لم يخضع الوجود العسكري الأمريكي بعد تحرير الكويت من الغزو العراقي لتساؤلات الكويتيين؛ فالغزو ثم بقاء نظام صدام بعد التحرير ألقى بظلاله على كافة جوانب الحياة في الكويت؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى علاقات الكويت الدولية، فقد بات الشعور بالخطر من محاولات أخرى لغزو الكويت هاجساً ، وظلت ذكرى الغزو محفورة في الوجدان الكويتي، ومساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في تحرير الكويت أعطت الوجود الأمريكي شرعيةً وقبولاً واسعاً على المستوى الشعبي والرسمي، حتى أصبح الرفض أو مجرد التساؤل عن هذا الوجود غائباً عن كل الأوساط الكويتية.
ويتردد دائماً في أوساط الباحثين والكتّاب في حقل العلاقات الدولية أن متانة العلاقة الكويتية الأمريكية أمر مُسَلم به شعبياً ورسمياً ، وأنه من الصعب جداً ظهور أصوات مؤثرة على شكل هذه العلاقة، على الرغم من أن العلاقة لم تبدأ إلا قبل ثلاثين عامًا فقط، ولا ننسى أن تحرير الكويت فرضَ على الكويت (شعبياً ورسمياً) صيغةً وشكلاً معيناً من العلاقة لا يمكن التفكير بغيرها.
ولكن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر ظهرت على السطح مظاهر تعارض الوجود الأمريكي في الكويت، وأخذت مسارين: الأول عنيف وذلك عن طريق هجمات تنظيم القاعدة على أهداف أمريكية في الكويت، والثاني سلمي قادهُ التيار الإسلامي والحركة السلفية العلمية على وجه الخصوص. إلا أن حالة الرفض هذه لم تنتج مباشرة من هجمات سبتمبر، بل حفزتّها الأحداث الإقليمية في المنطقة وعلى رأسها سياسات الولايات المتحدة تجاه الانتفاضة الفلسطينية وغزوها للعراق.
العلاقات الكويتية الأمريكية
ظهرت العلاقات الكويتية الأمريكية بشكلها الواضح والقوي أيام حرب الناقلات خلال حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، حينما قامت الولايات المتحدة بعملية الإرادة الجادة لحماية ناقلات النفط الكويتية، ومن ثم واجهت الكويت الغزو العراقي في 1990/8/2م الذي استمر قرابة ثمانية أشهر حتى قررت الولايات المتحدة تحرير الكويت بالقوة العسكرية بمشاركة قوات دولية من اثنتين وثلاثين دولة مختلفة، وصل عددها إلى أكثر من 700 ألف مقاتل جُلّهم من القوات الأمريكية، وقد استمر قتال القوات العراقية في الكويت مدة أربعة أيام من 24 فبراير إلى 28 فبراير 1991م، وفي سبتمبر 1991م وُقِعت الاتفاقية الأمنية بين الكويت والولايات المتحدة الأمريكية، وجُدِدت في 2 سبتمبر 2001م – قبل الأحداث – ولمدة عشر سنوات ولم يواجه تجديد الاتفاقية أي معارضة تذكر، وتم تجديدها مرة أخرى في سبتمبر عام 2011م، وقد كانت الاتفاقية من 1991م اتفاقيةً سرية لم يعلن عن تفاصيل بنودها.
بدأ مع توقيع الاتفاقية الأمنية تأسيس قواعد عسكرية للولايات المتحدة في الكويت وتركزت في أربع مناطق في الكويت عريفجان جنوب الكويت وثلاث قواعد في شمال الكويت (قاعدة علي السالم وقاعدة فرجينيا وقاعدة الدوحة) استخدمتها القوات الأمريكية في عملية ثعلب الصحراء على العراق عام 1998م ، وهي العملية التي أعلنت انطلاق أزمة نزع أسلحة الدمار الشامل من العراق ونتج عنها في 2003م غزو العراق والإطاحة بنظام صدام حسين.
لم تتعرض الاتفاقية إلى أي مساءلة برلمانية حولها أو حول سريّتها من النواب وليس لها ذكر في تقارير لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الأمة وقد أشرف على رئاسة اللجنة في المجلس تيارات مختلفة من القوى السياسية في الكويت.
وعلى المستوى الشعبي ظهرت جلياً شرعية وجود القوات الأمريكية وقبولها على مستوى واسع حينما زار الرئيس الأمريكي بوش الأب الكويت عام 1993م ، فقد استقبل بالورود والحفاوة، وألقى نائب مجلس الأمة طلال السعيد قصيدة مدح في جورج بوش الأب، وأصدر الفنان عبدالحسين عبد الرضا أغنية “يستاهل مستر بوش”. وفي دراسة أجراها عبد الله العنزي استطلع فيها رأي الكويتيين في عملية ثعلب الصحراء ونشرها مركز دراسات الوحدة العربية، لاحظ أن غالبية الكويتيين يؤيدون العملية تجاه النظام العراقي، ومن الممكن فهم هذا التوجه كون العراق يمثل تهديداً على أمن الكويت. الجدير بالذكر أن الغالبية أيضاً وافقت على استخدام الكويت منصة لضرب العراق، ورأت أنه يجب على الكويت تقديم المساعدات اللازمة للقوات الأمريكية في هذه العملية.
بداية التغيير (تنظيم القاعدة والاتجاه العنيف)
في الثامن من أكتوبر 2002م شن مواطنان كويتيان هما سالم الهاجري وأنس الكندري هجوماً على القوات الأمريكية التي تقوم بتدريبات عسكرية على جزيرة فيلكا، وهي ثاني أكبر جزر الكويت بعد بوبيان وغير مأهولة بالسكان، وقد أسفر هذا الهجوم عن قتل جندي أمريكي وإصابة آخر وقتل منفذي العملية، وذكرت وزارة الداخلية أن منفذي العملية وهما أنس الكندري وسالم الهاجري أعضاء في تنظيم القاعدة حسب اعترافات من ألقت القبض عليهم بعد العملية وهم خمسة عشر شخصاً، وأن أنس هو أمير التنظيم في الكويت و أحيلوا للنيابة العامة على أثر ذلك.
وبدأت في أكتوبر ونوفمبر سلسلة من المواجهات المسلحة تعرضت لها القوات الأمريكية، ففي تاريخ 14 أكتوبر 2002م تعرض رتل عسكري أمريكي في شمال الكويت للهجوم برصاص من سيارة مدنية في نفس اليوم الذي خرج فيه ابن لادن لوسائل الإعلام يبارك هجوم جزيرة فيلكا، وفي يوم 15 أكتوبر اعتقلت السلطات في الكويت صحفياً وداعية تزعم أنهما حرضا على مهاجمة القوات الأمريكية، ومع بداية شهر نوفمبر تعرض رتل عسكري آخر في شمال الكويت أيضاً لإطلاق نار من قبل سيارة مدنية، وفي آخر شهر نوفمبر تعرض عسكريان أمريكيان للإصابة في الكتف والوجه بعد إطلاق نار من سيارة مدنية في جنوب الكويت.
المحفز الرئيسي
كان انفجار مثل هذه الحالة في الكويت أمراً مستغرباً، فلم تواجه القوات الأمريكية أي رفض بمثل هذه الدرجة من قبل، والسؤال الجدير بالطرح هنا هو: ما هو المحفز الرئيس الذي أشعل مثل هذه المطالبات وردود الفعل في الكويت؟ وللإجابة عليه نحن بحاجة إلى فهم السياق الذي وقعت فيه أحداث العنف، ومحاولة ربطها مع بعضها للخروج بتفسير واضح لما حدث، فتداعيات سبتمبر لا تكفي لتفسير حالة الغضب والهجمات المسلحة على القوات الأمريكية، فالقوات كانت موجودة ولمدة عام بعد أحداث سبتمبر وبداية الحرب على طالبان والقاعدة في أفغانستان، ومع ذلك فإنها لم تتعرض لمثل هذا الهجوم من قبل.
وحسب تصريحات منفذي عملية فيلكا أنس الكندري وسالم الهاجري، فقد كان القرار الذي وقع عليه الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن والذي يقضي بإجبار الإدارة الأمريكية على الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل يمثل شارة البدء والدافع الرئيس لتنفيذ العمليات داخل الكويت واستهداف المصالح الأمريكية، فقد صرّح منفذا العملية بكل وضوح أن دافعهم لتنفيذ العملية هو قرار الكونغرس، حينما ذكر جاسم الهاجري شقيق منفذ عملية فيلكا أن أخاه لم يكن إرهابياً وقرار الكونغرس باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل هو الذي أثاره، وروى محمد المليفي رئيس مركز المعلومات في وزارة الأوقاف حديثاً دار بينه وبين أنس الكندري قبل العملية بأيام ذكر فيه غضبه على الولايات المتحدة الأمريكية من إقرار هذا القانون وقال المليفي أيضاً إن هذه العمليات ردة فعل طبيعية على غطرسة الولايات المتحدة في المنطقة وبات الكويتيون اليوم “أداة لضرب مصالح أمريكا في المنطقة”، كما ذكرت القبس وجود رسالة في سيارة المنفذين كتب فيها أنس الكندري غضبه مما يحدث في فلسطين.
تنظيم أسود الجزيرة:
ظهر تنظيم أسود الجزيرة المنتمي إلى تنظيم القاعدة، في يناير 2005م بعد سنتين من الغزو الأمريكي للعراق وهو أكبر التنظيمات الإرهابية في الكويت من ناحية العدد والتنظيم والقوة، وقد دخل في خمس مواجهات مسلحة مع قوات الأمن الكويتي وسقط على إثرها أربعة عشر قتيلاً، واستطاعت السلطات في الكويت القضاء على التنظيم بقتل ثمانية أعضاء واعتقال أربعة عشر عضواً وفرار اثنين هما محسن الفضلي وخالد الدوسري.
وقد فجر موت عامر خليف العنزي زعيم التنظيم وهو بقبضة السلطات الأمنية في الكويت موجة غضب عارمة بين الإسلاميين، فقد طالبت الحركة الدستورية الإسلامية (الإخوان المسلمين) بفتح تحقيق في أسباب الوفاة، وطالب حزب الأمة بضرورة ممارسة النواب لدورهم النيابي لوقف مثل هذه الانتهاكات، وذكر الطب الشرعي أن سبب وفاة عامر خليف هو انهيار عصبي تلاه هبوط في الدورة الدموية أدى إلى وفاته، وقد أعترف أعضاء التنظيم بعلاقتهم مع أبو مصعب الزرقاوي وبأمره لهم بتنفيذ العمليات داخل الكويت، وقد كان المحفز الأساسي لإنشاء هذا التنظيم داخل الكويت، كما ذكره خالد الدوسري في إحدى مقابلاته، هو الاحتلال الأمريكي للعراق.
فبعد عرض هذه الأحداث نستطيع القول بأن تيار تنظيم القاعدة في الكويت قد استحوذ على الصوت العنيف الرافض لوجود القوات الأمريكية في الكويت واستهدف مصالحها، فنذكر مثلاً : المتحدث الرسمي باسم القاعدة سليمان بوغيث والذي أسقطت الحكومة الكويتية الجنسية عنه بعد ظهوره في بيان نقلته الجزيرة، حث فيه المسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على تفادي ركوب الطائرات وعدم السكن في الأبراج العالية، ومحسن الفضلي القيادي البارز في تنظيم القاعدة والذي يعتقد أنه أشرف على عملية فيلكا وتنظيم أسود الجزيرة في الكويت، وقُتِل في سوريا عام 2015م بعد قيادته لجماعة خراسان، وخالد الدوسري من قياديي تنظيم أسود الجزيرة، وخالد عبدالرحمن الحسينان المعروف بـ “أبو زياد الكويتي” وغيرهم من القيادات الكويتية في تنظيم القاعدة، وتنظيم أسود الجزيرة بقيادة عامر خليف العنزي، وقد انتهج هذا التيار الخيار العنيف والمسلح في التعامل مع القوات الأمريكية ومحاولة استهداف مصالحها في الكويت.
الاتجاه السلمي
بعد يومين من عملية فيلكا غصت المقبرة بأعداد المشيعين الكبيرة الذين رفضوا الصلاة على منفذي الهجوم بحكم أنهم من الشهداء، وقد ذكر الدكتور حاكم المطيري (محاضر في كلية الشريعة في الكويت ومؤسس حزب الأمة في الكويت) أن هذا المنظر يثبت رفض الكويت والكويتيين لوجود القوات الأمريكية في الكويت واستخدام بلادهم كقاعدة لضرب العراق، وطلب جابر الجلاهمة – (قيادي في تيار السلفية الجهادية في الكويت) في خطبة قصيرة بعد تشييع المنفذين – من الحضور تهنئة أسر “الشهداء” وعدم السماع للإعلام المأجور الذي أسماه سحرة فرعون، واللافت للانتباه في هذا الحدث أن أعداد المشيعين كبيرة، وقد قدرتها بعض وسائل الإعلام بالآلاف مما يؤكد على وجود أعداد – ربما لم تلاحظها استطلاعات الرأي – ترفض الوجود الأمريكي وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة.
ردود الأفعال على عملية فيلكا
لم تكن الحالة داخل التيار السلفي متوافقةً تماماً مع بعضها حول ما حدث في عملية فيلكا والعمليات التي تلتها، وقد أشعلت هذه العمليات ردود فعل متباينة داخل التيار، وأظهرت وبشكل واضح صوتًا جديدًا كان خافتاً طوال الإحدى عشرة سنة الماضية وإن كان موجوداً، فهناك من أدانها فور وقوعها، وهناك من طالب بتحري الدقة حول العمليات نفسها، وقد طلب الدكتور حاكم المطيري – الذي اعتبر أن منفذي العملية شهداء في دفاعهم عن الأمة – عدم التسرع في إصدار الأحكام ضد منفذي العملية وأنه يجب معرفة الأبعاد التي أدت إليها العملية، كذلك الأمر مع حامد العلي الذي ارتبط اسمه بالقاعدة والسلفية الجهادية وتجنيد الأعضاء لها في الكويت وخصوصاً منفذي عملية فيلكا وتنظيم أسود الجزيرة، فقد قللَّ من شأن هذه العمليات وأدعى أن الصحف تعطيها زخماً أكثر من اللازم وأنكر علاقتها بالصراع الدائر حول سبتمبر وطلب البحث عن أسبابها وعدم إتهام التيارات الإسلامية بالعلاقة بها، وفي نفس الفصيل والتيار السياسي استنكر رئيس التجمع السلفي وعضو مجلس الأمة خالد بن سلطان هذه العملية، وسمَّاها عضو مجلس الأمة وليد الطبطبائي المقرب من الحركة السلفية العلمية (التي يتزعمها الدكتور حاكم المطيري وحامد العلي وتضم أعضاء بارزين آخرين في التيار السلفي، مثل: بدر الشبيب وعبدالعزيز الشايجي وساجد العبدلي) بالعمل الطائش الذي سيجر على العمل الإسلامي متاعبًا كثيرة.
ومما لا شك فيه أن ظهور مثل هذه الأحداث والمطالبات يقف خلفها كثير من المحفزات العقدية والسياسية وغيرها، ولكنها لم تكن تحمل القدرة على توليد زخم شعبي معارض لفكرة هذا الوجود واحتاجت معه إلى توليفة كثيفة من الأحداث المحلية والإقليمية والعالمية لكي تخرج بشكلها الذي ظهر في تلك الفترة ولا زال مستمراً إلى يومنا هذا في الكويت، وقد كان في الانتفاضة الفلسطينية وتوقيع القرار وغزو العراق لحظة مناسبة لكي تكتسب الفكرة درجة من القبول داخل المجال العام الكويتي بعد أن كانت مقتصرةً على قلة قليلة من أعضاء التيارات السياسية والمهتمين.
وهنا نصل إلى الأثر المحلي الذي صاحب هذه الأحداث، وهو ظهور الحركة السلفية العلمية في الكويت وبروز قيادات جديدة مثل حاكم المطيري وعبدالعزيز الشايجي وساجد العبدلي وبدر الشبيب وتركي الظفيري بأفكار جديدة تخالف التيار السلفي التقليدي – المتمثل بجمعية أحياء التراث، والتي تعتبر العباءة التنظيمية لكافة التيار السلفي داخل الكويت – بوضوح ربما يصل حد الخصومة. وقد حاولت هذه المجموعة بأفكارها الجديدة قيادة التيار السلفي نحو القضايا السياسية وطالبت بالتجديد في هذا الجانب، وانشأ حاكم المطيري حزب الأمة الذي يقدم أفكار جديدة على التيار السلفي في الكويت، مثل التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والسعي إلى تعديل الدستور والقوانين وتأييده للحريات العامة وحقوق المرأة السياسية وقد ذكرها حاكم المطيري في كتابه “الحرية أو الطوفان” ، كما أن قدرة الحركة وأعضاءها على إقامة العلاقات العابرة للحدود من خلال تأسيس حزبين في المملكة العربية السعودية والإمارات بنفس الاسم ويحمل ذات البرامج والأهداف كان أمراً مميزاً، وأسهم في نشر أفكار الحركة خارج الكويت.
وقد سعى حاكم المطيري إلى تنفيذ أجندة مشروعه من خلال إنشاء هذا الحزب، والذي على أساسه اختلف مع زميله في الحركة السلفية العلمية حامد العلي الذي لا يرى جواز إنشاء الأحزاب، وطرح هذا الحزب صيغة أخرى وبديلاً عن الوجود الأمريكي في الكويت وذلك عن طريق بناء كونفدرالية بين دول الجزيرة العربية، تستطيع من خلالها حماية أمنها وسيادتها، وأكدَّ على أن التسليم بالوجود الأمريكي كمعطى لحماية أمن الخليج يعد خطأً خاصة بعد ما حدث في حرب العراق 2003م. كما أصدر فتوى في 2003م تحرم الدخول في عقود تجارية مع الجيش الأمريكي، وفي زيارات المستشار السياسي في السفارة الأمريكية ريتشارد بل للحركة السلفية والتي وثقها حاكم في موقعه على الإنترنت ترى ردود الأفعال تجاه غزو العراق وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، من خلال مناقشات الأعضاء والزوار مع المستشار السياسي.
التيارات العلمانية
كان موقف التيارات العلمانية بالنسبة للوجود الأمريكي في الكويت أخف حدةً من التيار الإسلامي، على الرغم من وجود قوى يسارية شيوعية، وكذلك قوى قومية عروبية تكن في عقيدتها عداءً صريحًا وواضحًا للولايات المتحدة الأمريكية؛ إلا أنه لم تظهر- بعد الغزو العراقي – مواقف واضحة للأحزاب التي تمثل هذه التيارات : المنبر الديمقراطي حزب القوميين والحركة التقدمية حزب الشيوعيين.
وفيما يخص الحركة التقدمية الكويتية التي تعد نفسها امتداداً لحزب اتحاد الشعب، والذي تأسس في الكويت عام 1975م، وقد حُلَّ بعد سنتين من تأسيسه، فقد استأنفت الحركة أعمالها في عام 2010م بعد انفصال أعضاءها عن المنبر الديمقراطي، وقد تعرضت في بيانها للذكرى العشرين لتحرير الكويت للاتفاقية الأمنية للكويت وقالت إن أسباب الاتفاقية الأمنية بين الكويت والولايات المتحدة قد زالت بزوال نظام صدام حسين ولم يعد هناك مبررٌ لاستمرارها، وأكد أحمد الديين الأمين العام للحركة التقدمية في مقابلة إعلامية عام 2012م على ضرورة اِطلاع نواب مجلس الأمة على الاتفاقية الأمنية بين الكويت والولايات المتحدة، وأن هذه الاتفاقية ربما تكون مهددة لأمن الكويت، فمن يقبل على نفسه أن يكون منصة عليه قبول أن يكون هدفاً! وقد كان أحمد الديين أبرز شخصية في التيار العلماني داوم على انتقاد الاتفاقية الأمنية واعتبرها مهددًا لأمن الكويت والمنطقة.
إن وجود القوات الأمريكية في الكويت لا يؤثر على شكل القرارات الداخلية والخارجية، ولا يُهدد سيادة البلد ومؤسساتها، وعلى هذا كان الوجود الأمريكي مأمون الجانب طوال هذه السنوات، واقتصرَّ وجوده على المستوى الأمني فقط، لذلك تجد أن التيارات السياسية العلمانية تتعامل بهدوء معه، ولكنها في الوقت ذاته تتعامل بحدة أكبر وتنظيم أعلى حينما تتعلق المسألة بإتفاقيات أمنية مع دول الخليج العربي وتقيم الندوات حولها وتحاول حشد المواطنين لرفضها وألّا يوافق مجلس الأمة عليها، كما حدث الأمر حينما أحالت الحكومة الاتفاقية الأمنية الخليجية إلى مجلس الأمة وأقام التحالف الوطني ندوة بمشاركة المنبر الديمقراطي رأى المشاركون فيها أنها تمس سيادة الكويت وديمقراطيتها.
خاتمة
كانت أحداث سبتمبر حدثًا رئيسًا ومهمًا في العالم وفي الكويت أيضاً، إلا أنها احتاجت لكي يبرز تأثيرها على الأوساط العامة في الكويت إلى أحداث مصاحبة يمكن أن نسميها محفزات الظهور، وإلى حواضن ثقافية واجتماعية تعيد صياغة هذا الرفض ببرامج وأفكار وعقائد، ولا شك أن رفض الوجود الأمريكي، كان موجوداً منذ دخول القوات الأمريكية لتحرير الكويت، ولكنه احتاج تلك المحفزات التي تأتي من الأوساط الإقليمية والمحلية للظهور ، هذه النظرة تساعد في فهم أسباب علو هذه الأصوات وتفاعلها مع بعضها في هذه الأوقات بالتحديد، وتعطي صورة متكاملة لمشهد معقد مليء بالأفكار، والشخصيات، والمواقف، والأحداث.