء المتقدمين لخطبتها بجعل صديقها النمر يهجم عليه لسطحيته وتفاهته، ثم يأتي والدها متذمراً من فعلها، ويخبرها أنه يريد حمايتها والاطمئنان عليها، وأثناء حديثه يغلق الفقص على الحمام وتلك رمزية لطريقة الحماية التي يقصدها، بكبت ياسمين وقمع حريتها، ويذهب متذمراً يتمنى لو أنه لم ينجب فتاة، لتنطلق ياسمين لتفتح القفص للحمام ويطير، وهذا المشهد يحمل رمزية الرغبة في نيل الحرية.
واصلت ياسمين الرفض لإيمانها بحق اختيار شريك الحياة الذي ناضلت لأجله، فاتّبعت كل الطرق والسبل لنيل هذا الحق حتى وصلت مرحلة الهروب من القصر لتكسب حريتها، لكنها تعود بعد أن أرادت المدافعة عن علاء الدين بعد اتهامه بخطف الأميرة، وفي المشهد الذي عرف علاء الدين عن نفسه بأمير علي وحدث نقاش بينه وبين جعفر والسلطان عمّن سيفوز بالأميرة ياسمين، دون استشارتها بالموضوع تأتي غاضبة لتوبخهم جميعهم، وتخبرهم بأنها ليست جائزة، وتصل لغايتها في نهاية الفيلم وتغير القانون الذي لا يسمح للأميرة بالزواج إلا من أمير، ليصبح من حق الأميرة الزواج بمن تريد.
اختارت دزني المرأة الصينية خصوصاً لأنه كان للنساء تحرك حقوقي في الصين عام ١٩١١م، وأتى الفيلم تذكيراً بالمعاناة ودعوة لتجديد الحراك، فيطرح الفيلم معاناة المرأة التي تحاول جاهدة إرضاء المجتمع ولا تستطيع مهما حاولت، فلا ترى نفسها في موقع يتناسب مع شخصيتها، ونرى أول مشهد تظهر فيه مولان وهي تحاول حفظ موعظة لتكون مثالية للزواج وترضي الرجل الذي سيتزوجها ولا تستطيع فتلجأ لخداع المجتمع عن طريق نقل الموعظة على يدها. وبعد ذلك تشرح معاناة المرأة لتكون زوجة مثالية وتعجب بها مدبرة الزواج، وكيف تتصنع وتصبح فتاة أخرى فقط لتعجب بها المدبرة لأن المجتمع الصيني السابق يعتبر المرأة التي لا تقنع المدبرة بأنها زوجة صالحة عار على أهلها،وهذا ما يعكس الضغوطات التي تتعرض لها المرأة لتكون كما يريدونها، ثم توضح مولان تناقضات المرأة الداخلية بين ما يريدها المجتمع أن تكون وما تريد هي أن تكون، وأنها لو كانت تظهر على حقيقتها فلن يتقبلها المجتمع ولا حتى والديها ومن ثمّ لم تستطع أن تظهر حقيقتها المسجونة في أعماقها.
ولكن خرجت هذه الشخصية عندما رأت والدها يرمي نفسه بالتهلكة لما طُلب منه الذهاب للمعسكر فتخرج أمام القرية لتخبر المستشار أنه لا يستطيع، فيغضب والدها ويخبرها أنها خذلته، خاصة وأن المستشار أخبرها أن تصمت بوجود الرجال، لم تكلّ مولان بل أعادت النقاش مع والدها على العشاء وعاد بالغضب عليها، ولما رأت عجزه، قررت أن تذهب مكانه متنكرة بزي رجالي، ولم تعد للمنزل حتى أقنعت الإمبراطور بإمكانيات المرأة وجعلت الشعب الصيني يسجد لها احتراماً لجهودها، ونجحت بتغيير القانون وكانت أول امرأة تحصل على وظيفة في الصين.
تعمدت دزني اختيار مولان من التراث الصيني لأنها مقتبسة من قصيدة كتبت بالقرن السادس الميلادي، وكتبت إلهاماً لمجتمع يحتقر المرأة ويعتبرها عاراً، ويختزل دورها في إسعاد الزوج، وأنها إن لم تنجح في الزواج فقد جلبت العار لأهلها، فأتت القصيدة تحكي قصة الفتاة مولان التي لم تقبل أن يذهب والدها العجوز إلى الحرب، وأخوها صغير لا يستطيع المقاتلة، فذهبت بدلاً منهم وودعت أهلها قبل ذهابها، وقاتلت العدو بكل ما تملك من قوة، ولم يبق من جيش الصين إلا اثنا عشر مقاتلاً كانت من ضمنهم وكافأهم الإمبراطور وطلبت منه جياداً لتذهب لأهلها، واستُقبلت من أسرتها بكل فرح، وخرجت بعد أن تزينت لأصدقائها المقاتلين الذين تفاجؤوا أنها فتاة ولم تكن رجلاً، وتطورت في القرن السادس عشر على يد الشاعر الصيني تشو رينهو الذي أضاف نهاية مأساوية لمولان التي عشقت قائدها ولكن كانت تكتم حبه، فلما عادت رأت والدتها متزوجة من آخر ووالدها توفى، والإمبراطور أرادها أن تكون محظيته، بذلك أرادت دزني أن تلمس وجدان الفرد الصيني.
-تصوير المرأة العربية في دزني:
صورت دزني المرأة العربية تصويراً أمريكياً هوليوودياً، ظهر بعد الحرب العالمية الأولى، فقد قامت الولايات المتحدة الأمريكية بتصوير فيلم عن الحرب العالمية الأولى وعُرض في السينما، ظهر فيه مشهد للشريف حسين وقواته مسانداً للقوات البريطانية، وبدأ هوس الأمريكيين بالبادية والصحراء، فصُوّرت عدد من الأفلام التي أظهرت البادية أرضاً يباح فيها كل حرام، واستمرت هذه الصورة من الأفلام الصامتة حتى أفلام الأبيض والأسود وتستمر حتى هذا اليوم.
فقد كانت ياسمين الأميرة تلبس لباس فتيات الرقص في المجتمعات العربية، ومع شهرة العربيات بالحشمة وخصوصاً ذوات المناصب العليا، فقد بالغت دزني في تجريد ياسمين من ذاتها، لصنع مفاهيم جديدة عن الحرية في مجتمعنا العربي، متجاهلة بذلك القيم والأعراف المجتمعية، وساهمت دزني بتغريب هوية المرأة العربية بهذا التنميط المتكون من خيال الفرد الأمريكي، ولذا لا يمكن لهذا الحراك النسوي الغربي أن يستوعب مشاكل المجتمع العربي، بالتالي لن يستطيع حلها.
أرادت دزني أن تصدّر الحراك النسوي لمجتمعات الجزء الآخر من العالم، ولكن بتفاصيل أمريكية غربية واختزال للحرية في النموذج الغربي، متجاهلة عمداً هويات الحضارات الأخرى وقيمهم الاجتماعية، نجحت دزني في خلق تصور معين في أذهان بعض نساء هذه المجتمعات عن معنى الحرية وعن الظلم الواقع عليهن وطرق التخلص منه، ولكن مصير هذه التحركات الفشل بسبب جهل هؤلاء النساء بمشاكلهن الحقيقية وهويتهن.
فاطمة عادل.