السودان والحادي عشر من سبتمبر: كيف خنقت واشنطن الخرطوم؟

حسان الناصر

كاتب المقالة

حسان الناصر

أدرجت الولايات المتحدة الأمريكية السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب عام ١٩٩٣، وأغلقت سفارتها في الخرطوم ١٩٩٦، وقامت بقصف مصنع الشفاء في السودان ١٩٩٨، إلا أنه بعد الحادي عشر من سبتمبر تغيرت العلاقة بين البلدين: إذ أعيد فتح السفارة، وزاد التعاون الاستخباراتي في مجال مكافحة الإرهاب، وحدث تعاون في ملف إنهاء الحرب الأهلية، فكيف نفهم هذا التغير؟ وما هو الدور الذي لعبه الحدث السبتمبري في إحداث هذه التغيرات؟

أمريكا والسودان: من الحكم الثنائي وحتى بداية عهد النميري (١٩٠٥-١٩٦٨)

نستعرض سريعاً أهم محطات العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان في الحقبة التي سبقت وصول الإنقاذ لحكم السودان عام ١٩٨٩ قبل مناقشة السياق الذي أدى بالولايات المتحدة الأمريكية لإدراج السودان ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب عام ١٩٩٦. يمكن إرجاع بداية العلاقة بين البلدين إلى بداية القرن العشرين، عندما ساهم بعض المستثمرين الأمريكيين في إنشاء شركة السودان للزراعة التجريبية عام ١٩٠٥ وذلك عندما كان السودان خاضعاً للحكم الثنائي البريطاني-المصري، ويظهر أن الشركة السودانية ما هي إلا مجرد مساهمة من المستثمر الأمريكي “لي هانت” في إنشاء شركة زراعية والتي تحولت أسهمها إلى السيد الميرغني عن طريق شرائها في القاهرة، حيث كانت العلاقات الأمريكية السودانية تدار من القاهرة كما ظهر في زيارة (روزفلت) عندما كان الجنرال (سلاطين باشا) حاكماً عاماً على السودان في ١٩١٠.

بعد استقلال السودان عام ١٩٥٦، تشكلت حكومة ائتلاف بين زعيم طائفة الأنصار عبدالرحمن المهدي وزعيم طائفة الختمية علي الميرغني. وتحولت هذه الشركة إلى الشركة الزراعية السودانية ١٩٥٦ حيث قوبلت الشراكة حينها مع (المعونة الأمريكية) بالرفض، وكادت أن تسقط حكومة الائتلاف، مما أدى إلى قطع هذه العلاقات.

قام الجنرال (إبراهيم عبود) بانقلاب عام ١٩٥٨ وكان من بين أول الأعمال التي قام بها: قبول المعونة الأمريكية بالإضافة إلى زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية ١٩٦١. لا يمكن تفسير اتجاه الجنرال عبود إلى الولايات المتحدة بالشروط الإقليمية حينها التي دفعت القادة إلى الاتجاه شرقا، وإنما بالظروف الداخلية، فضابط نشأ في كنف بريطانيا ويواجه أزمة غذائية طاحنة فالخيار السياسي له ولا بد؛ قبول المعونة الأمريكية من أجل استقرار الحكم وهو ما يذهب إليه المفكر السوداني منصور خالد في بعض مذكراته. 

سقطت حكومة الفريق عبود عام ١٩٦٤ لتأتي بعدها الديمقراطية الثانية ١٩٦٥ – ١٩٦٨ وخلال هذه الفترة عقدت قمة الخرطوم التي تعرف تاريخيا بقمة (اللاءات الثلاث) وسبقها مؤتمر وزراء الخارجية العرب بالكويت ١٩٦٧ الذي أظهر فيه السودان – بجانب مصر وسوريا والجزائر- ضرورة قطع العلاقات مع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.

السودان وأمريكا خلال عهد النميري (١٩٦٨-١٩٨٥)

عام ١٩٦٨ انتهت الديمقراطية الثانية بانقلاب عسكري قاده جعفر نميري الذي استمر في حكم البلاد حتى عام ١٩٨٥. خلال هذه الفترة مرّت العلاقة السودانية-الأمريكية بثلاث مراحل رئيسية: في المرحلة الأولى. من الملاحظ أنه مع اغتيال السفير الأمريكي ونائبه في العام ١٩٧٣ ظلت الولايات المتحدة الأمريكية محتفظة بعلاقتها مع السودان.

بعد أزمة النفط عام ١٩٧٣، بدأت المرحلة الثانية والتي حدث فيها تقارب بين السودان وأمريكا تمثّل بـاهتمام الولايات المتحدة بالتنقيب عن النفط، ففي عام ١٩٧٥، حصلت شركة (Chevron) على امتياز التنقيب عن النفط في مناطق جنوب السودان، ويمكن أن نقول بأن النفط قد أحدث تقارباً مهماً في العلاقات الأمريكية السودانية وتسارعت وتيرة الاكتشافات النفطية حتى العام ١٩٨٢ حيث كان مجموع الآبار التي حفرتها الشركة حوالي (24 بئرا) .

انتهت هذه المرحلة في عام ١٩٨٣، وذلك بعد أن أدى تبني نظام جعفر النميري لدستور إسلامي، لتدهور العلاقة بين البلدين من جهة، واشتعال الحرب الأهلية السودانية من جهة أخرى. ففي عام ١٩٨٤، ونتيجة لضغوط الحكومة الأمريكية، انسحبت الشركة الأمريكية من السودان وتوقفت صناعة النفط في السودان حتى العام ١٩٩٩.

أما فيما يتعلق بالحرب الأهلية السودانية، فقد أدى تبني الدستور لرد مختلف وخطاب مفارق من الجنوبيين على الحكومة السودانية. بعد تبني الدستور الإسلامي، رفعت الحركة الشعبية خطابا علمانيا مضادا للإسلام والعروبة بقيادة الفريق جون قرنق (٢٣ يونيو ١٩٤٥ – ٣٠ يوليو ٢٠٠٥) والذي وجد دعما من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب السياسات العربية والإسلامية ضد الجنوبيين الذين كانوا يرتبطون بشكل كبير مع المجموعات الكنسية الجنوبية في الولايات المتحدة الأمريكية. 

صعود نظام الإنقاذ

جاء صعود الإنقاذ إلى السلطة في عام ١٩٨٩م نتيجة لتطور الاتجاه الإسلامي السوداني في فترة الديمقراطية الثانية تحت مسمى (جبهة الميثاق)، ففي تلك الفترة، دعا أستاذ القانون في جامعة الخرطوم حسن الترابي الحركة الإسلامية لتبني دور مختلف. فبدلا من النهج التربوي الذي كانت تتبعه، رأى الترابي ضرورة تبني العمل السياسي المباشر. وفعلاً، فقد نجح الإسلاميون في وقت وجيز بدخول البرلمان وطرد الحزب الشيوعي منه.

إلا أن هذه المكتسبات تلاشت بعد انقلاب نميري الذي ناصبه العداء وتحالف مع الشيوعيين. لكن عندما انهارت العلاقة بين نميري والشيوعيين بعد المحاولة الانقلابية في العام ١٩٧١، سعت جبهة الميثاق (سعى الترابي إلى خلق قطيعة مع ماضي الإخوان المسلمين في السودان داخل المنظومة الجديدة التي سعى إلى بنائها) والتي تحول مسماها إلى الحركة الإسلامية نتيجة لرفض الترابي مبايعة تنظيم الإخوان في مصر مع سعي الترابي إلى تكوين تنظيم عالمي للإسلاميين.

مع حلول العام ١٩٧٧ تمكنت الحركة الإسلامية من مفاصل السلطة مما سمح لهم بتتويج ذلك بدستور ١٩٨٣ الدستور الذي بسببه أعادت الولايات المتحدة تقييم العلاقة مع الخرطوم بالإضافة إلى انفجار أزمة جنوب السودان مجددا.

عندما اندلعت ثورة عام ١٩٨٥ ضد نظام النميري، انضمت الحركة الإسلامية لكل من حزب الأمة والحزب الاتحادي في مواجهة النظام. وفي عام ١٩٨٨، تمكنت الحركة الإسلامية من التحالف مع الصادق المهدي، وأصبح حسن الترابي وزيرا للعدل لإعادة قوانين سبتمبر.

في عام ١٩٨٩، قام العقيد عمر حسن أحمد البشير بالانقلاب على الحكومة المنتخبة واعتقل أهم قياداتها بما فيهم حسن الترابي. 

كان اعتقال الترابي مجرد تمويه تقوم به المؤسسة العسكرية، فحتى العام ١٩٩٠ لم تكن هوية الانقلاب معلومة لذلك لم تتخذ معظم الدول بما فيها مصر موقفا منه، ولكن سرعان ما تبدل الموقف بخروج الترابي وظهور الكوادر الإسلامية في مؤسسات الدولة وهو ما يمكن أن نجده في أدبيات الحركة الإسلامية في تلك الفترة والتي من أهمها (الحركة الإسلامية دائرة الضوء وخيوط الظلام) للكاتب المحبوب عبد السلام. 

الإنقاذ والحركات الجهادية

بعد عامين من انقلاب البشير، نظمت الحركة الإسلامية مؤتمراً عالمياً سمته بالمؤتمر الشعبي العربي الإسلامي. جاء هذا المؤتمر بعد انسحاب الاتحاد السوفيتي من أفغانستان وهزيمة العراق في حرب الخليج. سعى الترابي إلى تكوين جبهة إسلامية جديدة بديلا لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي كانت تحت سيطرة المملكة العربية السعودية. جمع الترابي حوالي 400 شخصية من 45 دولة في الخرطوم بين 24-25 أبريل من العام ١٩٩١، ومن أهم الشخصيات التي حضرت من السعودية (أسامة بن لادن) ومن مصر الإخوان المسلمون: مأمون الهضيبي وإبراهيم شكري، بالإضافة إلى أيمن الظواهري من الجهاد، ومن العراق: سعيد التكريتي ابن مدير المخابرات العراقية، بالإضافة إلى: جورج حبش وياسر عرفات، ومن حزب الله عماد مغنية، ومن اليمن عبد المجيد الزنداني، ومن الأردن محمد عبد الرحمن خليفة، ومن سوريا زعيم الإخوان المسلمون عدنان سعد الدين، وغيرها من الشخصيات من شرق وغرب أفريقيا. 

وجدت هذه الخطوة قلقا ومخاوف لدول الإقليم خصوصا أن الجماعات الإسلامية فيها تعتبر مهدداً للأنظمة خصوصا في مصر وإثيوبيا وإرتريا، يذكر المبعوث الأميركي السابق في الخرطوم دونالد بيترسون “من داخل السودان” أن رئيس حركة “الإصلاح” المعارضة، غازي صلاح الدين، أخبره عندما كان مسؤولاً كبيراً في الحكومة (قبل انشقاقه)، عن “مقدرتهم مخاطبة القلق الأميركي نحو الحراك الإسلامي والجماعات الإسلامية بوضعها في خط الاعتدال، بشرط أن تعترف واشنطن بزعيم الإسلام وعرَّاب النظام وقتها، حسن الترابي، كزعيم في العالم الإسلامي“.

لم يكن في قدرة الترابي أن يصمم نموذجه الإسلامي وتحويل الخرطوم إلى مركز جديد للحركات الإسلامية من غير أموال المجموعات الجهادية لذلك استعان بالمنظومة الاقتصادية لأسامة بن لادن، خصوصا أن الإنقاذ في تلك الفترة لم تتمكن من استخراج النفط. وفعلا، بدأ أسامة بن لادن يتدخل في العديد من المشاريع الاستثمارية المتعلقة بالطرق والجسور والبنى التحتية، فمن ضمن المشاريع المهمة التي قام بها أسامة بن لادن (جسر كسلا) بالإضافة إلى مشروع (مطار بورتسودان الدولي) والذي حتى نهاية التسعينات كان يسمى بمطار أسامة بن لادن الدولي.

بحلول العام ١٩٩٥ كانت الحركات الجهادية (المصرية منها بالخصوص) قد وجدت الخرطوم ملاذا آمناً، إذ سرعان ما بدأت في تدبير موجات اغتيال سياسية وتفجيرات، وقد كانت محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك من أهم الأحداث التي كشفت تورط النظام السودان مع الجماعة الإسلامية حيث كشفت مصر حينها تورط الجماعة الإسلامية في محاولة الاغتيال وبمساندة من أجهزة المخابرات السودانية، والتي بدورها نفت هذا الاتهام، إلا أن الأمر فتح في جلسة الأمن في العام ١٩٩٦ وطالب فيه مجلس الأمن إثيوبيا بتسليم المتهمين في محاولة اغتيال الرئيس المصري، وأفاد ممثل إثيوبيا حينها في مجلس الأمن أن السودان يؤوي ثلاثة من المتهمين في المحاولة، إلا أن الحكومة السودانية نفت الأمر، ولكن موقفها كان ضعيفاً جدا أمام الاتهامات الإثيوبية؛ بسبب الموقف المصري من الحادثة.

لم تنج الخرطوم من الاتهام بمساعدة المجموعات الجهادية، ففي أغسطس ١٩٩٨ وفي وقت واحد حدث انفجار في العاصمة الكينية نيروبي، بالإضافة إلى دار السلام في تنزانيا أمام سفارة الولايات المتحدة في البلدين – كينيا وتنزانيا – وتزامن هذا التفجير مع الذكرى الثامنة لوصول القوات الأمريكية إلى السعودية، أحدث الخبر موجة في شرق أفريقيا، مما جعل هناك خطوات جادة في التعامل مع ملف الإرهاب الذي أثير مجددا في وجه السودان خصوصا أن هناك اتهامات بدخول المنفذين من السودان إلى تلك البلدان. وحددت الولايات المتحدة قائمة بأسماء الاتهام لأشخاص وإلى بعض الدول أيضا كان السودان أولها.

في العام ٢٠٠٠ وبينما كانت رحى خطاب الحرب على الإرهاب تتحرك نفذ تنظيم القاعدة تفجيرا استهدف المدمرة الأمريكية (كول) قبالة اليمن عند خليج عدن، وأسفر التفجير عن مقتل 17 بحارا أميركيا. واعتبر قاضي المحكمة الفيدرالية الأميركية وقتها أن المجموعة التي قامت بتدمير المدمرة كول وتنتمي إلى تنظيم القاعدة، تلقت مساعدات لوجستية من السودان ولولاها لما تمت العملية. وتعتبر هذه الحادثة تغيرا مهما في العلاقات الأمريكية السودانية خصوصا أنها جاءت في بدايات تولي بوش الابن مقاليد السلطة في البيت الأبيض.

لم تقف الاتهامات التي قدمت للخرطوم على تنظيم القاعدة وحسب، بل اتجهت بعض الدول لاتهام الخرطوم بالدعم للمجموعات الجهادية في نيجيريا بالإضافة إلى الصومال خصوصا أن جامعة أفريقيا العالمية جمعت العديد من القيادات الجهادية بالإضافة إلى المشائخ التكفيريين الذين عادوا من السعودية في حقبة التسعينات حيث امتد تأثيرهم بنشوء تيارات جهادية سلفية كان تأثيرها على المجموعات الجهادية في الصومال ونيجيريا كبيرا. 

لم يفد نكران الخرطوم كل هذا الإرث الجهادي المرتبط في علاقاتها مع دول الجوار في منطقة الساحل الشرقي لإفريقيا ووسط أفريقيا، بل تزامن كل هذا مع خطاب جهادي نُقلت فيه حرب الجنوب من حرب مليشيات ضد جيش نظامي إلى حرب أهلية أصبح فيه الجنوب مسيحيا والشمال مسلما. ِ

الإنقاذ والحرب الأهلية الأولى

يمكن لنا أن نكشف أسلمة خطاب حرب الجنوب في ثلاث نقاط أساسية، الأولى تحول الحرب من مجرد حرب بين جماعات متمردة إلى حرب أيديولوجية سياسية أظهرتها الحركة الإسلامية في وصفها للحركة الشعبية بأنها حركة تمرد علمانية ضد الإسلام والعرب، والنقطة الثانية في مواقف الحركة الإسلامية في علاقاتها الخارجية حيث طردت مجموعة من المؤسسات الدولية والكنسية الإغاثية بحجة دعمها للتبشير. أما الثالث فتمثل بمنظومة الدفاع الشعبي التي تأسست وفق مرسوم في نوفمبر ١٩٨٩ لتصبح الذراع الشعبي والتعبوي الذي تستخدمه المؤسسة الرسمية للدولة في مواجهة الحركة الشعبية بجنوب السودان. وجاءت المادة 5 من قانون 89 للدفاع الشعبي (أنه قوات تقوم بتدريب المواطنين عسكريا وتكون مساندة للقوات النظامية)، وأتبعت هذه القوات لرئاسة الجمهورية ليكون الرئيس مسؤولا عنها مباشرة. 

في العام ١٩٩١ زار الرئيس الإيراني رفسنجاني مع 157 مسؤولاً عسكرياً، ووقعت الخرطوم اتفاقيات عسكرية مع إيران وفتح أكثر من معسكر تدريبي في غرب الخرطوم بالإضافة إلى جنوب كردفان، وجاء بعض المدربين من لبنان وإيران للإشراف على هذه العمليات. 

في العام ١٩٩٨ بلغت الحرب في جنوب السودان ذروتها مع ارتفاع الخطاب الجهادي والتجنيد الإجباري الذي أصبح ملزما لكل ذكر عمره 16 سنة في السودان ومع زيادة الهجمات الجهادية خارج السودان كان لا بد للنظام الأمريكي أن يتخذ موقفا حادا من الخرطوم. 

من العقوبات إلى الهجمات العسكرية (١٩٩١ – ٢٠٠٠)

قاد تصاعد علاقات السودان مع حركات المقاومة الفلسطينية والجهادية من جهة وأسلمة صراعها في الحرب الأهلية من جهة أخرى إلى أن تكون السودان هدفاً للعقوبات والهجمات الأمريكية خلال عقد التسعينات.

قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتصنيف السودان ضمن قائمة الدول الداعمة للإرهاب في عام ١٩٩٣ وذلك ردا على دعم الخرطوم للمجموعات الفلسطينية الجهادية ويشير البعض إلى وجود علاقة بين هذه العقوبات ووجود أسامة بن لادن بالخرطوم والتي غادرها في العام ١٩٩٦. في العام الذي يليه قررت الولايات المتحدة الأمريكية أن تفرض عقوبات اقتصادية جمدت على أساسها جميع أموال الحكومة السودانية بالإضافة إلى حظر التقنية الأمريكية وفرضت حظرا على المواطنين والشركات الأمريكية الاستثمار في السودان.

رغم العقوبات الأمريكية على السودان تمكنت حكومة الإنقاذ من استخراج النفط بمساعدة الصين التي كانت قد أسست علاقاتها الدبلوماسية مع السودان في العام ١٩٥٨ وشهدت بعض الانتعاش في فترة السبعينات مع التقارب السوداني السوفيتي، إلا أننا لا يمكن الحديث عن علاقات اقتصادية إلا في حقبة الإنقاذ حيث تحول السودان إلى ثالث دولة أفريقية بعد أنجولا وجنوب إفريقيا ذات علاقات اقتصادية كبيرة، وشهد الاقتصاد السوداني توازنا أدى إلى زيادة القدرة العسكرية للجيش في حرب الجنوب.

في العام ١٩٩٨ ومع أحداث تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام حددت الحكومة الأمريكية أهدافاً لضربها في السودان وبذلك انتقلت الولايات المتحدة من العقوبات الاقتصادية إلى الضربات العسكرية، فكان ما يعرف في السودان (ضربة مصنع الشفاء) وهو مصنع مملوك لرجل الأعمال السوداني (صلاح إدريس) الذي كان تربطه علاقات تجارية مع أسامة بن لادن مع أن الولايات المتحدة لم تقدم دليلاً واضحاً على تورط رجل الأعمال أو المصنع في الأعمال الإرهابية.

أثر هجمات ١١ من سبتمبر على العلاقة (٢٠٠٠ – ٢٠٠٦)

تزامنت هجمات الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ مع تغيّر في علاقة النظام السوداني مع الحركات الإسلامية، حيث أدى هذا التزامن لتحول في مسيرة العلاقات الأمريكية السودانية في السنوات الخمس الأولى التي تلت الحدث السبتمبري. فداخلياً، وقبل الحدث السبتمبري بعامين، حدث ما يعرف بـ المفاصلة داخل النظام السوداني. حيث رفض مجلس شورى الحركة الإسلامية التعديلات التي كان ينوي الترابي القيام بها داخل البرلمان وقانون الانتخابات والحكم الاتحادي مما أدى إلى صدور مذكرة داخلية على رأسها علي عثمان محمد طه (نائب الأمين العام) وبعض القيادات الأخرى تعزل الترابي من منصبه كأمين عام للحركة الإسلامية، وتحالفت قيادات مذكرة العشرة مع الجيش في دعم بقاء عمر البشير رئيسا للجمهورية.

أدى تزامن المفاصلة مع الحدث السبتمبري لتحولين رئيسين في العلاقة مع أمريكا. فالحدث السبتمبري جعل من ملف مكافحة الإرهاب محوراً رئيسيا لتجدد التعاون والتقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية.

فقدمت الشركات السودانية تقاريرها المالية التي نفت فيها وجود أي رؤوس أموال تدعم الإرهاب مما جعل الولايات المتحدة تدعو مجلس الأمن إلى رفع العقوبات عن السودان.

أما التحول الثاني فتمثّل في دفع الولايات المتحدة لإنهاء الحرب الأهلية السودانية وتجاوب النظام السوداني معها في ذلك. فقد قام الرئيس بوش بتعيين جون دانفورث مبعوث خاص له للسودان في ذات العام ٢٠٠١ من أجل محاولة تقديم اختراقات في عملية السلام مع الجيش الشعبي (الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق) ووضع الكونغرس بعض الخيارات أمام الرئيس من أجل تطبيق عقوبات في حالة لم تدخل الخرطوم مفاوضات السلام بحسن نية إلا أن تدخل بوش من خلال وزارة الخارجية التي كان يدير حقيبتها (كولن باول) قد ساعد على تحسين العلاقات مع الخرطوم في حربها على الإرهاب وفتح الفرصة أمام الخرطوم لكسب ثقة واشنطن في هذا الملف. 

عملت الولايات المتحدة الأمريكية نحو تحسين العلاقات مع السودان في العام ٢٠٠٢ صدر ما يعرف بـ (قانون سلام السودان) والذي على أساسه تشجعت الحكومة في الخرطوم بتوقيع ما يعرف ببروتوكولات مشاكوس ٢٠٠٢ والتي مهدت إلى مفاوضات سلام بين الحركة الشعبية ونظام الإنقاذ. ويعد مشروع سلام السودان حلقة وصل بين التقدم في اتفاقية السلام الشامل وبين العقوبات الأمريكية ليصدر في العام ٢٠٠٤ قانون سلام السودان الشامل ليشمل جميع مناطق السودان.

مع توقيع اتفاق السلام الشامل في العام ٢٠٠٥ والذي أشرفت عليه الولايات المتحدة بصورة كبيرة وساعدت الحكومة بالإضافة إلى الحركة الشعبية في تجاوز عقبات التفاوض وقدمت العديد من الوعود لحكومة المؤتمر الوطني بإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بالإضافة إلى بعض المساعدات، إلا أن معظم المؤشرات كانت تقول بأن الولايات المتحدة قد ساومت حكومة المؤتمر على فصل الجنوب (حق تقرير المصير) مقابل رفع العقوبات وملف الديون. 

إلا أن كافة جهود التقارب التي حدثت في السنوات الخمس الأولى بعد الحدث السبتمبري قد تبخرت بسبب نشوب حرب دارفور التي تعود جذورها إلى فترة التصحر والجفاف بين القبائل الرعوية والزراعية، إلا أن انحياز الحكومة المركزية في فترة الثمانينات أدت إلى أن تأخذ طابعا إثنيا ومع صعود خطاب السودان الجديد خلال حقبة حرب الجنوب، تحولت الحرب إلى صراع بين الاتجاه العروبي والأفريقي في دارفور وأخذت شكلا من الأيديولوجيا المرتبط مع نظام الإنقاذ نسبة إلى التعقيدات التي نشأت في قضية دارفور، سأكتفي بتأثيرها على العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية ونظام المؤتمر الوطني، ففي أبريل ٢٠٠٦ أصدر الرئيس جورج بوش الابن قرارا تنفيذيا (13400) حجز ممتلكات وأموال الأفراد الذين يساهمون في نزاع دارفور، وفي ديسمبر من ذات العام أصدر بوش الابن قرارا (13412) وتشمل العقوبات أموال الحكومة السودانية بالإضافة إلى كافة المعاملات التي يقوم بها أي مواطن أمريكي في قطاع النفط والاستكشاف ونقل البترول. أصدر الكونغرس أيضا قانون (سلام ومحاسبة دارفور) في العام ٢٠٠٧ بخصوص الإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان والجرائم ضد الإنسانية. وفي العام ٢٠٠٩ أصدرت المحكمة الجنائية مذكرة توقيف بحق الرئيس ومجموعة من أركان النظام.

بعد الانتخابات القومية في ٢٠١٠ والتي جاءت بـ (عمر أحمد البشير) رئيسا وحجز المؤتمر الوطني أغلبية مقاعد البرلمان ومهدت لانفصال جنوب السودان الذي حدث في العام الذي يليه إثر استفتاء كان من الواضح فيه الانفصال وهو ما يمكن تفسيره بمساومة النظام بانفصال الجنوب مقابل استمرار نظام المؤتمر الوطني. 

انفصال جنوب السودان

في سبتمبر ٢٠١١ وقعت الخرطوم وواشنطن اتفاقية بخصوص التعاون في ملف مكافحة الإرهاب تمثلت في اتفاقيات تعاون مشترك، إلا أن العلاقة ظلت كما هي حيث ربطت واشنطن تحسن العلاقات بملف سلام دارفور الأمر الذي انعكس على محاولة النظام توقيع العديد من الاتفاقيات مع أطراف الحركات المسلحة في دارفور لتأتي اتفاقية أبوجا في العام الذي أصدر فيه الرئيس الأمريكي بوش الابن قراراته ٢٠٠٦ اتفاقية الدوحة ٢٠١٠ في محاولة من النظام لتطبيع العلاقات، إلا أن جميع هذه المحاولات قد فشلت، وهو ما يظهر في موقف الولايات المتحدة الأمريكية من مسألة الحرب في دارفور. 

قد يكون انفصال جنوب السودان هو الاتفاق الذي على أساسه تشكلت العلاقة بين السودان والولايات المتحدة حسب الشروط الجديدة للسياسة الأمريكية في المنطقة فحسب بعض التصريحات الأمنية أن السودان ومنذ ٢٠٠٥ قد قدم جميع الضمانات الأمنية بخصوص مكافحة الإرهاب بالإضافة إلى توقيع اتفاق السلام الشامل ٢٠٠٥ وهو ما انعكس على تدخل الكونغرس ببعض القرارات بعد هذه الفترة ٢٠٠٥ – ٢٠١١ لتظل الخرطوم في خط العقوبات الأمريكية.

خلاصة

إن كان حدث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ مركزياً في العلاقات الأمريكية – الشرق أوسطية وترتبت عليه وضعية سياسية واقتصادية وعسكرية أيضا في المنطقة، فإنه انعكس على السودان بصورة يمكن فهمها من خلال العقوبات الأمريكية وملف مكافحة الإرهاب، فتغيرت السياسية الأمريكية تجاه السودان من القطيعة الكاملة إلى فتح أفق التعاون المشترك في هذا الملف، إلا أن العقوبات الأمريكية ظلت قائمة تارة من خلال قرارات رئاسية والأخرى عن طريق قوانين يصدرها الكونغرس التي كانت دائما ما تمثل الهاجس الأكبر للنظام. 

من الملاحظ أن العقوبات الأمريكية على السودان يمكن تصنيفها على أساس المرحلة التاريخية من عمر النظام، ففي التسعينات كانت سياسيات كلينتون بدأت بالعقوبات الاقتصادية التي تعود إلى ١٩٨٨ نتيجة للتأخر في سداد الديون، لتأتي بعدها عقوبات ١٩٩٣ حتى العام ١٩٩٨ وهي عقوبات حاولت أن تقيد من قدرة النظام إلا أنها انتقلت إلى الضربات العسكرية مع العام ١٩٩٨ بسبب ارتباط السودان بالعناصر الجهادية ونتيجة للتحولات داخل النظام مع حلول العام ١٩٩٩ انتقلت العلاقة إلى التعاون في هجمات الحادي عشر من سبتمبر حيث ساعدت المخابرات السودانية وكالة الاستخبارات المركزية بالعديد من ملفات الزعماء الجهاديين والعناصر الجهادية أيضا؛ مما فسر على أنه انتقال في العلاقات بين البلدين. 

بعد ذلك يمكن لنا أن نفهم العلاقة من خلال العقوبات الأمريكية فهناك مستويين لهذه العقوبات، الأولى مرتبطة مع قرار البيت الأبيض. أما الثانية ففي قوانين الكونغرس، وهو ما يمكن النظر إليه من خلال الحرب الأهلية الثانية (حرب دارفور). 

مجملا يمكن لنا أن نقول بأن العلاقة مع الولايات المتحدة مع بعض التحولات الداخلية للنظام (الإنقاذ) هي التي أعادت تشكيل المشهد السياسي داخل الخرطوم ما بعد ٢٠١١ مع الأخذ في الاعتبار العلاقات الداخلية للنظام والتعقيدات التاريخية والسياسية.

تعليق واحد

شاركنا بتعليقك

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *