الإمبراطورية والطائرات المُسيّرة ونهاية الترجمة

علي المجنوني

كاتب المقالة

علي المجنوني

كاتب

لطالما كان مفهوما الإمبراطورية والترجمة وثيقَي الصلة ببعضهما البعض، بحيث يمكن استقصاء التصورات الإمبريالية للترجمة من جهة، والنظر إلى نشاط الترجمة باعتباره ممارسة إمبريالية من جهة أخرى. لقد قاد اندفاع الإمبراطوريةَ نحو التوسع إلى مواجهة حتمية مع الأجنبي، والتي كشفت بدورها عن حاجة ملحّة إلى الترجمة. إذ أبرزت قيود الاختلاف المُعاشة عند التواصل مع الآخر، ولكنها في الوقت ذاته غالبا ما أفضت إلى الحرب باعتبارها أبرز أنماط الصراع مع الآخر. تحمل الإمبراطورية تصوراتٍ ذريعيةٍ محضة عن اللغة، ومنها أن أهمية الترجمة تقتصر على تسوية اختلاف الآخر، الاختلاف الذي هو مصدر خطورته وتهديده للمصالح الإمبريالية. تصبح الترجمة وفق هذه الرؤية أمنَ مكرٍ وأداةَ تشييد إمبراطوريةٍ أحاديةِ اللغة. لذا كان من الطبيعي أن تواجه الإمبراطورية بسبب تلك التصورات صعوباتٍ فائقةً في مناطق الحرب، مردّها إلى استحالة تحقيق قدر من التوازن بين الحاجة إلى مترجمين يمكن من خلالهم فهم العدو أولا والثقة بمستخدَميها من المترجمين الذين يحملون جنسية العدو ثانيا.
وجدت الإمبراطورية في الترجمة، واللغة عموما، ميدانا حاسما تمارس فيه قوتها وتصون فيه مصالحها. غير أن هذا الارتباط التاريخي بين الترجمة والإمبراطورية قاد إلى تناقض عميق، إذْ بينما تمثّل الترجمة شكلا مهما من أشكال التواصل مع الآخر، تُستخدم استخداماتٍ ترمي إلى استيعاب الآخر في الذات والقضاء على اختلافه ما استُطيع إلى ذلك سبيلا. منذ البدء، كان على الإمبراطورية أن تعرّف نفسها ضد آخر، لكن الخراب المحتمل الذي يجب أن تُحمى منه لغةُ الإمبراطورية وشخصيتُها، شكّل تحديا أصيلا. يكمن ذلك التحدي في أن اتصال الإمبراطورية بالآخر، في لبوس الترجمة، يجلب معه مخاطرة التلوث على الدوام. هكذا وجدت الإمبراطورية أن من الضروري تطوير نظامٍ منيعٍ لا ينفكّ يقلّص المخاطر التي تنجم عن الاتصال بالآخر.
اليوم، وخصوصا بعد ١١ سبتمبر وما تلاه مما عُرف بالحرب على الإرهاب، نجد مثالا ساطعا على هذا القول في ممارسات الولايات المتحدة الأمريكية. إذ هُندست سياسات ودُشنت برامج متعلقة باللغة والترجمة منوطة بتدعيم الأمن القومي في الداخل الأمريكي وخدمة المصالح الأمريكية في الخارج. بناء على ما تقدم، أقرأ في هذه المقالة الاستخدام المتزايد للطائرات المُسيّرة «الدرون»، التي هي اختراعٌ متعلقٌ بالحرب على الإرهاب، باعتباره وجها من أوجه النظام المنيع آنف الذكر، وخطوة تأخذها الإمبراطورية لإعفاء نفسها من الحاجة إلى الترجمة. لقد شجع على استخدام الطائرات المُسيّرة ميلٌ إمبرياليٌّ عتيقٌ إلى تحقيق هيمنة مطلقة عن طريق التخلص من الاختلاف وبالتالي الاستغناء عن الترجمة إلى الأبد. إنها خطوة يحفّزها ما أعتبره الإحباط من المسؤوليات الأخلاقية الناشئة عن الاختلاف الموجود في الآخر، ومن فشل الإمبراطورية في إنجاز مشروعها التوسعي.

الإمبراطورية في ضعفها: الترجمة عِوَضا عن الغزو العسكري

لعل خيرَ مثال على الارتباط التاريخي بين الإمبراطورية والترجمة، الذي أشرتُ إليه أعلاه، ذاك الذي نجده فيما خطّه جيلٌ من الفلاسفة والأدباء والمترجمين والنقّاد الذين أُطلق عليهم اسم ”الرومانسيون الألمان“. ظهر روّاد الحركة الرومانسية الألمانية في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وكتبوا بحماس عن موضوع الترجمة الملحّ في عصرهم. وسببُ أنه كان موضوعا ملحّا عائدٌ إلى أن الألمان كتبوا مدفوعين بطموحاتٍ قوميةٍ لا تتناسب ووضع ألمانيا السياسي البائس آنذاك. لهذا فإن جُلّ كتاباتهم دارت حول عقد مقارنات بين ممارسات المترجمين الألمان وأقرانهم الأوروپيّين، خاصة الفرنسيين منهم. وكان أبرزَ فارقٍ بين الفريقين أن الفرنسيين عمدوا إلى تطويع الآداب الأخرى أثناء نقلها إلى الفرنسية بينما لم يجرؤ نظراؤهم الألمان على فعل ذلك. جدير بالذكر في هذا الصدد أن نهجَ إبقاءِ أجنبيةِ الأدبِ المترجمِ والحفاظِ على غرابته هو النهج المفضّل في حقل دراسات الترجمة اليوم، لكن الألمان لم يكونوا يمارسونه بدافع احترام الآخر وتقبّل اختلافه، ولكن لإدراكهم أنه اللبنة الأولى في بناء إمبراطوريةٍ تصوروا أنها ستسود العالم في يوم من الأيام. لقد آمن الرومانسيون الألمان أن العالميةَ والكوزموبوليتية سماتٌ حقيقيةٌ للأمّة الألمانية، وبالتالي تنبؤوا بأنه لن يمر وقتٌ طويلٌ قبل أن تغدو الألمانيةُ اللغةَ المنطوقة في كافة أنحاء العالم. وإلى أن يحين ذلك الوقت، كانت الترجمة منوطةً بأداء وظيفتها الإمبريالية في الخروج إلى آداب الشعوب الأخرى والاستيلاء عليها.
يوهان گوتفريد هيردر (١٧٤٤-١٨٠٣)، على سبيل المثال، أحدُ الذين انتقدوا النهجَ الذي دأب عليه الفرنسيون في نشاطهم الترجمي الذي كان محكوما بميلٍ إلى هضم الأدب الإغريقي وفَرْنَسَته بدلا من «توطين [الفرنسيين] أنفسَهم على ذوقِ عصرٍ آخر والتكيّف معه.» على عكس التقليد الفرنسي، مال المترجمون الألمان إلى المحافظة على أجنبيّة الأعمال التي يترجمونها إلى لغتهم، وذلك لأنهم كانوا يشعرون بأن اللغة الألمانية، والتي ما هي إلا انعكاسٌ للوضع السياسي الألماني في عصرهم، لم تكن قوية بما يكفي لتدجين آداب الشعوب الأخرى ولغاتها. ساق هيردر مثالا على هذا الاختلاف بين النهجين في الترجمة بقوله إن هوميروس دخل فرنسا أسيرا، بينما «نحن الألمان البائسون، على النقيض، نكتفي بأن نريد أن نراه مثلما هو، إذ يعوزنا الآن شعبٌ ودولةٌ أصيلة وحكومةٌ مستبدة تتمتع بطابعٍ وطني.»
أما فريدرش شليگل (١٧٧٢-١٨٢٩) فقد حذا حذوَ هيردر في انتقاد الفرنسية، ووصل به الحال إلى أن تخيّل الترجمة على أنها تعويضٌ عن الضعف المؤقت الذي يسم الإمبراطورية الألمانية. إن فشلت الإمبراطورية سياسيا وعسكريا فلن تعدم قوتها في الأدب. لقد ذهب شليگل إلى أن «نزوع الإمبراطورية إلى إتلاف الجميع داخلها لا يمكن أن يبرز إلى السطح إلا في حقل المعرفة والفن، وهو حقلٌ لا قيودَ فيه تحدّ من الرغبة الطبيعية في روح الإنسان إلى التمدد والاستيلاء.» على المنوال نفسه، رثى أخوه أوگست ڤيلهلم ڤون شليگل (١٧٦٧-١٨٤٥) ما عبر عنه بالتقاليد الأدبية والسياسية البائسة لألمانيا في عصره، إلا أنه وجد سلواهُ المؤقتة في الترجمة، إذ كتب بحماس: «اليوم إذن نغيرُ غاراتٍ سلميةٍ على بلدان أجنبية، وخصوصا جنوب أوروپا، ونعود محمّلين بالغنائم الأدبية.» يتضح من هذه الأقوال أن أولئك الكتّاب روّجوا باستمرار لصورة الترجمة باعتبارها شكلا من أشكال الاستيلاء، حتى أن فريدرك نيتشه نفسه كتب ذات يوم: «ما الترجمة إلا شكلٌ من أشكال الاستيلاء. إذ لا يكتفي المترجم بحذف ما هو تاريخيّ، بل يضيف أوهاما إلى الحاضر.»

أمريكا ما بعد ١١ سبتمبر: إمبراطورية أحادية اللغة

في عالمنا المعاصر، يمكن ملاحظة النسق ذاته تقريبا في الممارسات الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية، المتكئة في مجملها على ميلٍ لا يني إلى استيعاب الآخر بالكليّة من خلال القضاء على اختلافه في سبيل هيمنة لا تنازُع عليها. من جديد استُخدمت اللغةُ عموما، والترجمةُ خصوصا، لأغراض الهيمنة. فمنذ حادثة ١١ سبتمبر، أطلقت الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار نماذج تاريخية سابقة، حزمةً من البرامج الفدرالية التي تهدف إلى التحكم في الاختلاف والتنوع اللغوي عبر الترويج لقوميةٍ أحاديةِ اللغة لا يمكن صونُ أمنِها إلا عبر لغة مشتركة هي الإنگليزية الأمريكية. بالنسبة لهذه القومية يجدر باللغات الأجنبية أن تخضع لتلك النسخة العالمية المهيمنة من الإنگليزية وتُستوعَب كليّا ضمنها. لم تغب هذه الممارسات عن اهتمام الباحثين في مجال دراسات الترجمة، ونبّهت حوادثُ متفرقة إلى موقف الإمبراطورية من الترجمة. على سبيل المثال، أوضحت إميلي آبتر أنه «قد شهدْنا بعد ١١ سبتمبر تزايدا في العنصرية اللغوية واستخداماتها السياسية الاستراتيجية.» الشيء نفسه لاحظه ڤيسنتي رافاييل الذي أشار إلى ما أسماه «مفهوما أمريكيا للترجمة» تتحمّل بناء عليه الترجمةُ مسؤوليةَ إخضاعِ اللغات جميعها إلى «شروط الإنگليزية الأمريكية كيما تكون قابلة للاستيعاب في الهرمية اللغوية الوطنية.»
إن الاستخدام الذريعي الممنهج للغات الأجنبية، والنظر لها على أساس موقعها من مصالح الإمبراطورية، يهدف بحسب رافاييل إلى «خدمة غايات قومية» ويكشف عن تصورٍ للترجمة على أنها مجرد وسيلة ترمي إلى تخطي العقبات اللغوية التي تواجهها الإمبراطورية. وبالتالي فإن تأسيسَ هرميةٍ لغويةٍ تعتلي قمّتها الإنگليزية الأمريكية خطوةٌ بالغة الأهمية في سبيل تشكيل أمةٍ آمنة، بحيث يصبح دور اللغات الأدنى في الهرمية مقصورا على الخدمة التي يمكن أن تقدمها لصالح أمن أمريكا القومي. هكذا إذن، بسبب رغبة أمريكا الإمبريالية في حماية نفسها عبر تكريس التماثل ونفي الاختلاف، أمست اللغة منطقة يمكن ممارسة الهيمنة عليها. كما سُلّحت الترجمةُ «بغرض إبراز القوة الأمريكية في الخارج في الوقت الذي تضمن فيه الأمن في الداخل.»
ويمكن التدليل على دور الترجمة في تشكيل الإمبراطورية وصون مصالحها من خلال النظر إلى التعامل الأمريكي مع الترجمة في أثناء غزوها للعراق، ودراسة الظروف التي عمل فيها المترجمون الذين استخدمهم الجيش الأمريكي ومنظمات أخرى، من العراقيين وسواهم. فمن جهة، طُلب من أولئك المترجمين أن يخفوا هوياتهم عبر مجموعة من التكتيكات مثل ارتداء الأقنعة وتبني أسماء أمريكية وغيرهما. ومن جهة ثانية، عاملهم مستخدِموهم بثقة وارتياب في الآن نفسه. إذْ في الوقت الذي كانت فيه الحاجة إلى المترجمين ماسّة، كان هناك خوفٌ منهم نظرا لموقعهم الحساس وهم يحتلّون منطقة وسطا بين الجنود الأمريكيين وما يعتبرونه العدوّ. أبرزت حالة المترجمين الذين عملوا لصالح الجيش الأمريكي المفارقةَ التي عاشها المترجمون في ميدان الحرب: إنهم يعملون على تجسير الطرفين، بيْدَ أنهم ينتهي بهم الحال غرباءَ عن كليهما.
الحالة نفسها استرعت اهتمامَ مويرا إنگيليري، التي اقترحت ما دعتْه «أخلاقيات ترجمة تنطلق من الظروف الاجتماعية الفعلية التي يعمل فيها المترجمون» من خلال النظر إلى حالات مترجمين عملوا في مناطق الحرب في كل من العراق وخليج غوانتانامو. بحسب إنگيليري، تخفق نظريات الأخلاق الأنطولوجية للمواجهة مع الآخر، مثل تلك التي وضعها إيمانويل لڤيناس، في مناقشة تأثير الأوضاع الاستثنائية مثل مناطق الحرب، على ممارسة المترجمين الأخلاقية. إن المترجمين، وهم عرضة لكل من «الثقة الضرورية» و «الارتياب العميق» يعيشون في الغالب حيوات ضعيفة وخطرة، خصوصا وأن مستخدمِيهم في الحرب لا يقدمون لهم حماية تُذكر. مثل آبتر ورافاييل، شددت إنگيليري على المعضلات الناتجة عن المواجهة التي تجد فيها الإمبراطورية نفسها في أثناء مطاردة مصالحها خارج الحدود. تلك المعضلات تكشف عن إخفاق الإمبراطورية في التعامل مع الاختلاف والترجمة، وهذا الإخفاق هو شرطُ الاضطرار إلى التعامل مع المترجمين في المقام الأول.

الطائرات المُسيّرة: الاستغناء عن الترجمة

الآن، كيف يمكن أن يُقرأ الاستخدام الحديث للطائرات المُسيّرة في الحرب على الإرهاب باعتبارها عَرَضا من أعراض إحباط الإمبراطورية أمام صمود الاختلاف وكروبه المصاحبة؟ كيف يمكن أن يُقرأ باعتباره طريقة الإمبراطورية في مقاومة الحاجة إلى ترجمة الآخر واللجوء إلى إقصاء العنصر البشري للإمبراطورية من المواجهة؟ بالتأكيد، يشير إدراج  الطائرات المُسيّرة في المعارك إلى تحول مهمّ في الاستراتيجية العسكرية للإمبراطورية. لقد وطّأ هذا العتاد لشكل من المواجهة لم تناقشه الإطارات الفلسفية السابقة التي نظّرت للمواجهة مع الآخر. لنتناولْ إسهامين فلسفيين رئيسين في هذا الشأن: جان جاك روسو وإيمانويل لڤيناس. وضع روسو سردية متخيلة عُرفت فيما بعد بأمثولة الإنسان البدائي. تطرح هذه الأمثولة تصورّا للقاء الرجل البدائي برجل غيره للمرة الأولى، والذي سيطر عليه الشعور بالخوف. يعتقد پول دي مان مستعرضا أمثولة روسو، أنه إذ لقي الرجل البدائي أناسا غيره «جعله [خوفه] يرى هؤلاء الناس أكبر منه وأقوى، ولذا فإنه أطلق عليهم اسم عمالقة.» التسمية المجازية هنا تعبير عن الشعور الأول بالخوف الذي سوف يحلّ محله لاحقا إدراكٌ بأن أولئك الرجال الذين رآهم الإنسان البدائي ليسوا كما تصوّر أبدا ولا يختلفون عنه.
أما لڤيناس فقد طرح فلسفة أخلاقية مبنية على المواجهة مع الآخر، مقدما بها نموذجا آخرا لتجربة المواجهة التي لا تقوم على الخوف من الآخر وإنما المسؤولية تجاهه. على الرغم من أننا لا نستطيع، ولن نستطيع، فهم الآخر، نحن ملزمون بمسؤولية تملي علينا تصرفنا تجاه ذلك الآخر. تأتي أهمية المواجهة في هذا النموذج الأخلاقي من الغيرية التي يمثّلها وجه الآخر. الوجه بالنسبة للڤيناس يسبق الكينونة، وعليه فإن المسؤولية تجاه الآخر تجيء من زمن سابق للوجود. ولأن الوجه —والمسؤولية التي يتطلبها ويستدعيها— يسبق وجودَه وجودُ الوعي بالذات، يغدو «حضور المرء أمام الوجه إدراكا لاحقا لشيء سبقه.» بينما يشدد روسو على الخوف باعتباره الموقف الأساسي الذي يظهر أثناء المواجهة، يضع لڤيناس حملا ثقيلا على المسؤولية الأخلاقية التي تستحضرها رؤية وجه الآخر.
في هذا السياق يكون في وسعنا فهمُ الاستخدام المتزايد للطائرات المُسيّرة في الحرب على الإرهاب كونه يضيف نقطة انطلاق جديدة تنحرف عن نموذجَي المواجهة المذكورين آنفا. لقد سمح هذا الاستخدام للإمبراطورية فرصة أن تضخّم ميلها إلى إبادة الآخر، من خلال تفادي المواجهة الأفقية المباشرة معه والتي تذكّر بالمسؤولية الأخلاقية تجاهه. لم يعد من الضروري رؤيةُ وجهِ الآخر كما لم يعد لزاما إجراءُ مواجهة الآخر على مقربة. لم يعد يُطاق حِملُ المسؤولية الأخلاقية التي تذكر به مواجهة الآخر وجها لوجه، وبذلك أصبح التخلص من القرب هدف الإمبراطورية. وبالفعل، بفضل تحوّلٍ أساسي في المنظور الذي يتيح مواجهة الآخر، أضحت تجربة الاختلاف والعيش معه توشك على أن تكون لا-تجربة، معتمدة على انعزالٍ لا مبالٍ لم تعد الترجمة فيه أمرا ضروريا. وأودّ هنا أن ألفت الانتباه إلى الاستعانة بمنظور جديد في مسار الحرب على الإرهاب من خلال مناقشة استخدام الطائرات المُسيّرة. لا تُشير الآلة الحديثة إلى تطوّر جديد في الجانب التقني من الإمبراطورية فحسب، ولكنها إضافة إلى ذلك تجسّد إبستمولوجيا جديدة لمعايشة العلاقة مع الآخر، مع الاختلاف، مع الترجمة. إنها تقدم طريقةً لرؤية الآخر ومعرفته، طريقةً توفر فرصةً غير مسبوقة لممارسة قوةٍ مطلقةٍ على الآخر. إذ يُرى الآخر من أعلى، يُستغنى عن وجهه في المواجهة. بل أسوأ من ذلك، يُستبدل بإحداثيات يُتعرّف عليها من بُعد. وبهذا يزداد موضوعُ التحديق الهوائي البعيد في الهوان ويُطارَد في سبيل الهلاك والانمحاء التام.
سُخّرت كفاءةُ الآلة لتعظيم اللامساواة الناشئة عن رفض الإمبراطورية لتقبل الاختلاف. سبق زاويةَ النظر الهوائية التي تعتمدها  الطائرات المُسيّرة المنظورُ الخطيُّ الذي أسسه فنانو عصر النهضة من أجل إتقان تكويناتهم الفنية والسعي نحو الدقة في العمل الفني. ذاك المنظور الخطي يُخلص لأبعاد الموضوعات الفنية الموجودة في نظر المنظور والعلاقات فيما بينها. وعليه فإن كِبَر الأشياء أو صغرها في اللوحة يعتمد بشكل رئيس على مسافة بُعدها من عين الناظر. ولكن بما أن المواجهة في ذلك النموذج تستلزم القرب، كان الآخر في الغالب يبدو بحجم الناظر نفسه. هذا الأمر مختلف تماما فيما يتعلق بالمنظور الهوائي الذي تقوم عليه  الطائرات المُسيّرة، فبدلا من الخط الأفقي، حيث تبدو الأشياء الأقرب في حجمها الطبيعي وينكمش حجم الأشياء كلما أبعدت، أصبحت لدينا دائرةٌ أفقيةٌ شاملةٌ يبدو كل شيء فيها تقريبا بالغَ الصغر وتافها تحت المسح الجوي. هذا التحول في المنظور الذي اعتمدت عليه  الطائرات المُسيّرة يحدّد إبستمولوجيا جديدة تتيح لنوع من المواجهات يسيطر فيها كليا الطرف الذي يحتل الموقع الأعلى من المواجهة. إنه لا يسمح بغير علاقات هرمية فوق-تحتية تكون فيها الغلبة القصوى لمن هو «أعلى» ويفترض موقعا ربّانيا عليما بصيرا. وكما قال أحد الباحثين: «في كثير من النواحي تحلم  الطائرة المُسيّرة عبر التقنية بتحقيق مُعادِلٍ مصغّر لعين الله المتخيلة»، تلك العين التي تعني لها المعرفةُ الكلية القوةَ الكلية. إذن، في سياق الحرب على الإرهاب، تلخّص  الطائرات المُسيّرة الميلَ الإمبرياليَّ إلى الاستيلاء على القوة المطلقة ورفض حق الآخر في الاعتراف والضيافة. وبالنظر إلى الظروف التي وفّرتها زاوية النظر الجوية، بدا إنهاء الاختلاف في نظر الإمبراطورية مشروعا يمكن السعي إلى تحقيقه، مشروعا يختزل الاختلافَ والآخرَ والترجمةَ إلى حالة من اللاوجود.
مع ذلك، على المرء أن يمعن النظر في السؤال: هل يمكن أن تُقصي الإمبراطوريةُ آخَرَها الإقصاء الكامل؟ هل المشروعُ الإمبريالي الذي يسميه رافاييل «بابلَ أحادية اللغة» مشروعٌ قابلٌ للإنجاز؟ ما من شك أن استخدام الطائرات المسيّرة في الحرب على الإرهاب يعتبر خطوةً في ذلك الاتجاه. لكنه أيضا يفضح إحباطَ الإمبراطوريةِ العميقَ من إخفاقها في استيفاء مسؤولياتِ مواجهتِها اختلافَ الآخر. فما ظلّت الإمبراطورية تعمل على تفاديه —الخوفُ من الآخر والمسؤولية تجاهه— يبدو أمرا لا يمكن تفاديه، ومن هنا جاء الطموح إلى إنهاء الآخر والبلوغ به إلى مرحلة اللاوجود. كتب لڤيناس: «أن تقتل لا يعني أن تهيمن ولكن أن تُبيد، إنه يعني التخلي التام عن الفهم. يمارس القتل قوةً على ما يُفلت من القوة.» لقد دعمت التقنيةُ الرغبةَ اللانهائيةَ في إبادة الآخر، مضيفةً إلى الإمبراطورية سمةً فوقَ بشرية. مع ذلك، في الوقت الذي تفشل فيه المواجهة العمودية فائقة اللاتماثل في تحقيق قوتها اللامحدودة وتختزل آخَرَ لا يقبل الاختزال، يعمد الطرف الأعلى من المواجهة إلى العنف الشنيع.
في الختام، لقد أثبتت مقاومة الاختلاف أنها أبرز عيوب الإمبراطورية الحديثة التي تحرّكها العولمة. ففي الوقت الذي يسّرت فيه العولمةُ حركةَ الناس والأشياء، طوّرت أساليب للتحكم في تدفق البشر. تقدّم المطارات مثالا بيّنا على تسليح اللغة في أمريكا ما بعد ١١ سبتمبر، إذ غذّت اللغات التي ارتبطت بالإرهاب، كالعربية والفارسية والأوردية، الرّهابَ والارتيابَ الذي يسيطر على الإمبراطورية، حتى غدا مجرد التحدث بها في المطارات جريمة. ولأن اعتماد الإمبراطورية على ترجمة كل الألسن طوال الوقت أمر لا يمكن ضمانه، أصبح الطريق الأسهل للتعامل مع الآخر هو العمل نحو إنهائه وإبادته. لكن المهمة الكبرى لمحو الاختلاف من أجل إمبراطورية مطلقة، باستخدام أسلحة تشغَّل من قواعد عسكرية داخل الحدود الأمريكية ويُتحكم فيها عن بعد، مهمة عديمة الجدوى. إن فكرةَ تشييدِ إمبراطوريةٍ تقوم على فرضِ لغةٍ واحدةٍ لهي فكرةٌ قديمة. جُسدت مرةً ونُفذت بشكل عمودي على هيئة برج بابل، كما تخبرنا القصة التوراتية، لكنها لم تلق سوى عقابا إلهيا جعل من الترجمة مهمة ضرورية ولكنْ في الوقت نفسه مستحيلة.
في سياق الحرب على الإرهاب، يمكن أن توصف الترجمة على أنها سبب إخفاق الإمبراطورية في تحقيق هيمنتها، إخفاقها في محو الاختلاف إلى الأبد، ونتيجة لذلك الإخفاق في الآن نفسه. الحاجة إلى الترجمة، والمسؤوليات التي تصاحبها، كالعثور على مترجمين والوثوق بهم وحمايتهم في ميدان الحرب، عَنَتْ للإمبراطورية فشلا ذريعا في اقتحام مشاعر الآخر وأفكاره بشكل كامل. ما تفتأ الترجمة تذكّر الإمبراطورية بأن مشروعها لم يكتمل بعد ما دامت هناك ألسن تحتاج إلى تفسير، وما دامت حماها لم تستوعب في ثناياها الجميع بعد، وما دام هناك آخر تعجز عن فهمه من دون اللجوء إلى الترجمة. في الوقت الذي كانت الترجمة، بالنسبة للرومانسيين الألمان، ينبغي أن تستخدم لأغراض إمبريالية، كان على أمريكا ما بعد ١١ سبتمبر أن تتخيل نهايةَ الترجمة باعتبارها الممارسة الإمبريالية القصوى. مع ذلك، نسي كلا المنهجين أن فكرة الإمبراطورية قائمة على الاختلاف والترجمة. وهي فكرة أوجزها رافاييل ببراعة حين قال: «لا توجد أمريكا إلا حيثما توجد بابل. لكن هذا يعني أيضا أنه لا يمكن أن تكون هناك أمريكا حيث توجد بابل.»

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *