هذه المقالة رد على تدوينة كتبها الأستاذ أيمن الشمري بعنوان “الرد على مقال (اختراع الشذوذ الجنسي)” أقدم فيها ثلاث محاججات. ملخص المحاججة الأولى التي سميتها بمغالطة التسامح، أن أيمن قدم قراءة مغلوطة لمقالتي – ولكتاب خالد الرويهب أيضاً – عندما زعم بأننا نقول إن “الشذوذ الجنسي في تاريخنا الإسلامي ما قبل الحديث كان يُتسامح معه نسبياً”. فنحن نقول إن ظاهرة المثلية الجنسية ظاهرة حديثة لم تكن موجودة أصلاً في التراث والتاريخ الإسلامي، فكيف ينسب لمن يتبنى هذا القول بأنه كان هناك تسامح مع المثلية أو حتى رفض لها؟
المحاججة الثانية أبيّن فيها قصور محاولة أيمن في إثبات أن وجود ممارسات جنسية بين مثليي الجنس في التراث الإسلامي لا يقتضي شرعيتها والقبول بها، وذلك عبر توضيح أن هناك خطابات متعددة ومتنوعة لشرعنة السلوك الاجتماعي، وأن حصر أيمن لها بالمدونة الشرعية قصور وتحكّم لا يملك عليه أي مبرر منهجي.
أما المحاججة الأخيرة فهي مرتبطة بزعمه أن مصطلح الشذوذ الجنسي موجود بمعناه في التراث الإسلامي وإن لم يكن موجوداً بلفظه، وهنا أبيّن أن المعنى الذي زعم وجوده في التراث ليس هو معنى الشذوذ الجنسي. فمعناه الذي تشكّل داخل مدرسة التناسليات في القرن التاسع عشر مفاده أن الشذوذ الجنسي هو كل سلوك يسعى لتفريغ الغريزة الجنسية بطريقة مخالفة للطريقة الطبيعية التي تؤدي للتكاثر، وهذا معنى يختلف عن المعنى الذي قدمه أيمن ومفاده أن الشذوذ هو كل سلوك جنسي مخالف للفطرة التي هي الإسلام. أوضح هذا الاختلاف بين المعنيين بالتشديد على تمايزين: الأول، بين مفهوم الغريزة الحديث ومفهوم الغريزة القديم، والثاني بين المفهوم القديم للجنس والمفهوم الحديث للجنس، وعبر هذين التمايزين يتضح الفرق بين الجانب “الطبيعي” للمعنى الذي نفيت وجوده في التراث والمعنى “المعياري” الذي قدمه هو. بعد هذا التوضيح، أضيف نقطتين: الأولى، أنه مع كون هذا المعنى “الطبيعي” الحديث لم يكن موجوداً في التراث، فهو أيضاً معنى خطأ، ومنشأ خطئه افتقاره لأي دليل يربط ما يسميه بـ”الغريزة الجنسية” بـ”المغاير للجنس” وممارسته الخاصة بالاتصال بين الذكر والفرج. أما الإضافة الثانية، فهي أن المعنى الذي اخترعه أيمن خطأ أيضاً ويوقعه في إلزامات مضحكة من قبيل أن كل المسلمين حسب معناه الجديد للشذوذ سيصبحون شواذاً.
هذا الملخص العام للمحاججات الثلاث التي سأثبتها في هذه المقالة. ولكن قبل أن أفصل وأتوسع فيها، سأقدم ملخصاً عاماً لتدوينة أيمن.
تدوينة أيمن الشمري
لا أظن الأستاذ أيمن يختلف معي في أن تدوينته مشتتة وتتطرق لمواضيع متعددة بشكل غير متسّق. وهذا بحد ذاته لا يقلل من قوّة محاججاتها، لكنه يصعّب مهمتي في تقديم ردّ متسّق ومرتّب. ولهذا السبب سأقوم بتلخيص أهم الانتقادات التي ذكرها، ثم سأوضح على أيّها سأركز في ردي هذا مع ذكر المبررات لذلك.
قام أيمن بتدوينته بانتقاد عملين لي منفصلين عن بعضهما: الأول سلسلة التغريدات التي كتبتها لإثبات أن المثليين جزء من نسيج المجتمع السعودي وأن المثلية جزء من الثقافة السعودية؛ والثاني مقالتي التي كتبتها على هذه المنصّة تحت عنوان “اختراع (الشذوذ الجنسي) وتحولاته“. انتقاد أيمن الرئيس على سلسلة التغريدات هو لوصفي -وما بين علامتي التنصيص كلامه-“للأشخاص الذين صدر منهم بعض الممارسات والميول الشاذة” في السعودية بأنهم مثليون، فهي مغالطة من وجهة نظره، ذلك أن هناك فرقاً بين الممارسة والهوية، وأن الفئة الموجودة في السعودية لا تقدم نفسها مجموعةً هوياتيةً، وبالتالي فإن وصفهم بالمثليين إسقاط لـ”مفاهيم غربية حديثة في سياق مختلف”. هذا نقده الرئيس على السلسلة، وبعد ذلك راح يعلق على بعض الاستشهادات وأن فيها خللاً، مثل تعليقه على استشهادي بوثيقة السفير الأمريكي وبأغنية كسرات.
أما بالنسبة لتعليقه على مقال “اختراع (الشذوذ الجنسي)”، فهو بدأ بتلخيص كلامي، ثم علّق عليه بثلاث ملاحظات رئيسة. أما بالنسبة لتلخيصه، فيقول إنني- اتباعاً لخالد الرويهب وميشيل فوكو- أرى أن “الشذوذ الجنسي في تاريخنا الإسلامي ما قبل الحديث كان يُتسامح معه نسبيا…وأيضا لم يُنظر للواط كظاهرة شاذة وغير سوية،” ثم أبني – ومن معي من المتأثرين بفوكو – “على هذا -أحيانا بصراحة وأحيانا بتحفظ- أن التشدد في رفض الشذوذ مسألة دخيلة على الثقافة العربية والإسلامية وهي آتية من ثقافة الغرب الحديث”.
وبعد هذا التلخيص، راح يعلّق عليه من ثلاث جوانب رئيسة: الجانب الأول، فبين فيه تأثير ومركزية أطروحات ميشيل فوكو على هذه الآراء. وملخص الجانب الثاني أن وجود وشيوع العلاقات الشاذة في التاريخ الإسلامي، لا يعني أنها كانت مقبولة ومتغاضى عنها. وملخص الجانب الأخير هو أن مصطلح “الشذوذ الجنسي” وإن كان غير موجود بلفظه في التراث العربي-الإسلامي، إلا أن هذا لا يعني أن معناه لم يكن موجوداً.
وأنا سأركز هنا على كلامه عن المقالة مغضيا الطرف عن تعليقه على سلسلة التغريدات، وذلك لأن كلامه عن السلسلة ينطلق من نفس الموقف النظري الذي صاغه مفصلاً أثناء رده على المقالة، ولهذا سيكون تفنيدي لكلامه عن المقالة كافياً لتفنيد الإطار النظري على الأقل الذي انطلق منه في التعليق على سلسلة التغريدات. وإذا رأى أيمن في هذا إجحافا، فله كل الحق أن يطالب بالتعليق على النقاط التي يرى أنها مهمة وقمت بتجاهلها وأعده أني سأعلق عليها، فهدفي هنا هو التركيز على أقوى جوانب نقده والرد عليها وترك الجوانب الجانبية التي لا تمس أصل الخلاف النظري بيننا.
مغالطة التسامح
لعلّ أهمّ مغالطة وقع فيها أيمن وأثرت على باقي أطروحاته في التدوينة هو الزعم بأني وخالد الرويهب نرى أن “الشذوذ الجنسي في تاريخنا الإسلامي ما قبل الحديث كان يُتسامح معه نسبياً”. وهذه مغالطة؛ لأن خالداً كتب كتابه رداً على من يدّعي هذه الدعوى، فكيف يأتي أيمن بجرة قلم منه ليجعلها غرض الرويهب من كتابه؟ ولا يحتاج أيمن لأن يقرأ أبعد من الصفحة الأولى من مقدمة الكتاب حتى يعلم أنه غير قائل ما قوّله. ففي هذه الصفحة يضع الرويهب عنواناً بالخط العريض على شكل التساؤل التالي “تسامح مع المثلية؟” وتحتها يقول بجلاء بعد ذكره نصوصاً تتحدث عن انتشار الممارسات القريبة مما نسميه اليوم بالمثلية: “قد يكون من المغري اعتبار هذه النصوص دليلاً على وجود حالة منتشرة من التسامح مع المثلية… في العالم الإسلامي قبل القرن التاسع عشر”. بعد ذلك، يستشهد الرويهب بباحثين وأكاديميين لم يقاوموا هذا الإغراء وتبنوا هذا الرأي مثل فيرن بولوغ، وجون بوسويل، ومارشال هودجسون، وبرنارد لويس. ولو كان خالد الرويهب يشاطرهم الرأي لما كان في كتابه أي إضافة ولا أي قيمة معرفية، بل سيكون مجرد تلخيص وتجميع لآراء وإسهامات من سبقوه.
إن ما يميّز أطروحة الرويهب هو أنها قامت بتجاوز سؤال “هل كان المسلمون قبل القرن التاسع عشر متسامحين مع المثلية أو لا؟” معتبرةً إياه سؤالاً خطأً ينطلق من مسلمة خطأ. هذه المسلمة هي أن- وما بين علامتي التنصيص كلام الرويهب- “المثلية الجنسية حقيقة واضحة عن العالم البشري وأن الثقافات تتمايز فيما بينها فقط في درجة التسامح معها أو قمعها”. وهذه المسلمة خطأ لأنها تعتبر المثلية ظاهرة غير تاريخية، وأنها موجودة في كل المجتمعات إما بشكل جليّ أو بشكل خفيّ، وهي بالتالي تجعل من دراسة تاريخ المثلية مسألة بلا معنى، وهي خطأ لأنها تنتج نظرة جوهرانية لظاهرة المثلية، أي نظرة تعتبرها ذات جوهر ثابت لا يتغير وإنما الاختلاف الوحيد الذي يطرأ عليها هو في كيفية تعامل المجتمعات معها إما قبولاً أو رفضاً.
وبدلاً عن هذه النظرة الجوهرانية للمثلية، يقترح الرويهب- اعتماداً على أعمال غيره من المؤرخين والأنثروبولوجيين المتأثرين بميشيل فوكو- نظرةً يسميها نظرةً سياقية أو بنائية تعتبر المثلية ظاهرةً حديثة تشكلت أول ما تشكلت في أوروبا في القرن التاسع عشر، وأنه لا وجود لها قبل ذلك بالشكل الذي ظهرت فيه، لا في أوروبا ولا في منطقتنا. أما بالنسبة للممارسات القريبة منها الموجودة قبل ذلك، فهي ظواهر مختلفة عن ظاهرة المثلية وإن كان ثمّ تداخل وتقاطع معها.
كيف تؤثر هذه النظرة السياقية للمثلية على سؤال التسامح مع المثلية في التراث الإسلامي؟ أعتقد أن الإجابة واضحة. فهي ستقول إن الظاهرة نفسها لم تكن موجودة في التراث الإسلامي فكيف نسأل عن تسامح أو ضده مع ظاهرة لم تتشكل إلا بعدُ ؟ وقيمة أطروحة خالد الرويهب أنه قال إن الممارسات الموجودة في التراث الإسلامي التي يجمعها المعاصرون تحت مظلة واحدة ويسمونها مثلية إنما كان ينظر إليها في سياقها باعتبارها ممارسات متمايزة ومتفرقة. فهو قد رصد ثلاثة تمايزات رئيسة في التراث الإسلامي: التفريق بين “الفاعل” و”المفعول”، والتفريق بين “الشهوة” وبين “الغزل”، والتفريق بين الوطء في الدبر وبين الممارسات الجنسية الأخرى كالتقبيل والضمّ وما شابه. وهذه التفريقات- وما تقتضيه من تقبّل ورفض اجتماعي وتحريم وإباحة ومعاقبة- لا وجود لها داخل مفهوم المثلية المعاصر. ولهذا السبب يقرر أن سؤال التسامح يجب تجاوزه. في صفحة ١٥٥ من النسخة الإنجليزية يقول: “إن استقراء أدبيات هذه الفترة تكشف واقعا معقدا، واقعاً لا يمكن القبض عليه بمفاهيم مثل (التسامح) و(عدم التسامح) أو(النظري) مقابل (الواقعي)”.
بالمثل؛ تجاوزت في مقالتي مسألة التسامح وضده، فغايتي كانت تَتبُّع تاريخ مصطلح “الشذوذ” في الفكر العربي الحديث لكشف مغالطة يقع فيها “المناصرون للمثلية والمناهضون لها” – وما بين علامتي التنصيص موجود في المقالة بحروفه – هذه المغالطة هي أن مصطلح “الشذوذ” أصيل في تراثنا عكس مصطلح “المثلية” الذي هو مصطلح دخيل وتطبيعي، ففي المقالة بينت أن كلا المصطلحين اخترعا في حقبة واحدة بدايات القرن العشرين وضمن نفس حركة الترجمة المتأثرة بالمدارس والأطروحات التناسلية والنفسية، وذكرت كذلك أن معنى “الشذوذ الجنسي” عندما دخل المعجم العربي كان مختلفاً عن معناه الحالي، فهو لم يكن محصوراً بالمثلية، ولم يكن ذا حمولة أخلاقية وتشنيعية كما هو وضعه الآن، وأوضحت أن مصطلح “المثلية” هو الترجمة العربية الأولى لمقابلها الأجنبي وليست ترجمة لاحقة تهدف لاستبدال مصطلح “الشذوذ” وتطبيع الظاهرة والتخفيف منها.
بتعبير آخر، مقالتي كانت تأريخاً لمصطلحي الشذوذ والمثلية في الفكر العربي الحديث وتتبعا لتحولاتها وذلك من أجل كشف الكثير من الخرافات التي تردد حول هذا الموضوع، وهي خرافات يرددها المناصر للمثلية والمناهض لها، ولم تتكلم عن التسامح مع المثلية لا من قريب ولا من بعيد، بل ترى أن هذا السؤال لا معنى له قبل العصر الحديث.
حسناً، إذا كان هذا مقصدي وذاك مقصد الرويهب، فكيف نفسر النصّ الذي استشهد به أيمن من كتاب الرويهب والذي يتحدث فيه صراحة عن التسامح؟ لنعد للنص مرة أخرى. يقول الرويهب: “من منتصف القرن التاسع عشر وحتى بداية القرن العشرين، تآكل التسامح الظاهر لظاهرة عشق الغلمان، وقد يعود ذلك على الأقل في جزء منه إلى تبني النخب الجديدة المتعلمة تعليماً غربياً للطباع الفكتورية الأوروبية”. لقد قمت بتسويد الجزء المهم من هذا النص، والذي فيه نرى أن الرويهب لا يتحدث عن المثلية بل يتكلم عن التغزل بحب وعشق الصبيان، وهذان- كما ذكرنا سابقاً- مسألتان مختلفتان وإن كان بينهما تداخل. فالرويهب يرى أن التراث العربي الإسلامي مايز بين الحب والممارسة الجنسية، وأنه تسامح مع الأول مستدلاً على ذلك بوجود لون شعري متفشٍ ومشتهر محوره حب الصبيان والتغزل بهم، كتب فيه وألف كثير من الشعراء كان بينهم علماء دين.
قد لا يتفق أيمن مع زعم الرويهب هذا، لكن عدم اتفاقه معه شيء والمغالطة في فهم كلام الرويهب شيء آخر. فعندما يقول الرويهب إن التراث الإسلامي تسامح مع الممارسة (س) فهذا لا يقتضي أنه يقول إن التراث تسامح مع (المثلية) لأننا الآن في العصر الحديث نعتبر (س) جزء من المثلية. ذلك أن كل كتاب الرويهب قائم على أن هذا التقاطع بين (س) والمثلية في العصر الحديث غير موجود في التراث الإسلامي، ولهذا السبب عنون كتابه بـ”ما قبل المثلية”.
تعدد أدوات الشرعنة الإجتماعية
الفقرة السابقة كافية لهدم الركن الرئيس الذي بنى عليه أيمن جل حديثه، لكن هناك جوانباً أخرى تستحق الالتفات لها. فعندما حاول أيمن إثبات أن وجود الممارسات الجنسية والعاطفية بين مثليي الجنس في التاريخ الإسلامي لا يقتضي أن هذه الممارسات شرعية ومقبولة ومتغاضى عنها، بدأ بالاستدلال بـ”المرجعية التشريعية الأولى عند المسلمين”، يقصد الكتاب والسنة، ثم تحدث عن استبشاع الأدباء، مثل الجاحظ، لهذه الممارسات.
وهذا الرد من أيمن سيكون سليماً لو كنت أنا فعلاً تحدثت عن وجود هذا التسامح أو عدمه كما أشرت إلى ذلك في الفقرة أعلاه. وسيكون أيضاً مقبولاً لو كان السؤال محصوراً في المدونة الشرعية أو حتى في المدونة الأدبية. لكن سؤال أيمن عام وأكبر من ذلك، فهو يريد إثبات أن التراث والتاريخ العربي-الإسلامي بمجمله لم يكن فيه تشريع أو تسويغ أو قبول لهذا النوع من الممارسات، ولأن هذه غايته فإن استدلالاته تعتبر قاصرة وغير كافية.
وسبب قصور استدلالاته يعود لفهم مغلوط لمعنى “الشرعنة”. فعندما نسأل “هل الفعل (س) مقبول عند المجتمع (ص)؟” فهناك على الأقل طريقتان للإجابة على هذا السؤال. الطريقة الأولى هي الطريقة التي اتبعها أيمن، فهو حتى يحدد ما هو المقبول عند مجتمع ما، راح يفتش عن “الخطاب” الأسمى والأرفع والأكثر سلطة في هذا المجتمع، ثم قام باستنطاقه لمعرفة رأيه في المسألة. ولتوضيح هذا أكثر، لو أردنا على سبيل المثال تطبيق هذه الطريقة في مجتمع آخر- مثل المجتمع الأمريكي- فإن هذا الخطاب الأسمى والأرفع والأكثر سلطة سيكون الدستور الأمريكي والمنظومة القانونية الأمريكية ومسائلتها عن مدى قبول المجتمع الأمريكي للفعل (س) أم لا.
مشكلة هذه الطريقة أنها تتجاهل تعقيد المجتمعات وعدم تجانسها وتعدد وتضارب خطاباتها، فتنحاز لأحد هذه الخطابات وتجعله حاكماً على غيره من الخطابات بلا مبرر منهجي. لنعد لمثال الولايات المتحدة الأمريكية ولنأخذ موضوع تعاطي المخدرات كالكوكائين والهيروين. فأنت لو نظرت للمدونة القانونية الأمريكية لوجدتها تمنعه وتحاربه وتجرمه. فهل هذا كاف لأن نخرج بنتيجة أن تعاطي هذه المخدرات في الولايات المتحدة ليس مشرعناً ولا مقبولاً ولا جزءاً من الثقافة الأمريكية؟ لا أظن أن أيمن سيتبنى هذا القول. والسبب في استصعاب قبول هذه النتيجة هو وجود خطابات أخرى في نفس المجتمع- كأغاني الراب، ومنتجات هوليود، وثقافة كل من أوساط الطلاب في الجامعات مثلا، والشبكات الاجتماعية الكبيرة والمعقدة التي يمثل الترويج للمخدرات وتعاطيه ركناً أساسياً فيها…- تتعامل مع نفس الفعل ونفس الممارسة باعتبارها مشرعنة ومقبولة ومحبذة. ولا يلغي كون الخطاب القانوني يستطيع فرض نفسه عبر أدوات الدولة القسرية وجود الخطابات الأخرى حتى لو كان انتشارها في أوساط ضيقة ومحدودة.
وحتى يستطيع الباحث الإجابة على سؤال “هل تعاطي المخدرات مقبول في المجتمع الأمريكي؟” بطريقة تتفادى التحيّز المنهجي لأحد الخطابات دون غيره، فإن الخطوة الأولى في الطريقة الثانية – التي أرى أنها الأكثر قدرة على الإجابة على السؤال – هي الانطلاق من موقع لا-أدري. والمقصود بهذا هو أخذ مسافة متساوية من كل الخطابات الموجودة والمتداولة في المجتمع، واعتبار أن كل واحد منها – أيّاً كانت قوّته ورفعته وتساميه – معتبر ولا فضل لخطاب على آخر. من هذه الخطوة المنهجية الأولى يتخلص الباحث من أي تحيّز مسبق ويستطيع أن يرى الفعل نفسه من زاويا متعددة داخل المجتمع نفسه، زاويا تعكس التنوع والتعدد وعدم التجانس والتناقضات داخل هذه المجتمعات. وإذا قبل أيمن هذه الطريقة، يصبح حصره للخطابات بالخطاب الشرعي والأدبي قصور منهجي لا مبرر له. وإذا لم يقبلها، فعليه أن يقدم لنا مبررا منهجيا للانحياز لخطاب على آخر.
وحتى يكون كلامي واضحاً، فأنا عندما أقول إنه لا يجب أن يكون هناك فضل لخطاب ضد آخر حين البحث في قبول مجتمع لفعل ما، فلا يجب أن يفهم من هذا أني أقول إن الخطابات متساوية في كل مجال. فعلى سبيل مثال إذا أردنا بحث سؤال: “ما هو العدل؟” فهذا مبحث أخلاقي معياري تتمايز فيه الخطابات ولا تتساوى من حيث اقترابها من الحق وبعدها عنه. أما إذا أردنا بحث سؤال: “ما هو العدل في المجتمع س؟”، فإن الخطوة الأولى للحصول على إجابة شافية هو الانطلاق في البحث من موقع لا-أدري يتعامل مع أي خطاب ينظّر للعدل في هذا المجتمع باعتباره خطاباً معتبراً.
واعتماداً على هذه الطريقة الثانية، نستطيع إلقاء نظرة أخرى على مقدمة الجاحظ لرسالة مفاخرة الجواري والغلمان والتي استشهد بها أيمن لاثبات شيوع “استبشاع هذه العلاقة الشاذة” بين المشتغلين في الأدب. فوجه استدلال أيمن أنه لو كان هذا الموضوع مقبولا ومتسامحاً معه لما احتاج الجاحظ لأن يكتب خمس صفحات لتبرير الخوض فيه. لنعد لنصّ المقدمة ونرى هل قراءة أيمن لها صحيحة؟ لنبدأ أولا بالقول إن الجاحظ لم يكن يبرر “العلاقة الشاذة” في هذه المقدمة، بل كان يبرر الخوض في – والكلام هنا للجاحظ- مواضيع فيها ذكر “الحر والأير والنَّيك” وهذه مواضيع ليست محصورة بين مثيلي الجنس، بل تشمل غيريوه أيضا. وهو في مقدمته يخاطب فئة محددة وصفهم بأنهم “بعض من يظهر النسك والتقشُّف” حيث اعتبر أن أكثرهم عبارة عن رجل “ليس معه من المعرفة والكرم، والنُّبل والوقار، إلاَّ بقدر هذا التصنُّع”. فهو من ناحية لم يكن يبرر الحديث حصراً عن الممارسات بين مثليي الجنس بل عن المواضيع الجنسية عموماً، ومن ناحية أخرى لم يكن يبررها لفئة يحترمها ويقدر رأيها، بل لفئة يحتقرها ويسعى لتفادي مزايداتها وتنطعها.
ومع أن هذين الجانبين كافيان لردّ استدلال أيمن بمقدمة الجاحظ على استبشاع الفعل، إلا أننا نجد في مقدمة الجاحظ مقاربة قريبة من المقاربة التي ذكرتها أعلاه. فهو يرى أن نقله للخلاف بين “اللاطة” و”الزناة” مماثل لنقله للخلاف بين الشتاء والصيف وبين أصحاب الضأن وأصحاب المعز. يقول الجاحظ: “ونحن لم نقصد في ذكرنا لهذه الأخبار الردّ على من أنكر هذه الأمور، ولكنّا لما ذكرنا اختصام الشتاء والصيف، واحتجاج أحدهما على صاحبه، واحتجاج صاحب المعز والضأن بمثل ذلك، أحببنا أن نذكر ما جرى بين اللاطة والزناة، وذكرنا ما نقل حمّال الآثار وروته الرواة، من الأشعار والأمثال، وإن كان فيه بعض البطالات”. أي أنه لم يعتبر تناوله للموضوع تناولاً لخلاف بين ما هو “طبيعي” و”شاذ”، بل خلاف في التفضيلات بين فئتين اجتماعيتين موجودتين في عهده. ومع أن الجاحظ لا يخفي أن في كلام الطرفين- الزاني واللائط- “بعض البطالات”، لكن همّه هو ذكر خلافهما وحججهما الأدبية بغض النظر عن موقفه المعياري أو الحكم الشرعى من محتوى حججهما. وهذه المقاربة للموضوع المنفتحة لكافة الخطابات الاجتماعية في عهده قريب جدا للطريقة الثانية التي وصفناها أعلاه.
وقبل أن نترك الجاحظ ومحاورته، يجب علينا الإشارة إلى أن “صاحب الغلمان” في محاورة الجاحظ هو ممثّل لخطاب منتشر في عصر الجاحظ يتضمن حججا تدافع عن تفضيلات فئة اجتماعية معروفة في زمانه يسميهم الجاحظ بـ”اللاطة”. فهو يقول إنه في هذه المحاورة أحب أن يذكر “ما جرى بين اللاطة والزناة وذكرنا ما نقل حمّال الآثار وروته الرواة من الأشعار والأمثال وإن كان فيه بعض البطالات”، وفي هذا دليل على أن هذه الحجج لم يخترعها الجاحظ، وإنما اتكأ فيها على تراث أدبي من أشعار ومحاججات وآراء وأخبار طرحتها هذه الفئة ليس فقط لتسويغ وجودها بل لإقناع غيرها بأفضلية خياراتها على غيرها من التفضيلات الجنسية. فعندما احتج صاحب الجواري بأشعار شعراء العرب الأوائل، ردّ عليه صاحب الغلمان بالاستشهاد بالتغيّرات الاجتماعية الموجودة في عهده والاختلافات الثقافية بين عهده وعهد شعراء العرب الأوائل، فقال له بأن هؤلاء الشعراء لو نظروا “إلى بعض خدم أهل عصرنا ممن قد اشترى بالمال العظيم فراهة وشطاطا ونقاء لون وحسن اعتدال وجودة قد وقوام لنبذو بثينة وعزة وعفراء من حالق وتركوهن بمزجر الكلاب”، ذلك أن هؤلاء الشعراء تعلقوا بالنساء بسبب بيئتهم الصحراوية، فهم “أعراب أجلاف جفاة، غذوا بالبؤس والشقاء ونشؤوا فيه…”.
خرافة الفطرة الجنسية
يقرّ أيمن أن لفظ “الشذوذ الجنسي” غير موجود في التراث، لكنه يصرّ على أن معناه كان موجوداً. ويوضح ذلك فيقول: “فإطلاق لفظ الشذوذ على اللواط إطلاق معتبر، فاللواط ممارسة منحرفة عن الأصل والفطرة، أي مخالفة للممارسة الجنسية المعيارية المشروعة.. وكوننا مسلمين ومرجعيتنا هو الشرع فبدهي أن الممارسة الأصل عندنا هي الممارسة الزوجية بين الذكر والأنثى”. ويوضح مقصوده بالفطرة بأنها “دين الله الحنيف وهو الإسلام”. وأيمن ليس وحيداً في هذا المضمار، فهناك حملة كبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي مضادة للمثلية الجنسية تسمي نفسها “فطرة” وتنطلق من نفس هذا الفهم.
وكلام أيمن هذا شديد البطلان، ذلك أن معنى “الشذوذ الجنسي” الاصطلاحي الذي زعمت أنه غير موجود في التراث مختلف عن المعنى الذي اخترعه أيمن وسعى لإثبات وجوده في التراث. وهذا المعنى الاصطلاحي ذكرته أنا في المقالة بكل وضوح عند مناقشة ظهور دراسات التناسليات الحديثة. ففون كرافت إيبنج وزملاؤه من روّاد هذه الدراسات كانوا يتبنون نظرية محددة حول الجنس انتجت هذا المعنى الحديث للشذوذ الجنسي. فبالنسبة لهم، الجنس عبارة عن غريزة طبيعية تنشأ في الإنسان عند البلوغ غايتها الإنجاب والتكاثر، ولأن غايتها الإنجاب والتكاثر، فالممارسة الطبيعية للجنس إنما تكون على شكل جماع عبر الأعضاء التناسلية بين فردين بالغين من جنسين مختلفين.
وحسب هذه النظرة للجنس، فإن أي ممارسة فيها تفريغ للجنس بطريق آخر يعتبر شذوذا جنسيا. فالجنس الفموي بين زوج وزوجته شذوذ، والسادية شذوذ، والمازوخية شذوذ، والمثلية شذوذ، والجنس مع جثث الأموات شذوذ، ووطء المرأة في الدبر شذوذ، والمفاخذة شذوذ، والعادة السرية شذوذ…إلخ. ووصف هذه الممارسات بالشذوذ الجنسي ليس المراد منه تشنيع أخلاقي أو استقباح ذوقي أو استنكار ديني، بل المراد منه أن يكون وصفاً لاعتلال بيولوجي أو طبيعي، مثل وصفنا لفقدان الشمّ عند الإصابة بمرض اعتلالا دون أن يعني هذا أن المصاب بهذه الحالة غير فاضل أو سيء أخلاقيا. فهذا المعنى الاصطلاحي لـ”الشذوذ الجنسي” نشأ ضمن هذه المدرسة التي حاولت تقديم نظرية علمية طبيعية مبنية على مفهوم الغريزة الجنسية والاعتلالات المحيطة بها.
هذا هو معنى “الشذوذ الجنسي” الذي زعمت أنه غير موجود في التراث الإسلامي. ذلك أن هذا التراث لم يعرف مفهوم الغريزة الجنسية الطبيعية المرتبطة طبيعيا بغايتها التكاثرية، وبدون هذا المفهوم لا يمكن توليد مفهوم الشذوذ الجنسي. صحيح أن التراث عرف مفهوم “الغريزة” بمعنى قريب من المعاني الأرسطية ، لكن استعمالاته التراثية مختلفة عن الترجمة العربية الحديثة لمفهوم “instinct” المتولد في القرن التاسع عشر. فهذا المفهوم الأخير له سياق ومعنى محدد مرتبط بالنظريات الداروينية والنفسية التي تشكلت في تلك الفترة.
وحتى نوضح هذا الفرق بين “الغريزة” بمعناها القديم، و”الغريزة” بمعناها الحديث، لنقارن بين استخدام أبي حامد الغزالي لها، وبين استخدام منظّر أوروبي بعد عصر الأنوار هو الفرنسي جورج كوفيي. ففي إحياء علوم الدين، وعند نقاشه لـ”حقيقة العقل”، يقول أبو حامد الغزالي إن “العقل” يستخدم عادة للإشارة لأربعة معان منفصلة. أحدها “الوصف الذي يفارق الإنسان به سائر البهائم وهو الذي استعد به لقبول العلوم النظرية”، ثم يقتبس من الحارث المحاسبي تعريفاً للعقل يؤيد هذا المعنى فيقول: “إنه غريزة يتهيأ بها إدراك العلوم النظرية”. فمفهوم الغريزة بهذا الاستخدام مفهوم واسع يشمل العقل والحياة. فهو يقول: “وكما أن الحياة غريزة بها يتهيأ الجسم للحركات الاختيارية…فكذلك العقل غريزة بها تتهيأ بعض الحيوانات للعلوم النظرية”. فهي بهذا المعنى تشمل كل قوّة أو نزعة يولد عليها الإنسان بما في ذلك الحياة والعقل، وهذه النزعات ليست قهرية ولا تتعارض مع الاختيار، ولهذا لم يكن يرى الغزالي أن هناك تعارضاً بين “الغريزة” و”العقل”. بل إننا نجد ابن تيمية في درء التعارض يكثر من استخدام مصطلح “الغريزة العقلية” فيقول مثلا: “أن الله يُعرف ويُعبد بالعلم، لا بمجرد الغريزة العقلية”.
لنأخذ معنى الغريزة هذا ولنقابله بالمعنى الذي تشكّل في أوروبا في القرن التاسع عشر. لنبدأ بجورج كوفييه، وهو أحد أهم علماء تلك الفترة، مؤلف كتاب مملكة الحيوان. في هذا الكتاب، نجده يتحدث عن نوعين من الذكاء. النوع الأول هو العقل، والذي يرى أنه موجود بشكل رئيس وكامل عند الإنسان وبدرجة ضئيلة جدا عند باقي الثديّات، ويعرفه بأنه القدرة على التعامل مع المدركات الحسيّة بطريقة اختيارية وتجريدية وتحكمية. أما النوع الثاني، فهي الغريزة، وهو يرى أنها توجد بكثرة عند بقيّة الحيوانات غير الإنسان. وهو يعرّفها بأنها “تدفعهم (أي الحيوانات) للقيام بأفعال ضرورية لحفظ بقائهم”. وهذه الغريزة قهرية، غير اختيارية، لا يمكن للكائن التحكم بها، وهي وراثية، ومتوزعة بالتساوي بين أعضاء الجنس الواحد من أي فصيلة حيوانية، ويتحصّلون عليها بلا تعلّم ولا سابق تجربة. أي أن “الغريزة” عند كوفييه مقابلة “للعقل”، وكلما انتقلنا من أسفل السلّم الحيواني لقمته البشرية، كلّما قلّت هيمنة الغريزة على الكائن الحيّ وزادت حريّة العقل. فعندما تحدث عن الثديّات، وصفها بأنها “الأقل استعباداً للغريزة”.
هذا المعنى الجديد والخاص للغريزة، أي المقابل للإرادة والعقل، بدأ بالتسرّب للنظريات المفسّرة للسلوك البشري بعد نشر داروين لكتابه الشهير أصل الأنواع وصعود وهيمنة أفكاره. فداخل الإطار النظري الدارويني، الإنسان هو مجرّد حيوان آخر. فبدأنا نرى على سبيل المثال من يفسّر سلوك الطفل بأنه محكوم بالغرائز بشكل مشابه للحيوان، وفي هذه المرحلة أيضاً بدأت تظهر مقولات مثل “الغرائز الحيوانية” في الإنسان. وهذه الغرائز عادة ما تتمحور حول العنف والجنس، وحجة وجودها في الإنسان داخل الإطار الدارويني بسيط مباشر: فلأننا نرى عملها في الحيوانات، عرفنا وجودها، ولأن الإنسان حيوان آخر، إذن هي موجودة فيه أيضا.
وضمن هذا الغزو الدارويني للمفاهيم التي طورت لتفسير السلوك الحيواني نحو تفسير السلوك البشري، تشكّل مفهوم “الغريزة الجنسية” الذي استخدمه التناسليون لفهم الجنس ومنه طوروا مفهوم “الشذوذ الجنسي”. لن نذهب لأبعد من رائد هذا الإطار النظري وهو كرافت-إيبينغ. ففي مقدمة كتابه يقول: “لم يُعهد تكاثر الجنس البشري للصدفة ولا لهوى الإنسان، بل لغريزة طبيعية تتطلّب، بكل قوّة واقتحام، أن تُشبع”. ثم يستلهم عصره الدارويني فيقول: ” وعبر الحبّ الحسّي الغليظ والنزعة الشهوانية لإشباع هذه الغريزة الطبيعية، يقف الإنسان في نفس مستوى الحيوان”. ثم يقول أنه من الضروري أن يكون “صراع دائم بين النزعات الطبيعية والأخلاق” وعبر هذا الصراع يستطيع الإنسان أن يرتقي ويتحرر من استعباد الغريزة الجنسية.
بعد توضيح هذا الفرق بين مفهوم الغريزة الجنسية الطبيعي الحديث المتأثر بالداروينية وبين مفهوم الغريزة اليوناني-التراثي، لنعد مرة أخرى للتراث ولنرى كيف كان فهمهم للجنس، وهل كان مختلفاً عن هذه النظرة الحديثة كما أزعم أنا وينفي أيمن؟ لنأخذ ابن القيم مثالاً، ففي زاد المعاد يذكر أن “الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلية: أحدها، حفظ النسل…الثاني، اخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه… والثالث، قضاء الوطر، ونيل اللذة، والتمتع بالنعمة”. أي أن للجماع غاية اجتماعية (حفظ النسل)، وغاية صحيّة (اخراج الماء)، وغاية فردية (التلذذ والاستمتاع). هذا تصوّر أكثر تقدمية من تصورات المدرسة التناسلية التي تحصر الغاية من الغريزة الجنسية بحفظ النسل وتعتبر أن استخدامه لغايات أخرى، كمجرّد الاستمتاع، اعتلالاً وشذوذاً جنسياً. وذلك أنه ضمن هذا التصوّر الذي يطرحه ابن القيّم للجماع، تصبح كافة الممارسات التي هدفها اللذة والمتعة حتى لو لم يكن الغرض منها حفظ النسل ممارسات “طبيعية”، إن شئنا استخدام هذا المصطلح بمعناه الحديث.
وإذا أراد أيمن اثبات أنه كان يوجد في التراث معنى “الشذوذ الجنسي” المذكور أعلاه، فإن كل ما عليه هو أن يثبت وجود مدرسة فكرية في التراث ترى بأن في الإنسان شيء اسمه غريزة جنسية -بالمعنى القسري المناقض للارادة والعقل- لها غرض وحيد طبيعي وهو التكاثر، وبمجرد إيجاد مثل هذه المقولة يكون قد أثبت أن الشذوذ الجنسي موجود بمعناه في التراث. لكنه عوضاً عن القيام بهذه المهمّة، راح يبسّط المسألة فاخترع معنى جديداً للمصطلح انطلاقا من الأصل اللغوي لمعنى “شذوذ”، وقدمه كالتالي: الشذوذ هو أي ممارسة منحرفة عن الأصل والفطرة التي هي الإسلام. وهذا المعنى الأيمني لا علاقة له – لا من قريب ولا من بعيد – بالمعنى المذكور أعلاه. فالمعنى الأيمني لـ”الشذوذ الجنسي” هو معنى أخلاقي-معياري يعتمد على مفهوم “الفطرة” وليس معنى طبيعي-بيولوجي يعتمد على مفهوم “الغريزة الجنسية” بالمعنى الحديث المذكور أعلاه.
وهذا الفرق الدقيق بين “الفطرة” ومفهوم “الغريزة” الحديث يحتاج لبعض التوسع حتى يتبين الفرق بين المعنى الذي اختلقه أيمن والمعنى المقصود للشذوذ الجنسي. في درء تعارض العقل والنقل، يقول ابن تيمية: “إذا قيل: إنه ولد على فطرة الإسلام، أو خلق حنيفاً ونحو ذلك. فليس المراد به أنه حينما خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويريده. فإن الله تعالى يقول: “والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً”، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبته. فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضياتها تحصل شيئا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض”. وفي موضع آخر يقول أن “في فطرة الإنسان قوة تقتضي اعتقاد الحق وإرادة النافع”. فالفطرة هنا ليست قوّة بيولوجية قسرية، بل أشبه ما يكون ببوصلة داخلية تعين الإنسان- في حال لم تفسدها التنشئة- على معرفة الحق وإرادة النافع له. فبهذا المعنى تصبح الوثنية مخالفة لمقتضى الفطرة، أما بالمعنى البيولوجي فلا يمكن اعتبار الوثني منحرف أو شاذ لأنه عبد الأوثان. وبهذا المعنى يكون الجنس الفموي بين الأزواج ليس مخالفا لمقتضى الفطرة، لكنه يخالفها إذا كان الرجل والمرأة غير متزوجين. لكن بالنسبة للمدرسة التناسلية أعلاه، فإن الجنس الفموي شذوذ سواء كان بين أزواج أو لم يكن، لأن الحكم هنا ليس أخلاقيا ولا معياريا، بل حكم طبيعي، ينطلق من قياس مضمر على سلوك الحيوانات، مرتبط بنظرة محددة للغريزة الجنسية ونزوعها الطبيعي للممارسة الجنسية المؤدية للتكاثر.
هذا الرد أعلاه الذي وضّح الفرق بين معنى الشذوذ الذي زعمت أنا عدم وجوده في التراث وبين معناه الذي زعمه أيمن كاف لنقض كلام أيمن، لكني أريد أن أذهب لأبعد من ذلك وأقول أن كلا هذين المعنيين- المعنى الطبيعي للشذوذ والمعنى الأيمني للشذوذ- خطأ. ولنبدأ بالمعنى الأول. إن رفضنا لأطروحة إيبنج والتناسليين من أمثاله لمفهوم “الشذوذ الجنسي” لا ينطلق من رؤى ما بعد حداثوية، نسبوية القيم، مائعة، لا ترى بأن هناك أصل وطبيعة، كما يودّ أيمن أن يمني نفسه، بل تنطلق من اعتراض منهجي واضح. ومع أني في المقالة لم أتطرق لهذا الموضوع، ذلك أنه لم يكن غرضي منها اتخاذ موقف من هذه النظريات، ولكن الموضع الآن يدفع بهذا الاتجاه. إن المسلمة الرئيسة التي يقوم عليها كل البنيان النظري الذي تنتمي إليه مقولة الشذوذ الجنسي هي أن هناك في الإنسان شيء اسمه “غريزة جنسية” ذات طبيعة قهرية ومرتبطة ارتباطاً طبيعيا بالجنس المغاير وغرضها التكاثر. والسؤال البسيط هو: ما هو الدليل على هذا الزعم حول الغريزة الجنسية؟
إن النقد الذي وجهه سيجموند فرويد في هذه المسألة كاف في الموضوع. فميزة الاستشهاد بفرويد تكمن في أنه لم يرفض مفهوم الغريزة، بل انتقد الفهم السائد في عصره له من جانبين. فأولا ذكر أنه لا يوجد أساس تجريبي للزعم بأن هناك ارتباط طبيعي بين الغريزة الجنسية وموضوعها (والمقصود بالموضوع، الشخص الذي تتوجه إليه هذه الغريزة). بعد ذلك، قدّم فرويد نقده الثاني والمتعلق بأن في جسد الإنسان مواضع متعددة للإثارة الجنسية غير الفرج والذكر، وأن الرغبات الجنسية لا تتشكل لحظة البلوغ بل قبله. وهكذا، عبر فصل الغريزة الجنسية عن شكلها المثالي المدعى (أي الجماع أو اتصال الأعضاء الجنسية ببعضها)، وتوسيع انتشارها في الجسد، ألغى فرويد دون أن يعلم- كما بيّن ذلك الفيلسوف آرنولد ديفيدسون- الفواصل بين “الطبيعي” و”الشاذ”. ذلك أنه إذا لم يكن للغريزة الجنسية موضوع ويمكن الاستمتاع بأعضاء غير الذكر والفرج، فلماذا تكون المثلية والمازوخية والسادية وغيرها “شذوذا” طبيعيا؟ قد تكون أخلاقيا وذوقيا مستشنعة، لكن لا يمكن وصفها بالشذوذ بهذا المعنى الطبيعي الذي تولد المصطلح داخله.
لننتقل الآن للمعنى الذي قدمه أيمن. فإذا كانت الفطرة هي الإسلام، وكل ما يخالف الإسلام هو شذوذ. فهذا يعني أن كل ذنب أو معصية هي شذوذ حسب تعريفه وليس مقتصراً على “عمل قوم لوط”. فالكذب شذوذ، والغيبة شذوذ، والقتل شذوذ، والسرقة شذوذ، والزنا شذوذ…إلخ. وفي الحديث نجد أن “كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون”. وبناء على هذا الحديث، وبناء على تعريف أيمن للشذوذ، فإن هذا يعني أن كل انسان عند أيمن شاذ، بما في ذلك هو نفسه إلا إن كان يزعم أنه لم يخطئ أبداً في حياته. وهو طبعا يستطيع أن يلتزم بهذا اللازم، ويعتبر كل الناس شذّاذا، لكن عليه أيضاً أن يقر بأن هذا المعنى الغريب للشذوذ لا علاقة بينه وبين المعنى المقصود والذي عليه النقاش، وبأنه غير مسبوق له ولم يقل أحد قبله به.
طبعاً الأستاذ أيمن ليس غبيّاً، فهو تنبه لهذه المشكلة في تعريفه للشذوذ عند مناقشته لموضوع الزنا. فهو يقول: “نعم حتى الزنا سلوك يخالف الفطرة”، لكنه يضيف إضافة طريفة يقول فيها: “مخالفة الفطرة ليست على مرتبة واحدة”، ثم يعلن معتمدا على دليل عقلي وليس على دليل شرعي “كذلك اللواط فهو أبعد عن الفطرة من الزنا”. إلا أن قاعدة “درجات الشذوذ” هذه لا تخرجه من مأزق اعتبار كل مسلم شاذ حتى لو اختلفت درجة شذوذه. كما أنه سيعتبر المسلم الزاني أكثر شذوذا من المسلم الذي يكتفي بجنس فموي مع رجل مثله، لأن حرمة الزنا أكبر من حرمة الجنس الفموي مع رجل آخر. بل إنه لن يعتبر عشق الرجل لرجل مثله دون أي ممارسة جنسية شذوذاً، لأن هذا النوع من العشق ليس محرماً في الإسلام. وبهذا التعريف للشذوذ، فإن أجزاء من العلاقة التي نسميها اليوم مثلية لن تعتبر شذوذا عنده لأن هذه الأجزاء ليست محرمة، كالعشق والمساكنة مثلا.
في ختام هذه المقالة، أحب أن أسهل على أيمن مهمته لأن ينقض كلامي. فكل ما عليه أن يفعله هو التالي: أولا، عليه أن يثبت أني أقول- أو أن خالد الرويهب يقول- إن هناك تسامح في التراث مع المثلية بمعناها الحديث. ثانيا، عليه أن يقدم مبرراً منهجياً مقبولاً عن الانحياز لبعض الخطابات داخل مجتمع ما دون بعض عندما نريد الإجابة على سؤال: “هل الممارسة (س) مقبولة عند هذا المجتمع؟”. ثالثاً، عليه أن يثبت أن مفهوم الغريزة الجنسية الطبيعي هو نفسه مفهوم الفطرة الإسلامي، أو يثبت أن هذا المفهوم موجود في التراث الإسلامي، حتى لو لم يكن مرتبطاً بمفهوم الفطرة. فبدون هذا الإثبات، لا يستطيع إثبات أن معنى الشذوذ الجنسي موجود في التراث. أخيراً، عليه أن يثبت أن العشق العذري المثلي الذي لم يخالطه ممارسة جنسية بين رجل ورجل هو أكثر شذوذاً- حسب تعريفه للشذوذ- من الزنا.
السلام عليكم
ردا على حجتك على ايمن في اعتبار كل من خالف الفطرة فيعتبر شاذ، اتفق مع ايمن وايضا ارى توسعك في اطلاق اسم شاذ على كل بني ادم خاطئ، لأن التوسع وتحميل كلام الاستاذ ايمن باكثر من لا يحتمل فهو خاطئ من نظري، لان من اعتبر الكذب هو الاساس واعتبره منهجا للحياة فهو شاذ!. يتبع هذا القول في ان من يعمل ذنب ويستغفر ربه لا يمكن ان يتساوى مع من اتخذ هذا الذنب منهجا واساسا في حياته ويمارسه ويعنون نفسه على انه من فئة يعملون هذا الذنب.
اختصار للكلام هنا ان حجتك على ايمن حجة عليك، وهو اصّل في نظري بوعي منه او لا لكلمة شاذ على ممارسين المثلية، وغيرها من الذنوب التي لا يتوارى اصحابها من فعلها على الدوام.
وتقبل تحياتي استاذ سلطان.